لماذا تنهار العملات العربية أمام الدولار “المهيمن”؟

على وقع احتدام أزمة الركود التضخمي وارتفاع أسعار السلع والمواد الغذائية واضطراب سلاسل التوريد التي تضرب العالم، تكشفت هشاشة البنى الاقتصادية لكثير من الدول العربية، لا سيما في بلدان مثل لبنان ومصر والسودان وسوريا وتونس واليمن، مما فاقم من معاناة المواطنين بالتزامن مع انهيارات غير مسبوقة في سعر صرف العملات المحلية التي ترتبط بشكل كبير بالدولار الأميركي.

من بين مؤشرات كثيرة على حجم الضرر الذي أصاب اقتصادات تلك البلدان عما سواهم، يبقى سؤال العملة وتراجع قيمتها أمام العملات الأجنبية، وما إذا كان مرتبطاً بأبعاد اقتصادية فحسب أم باختلال في بنية الدولة وسياساتها المتبعة وقوانينها الحاكمة للمسار الاقتصادي، وذلك في وقت تجمع غالب التقارير وتحليلات للمؤسسات الدولية على مدى صعوبة وخطورة العام الجديد 2023، في مقابل فرص شحيحة للنجاة وتجاوز التحديات، مع سيطرة الغموض وعدم اليقين على الاقتصاد العالمي.

إجمالاً، وبحسب صندوق النقد الدولي، الذي حذر في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي من أن أكثر من ثلث الاقتصاد العالمي سيواجه انكماشاً العام المقبل، وأن هناك فرصة بنسبة 25 في المئة أن ينمو الناتج القومي الإجمالي العالمي بأقل من اثنين في المئة مما يعني تباطؤاً عالمياً، فإن البنوك المركزية في الأسواق الناشئة تواجه “مأزقاً حرجاً” مع اضطرارها إلى مواصلة التعامل مع متغيرات اقتصادية دولية خارجة عن سيطرتها، في حين تقول وكالة “بلومبيرغ” إنه مع ارتفاع معدلات التضخم، وتحرك المؤسسات المالية المحلية للتعامل معها، تتزايد أخطار حدوث أخطاء في السياسة النقدية، إذ تسير الاقتصادات النامية والناشئة على “حبل مشدود في محاولة لتحديد المستوى الدقيق لتكاليف الاقتراض”.

قيمة العملة من قوة الاقتصاد

على مدى العام الماضي، عانى مواطنو عديد من البلدان العربية بشكل مضاعف من تداعيات تراجع قيمة العملة المحلية أمام العملات الأجنبية وشح الدولار في الأسواق، فضلاً عن ارتفاع فاتورة الواردات الأساسية، وكلها عوامل انعكست سلباً على قدراتهم الشرائية، كذلك تأثرت بشكل خاص دول مثل مصر ولبنان وسوريا والسودان والعراق واليمن وغيرها من التشديد النقدي الذي نفذه البنك الفيدرالي الأميركي، بزيادة أسعار الفائدة سبع مرات في 2022 على الأموال الاتحادية، مما خلف تبعات على ارتفاع كلفة القروض والواردات المقومة بالدولار.

ويهيمن الدولار الأميركي على غالب التعاملات الاقتصادية حول العالم، ووفق بنك التسويات الدولية “بي أي أس” (منظمة دولية للبنوك المركزية)، فقد حظي الدولار الأميركي بأكثر من 88 في المئة من معاملات الصرف الدولية عام 2019، كما يسيطر على 60 في المئة من احتياطات العملات العالمية

وبحسب رشاد عبده رئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية، فإن هناك مجموعة من العوامل تحدد قيمة أي عملة في العالم، في مقدمتها العوامل الاقتصادية، بجانب العوامل السياسية والعسكرية أيضاً، موضحاً لـ”اندبندنت عربية” أن قيمة العملة ترتبط بالأداء الاقتصادي الحقيقي للدولة وقطاعاتها الإنتاجية والخدمية والميزان التجاري لها، كما تستند قيمة وقوة العملة أيضاً إلى حجم الاحتياطات النقدية والقدرة الإنتاجية والتصديرية للبلاد، وكذلك تتأثر بممارسات خطرة كالمضاربات على العملات وأوراق الدين، فضلاً عن العوامل السياسية الأخرى المرتبطة بالاستقرار والأمن ومعدلات الاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر، والقوانين والمناخ الجاذب لها.

وأمام اقتصادات عربية ريعية بشكل أساس تعتمد بنسب كبيرة على الاستيراد، ذكر عبده أنه “عندما تصدر دولة ما أكثر مما تستورد فإنها تحقق عائداً مالياً، وهذا يؤدي إلى زيادة الطلب على عملتها ويزيد من القيمة السوقية لها، لكن عندما تستورد أكثر مما تصدر فإن ذلك يؤدي إلى انخفاض الميزان التجاري وفي المقابل ميزان المدفوعات، ومن ثم انخفاض القيمة السوقية للعملة وربما انهيارها في حال تفاقم اختلال هذا الميزان، وهو الأمر الذي يدفع السلطات إلى زيادة اللجوء إلى القروض بالتالي زيادة الفوائد ومن ثم التضخم”، مضيفاً أن الظروف السياسية وتوقعات المستثمرين في شأن تدفق رؤوس الأموال نحو بلد ما أو خروجها منها بناءً على مستوى الاضطرابات السياسية تؤثر كذلك في قوة العملة المحلية.

عام العملات المنهارة

خلال العام الماضي، شهد عديد من العملات العربية انهيارات كبيرة وتراجعات غير مسبوقة في سعر صرفها أمام العملات الأجنبية، ويرجع المسؤولون تفاقم الأزمة الاقتصادية في بلدانهم أخيراً إلى التداعيات القوية التي خلفتها الحرب الروسية – الأوكرانية منذ اشتعالها في فبراير (شباط) 2022، بعد عامين من الركود على أثر تفشي وباء كورونا حول العالم.

ففي مصر خسر الجنيه المصري، بحسب إحصاء لـ”اندبندنت عربية”، أكثر من 43 في المئة من قيمته أمام الدولار الأميركي منذ مارس (آذار) الماضي، وانخفض على ثلاث موجات متتالية مارس 2022، وأكتوبر من العام نفسه، ويناير (كانون الثاني) 2023، من مستوى 15.6 جنيه للدولار إلى 28 جنيهاً، وثمة تقديرات تشير إلى تراجعات مرتقبة ليتجاوز سعر الدولار الـ30 جنيهاً، بعد أن كان أقل من ستة جنيهات قبل الأحداث السياسية التي شهدتها البلاد عام 2011 وقادت لإطاحة نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، مما يعني أن العملة المحلية فقدت منذ ذلك التوقيت نحو 79 في المئة من قيمتها.

وفي لبنان، شهدت العملة الرسمية (الليرة) تراجعات حادة منذ نهاية 2019. أضافت تداعيات كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا أعباء أخرى عليها، إذ خسرت العملة، وفق إحصاء “اندبندنت عربية”، أكثر من 95 في المئة من قيمتها، وانخفضت قيمة صرفها من 1500 ليرة للدولار لتتجاوز حاجز 45 ألف ليرة، وخيمت على لبنان أزمة سياسية على صعيد التوافق بين الفرقاء قادت إلى دخول البلاد في أزمة اقتصادية حادة دفعت المواطنين إلى التظاهر في نهاية 2019.

أما السودان، ومنذ الاضطراب السياسي الذي تشهده البلاد عقب إطاحة نظام الرئيس الأسبق عمر البشير في أبريل (نيسان) 2019، ووقوع اختلافات كبرى بين المكونين المدني والعسكري على السلطة، فضلاً عن توقف الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وتجميد غالبية برامج المساعدات الخارجية، خسر الجنيه السوداني أكثر من 89 في المئة من قيمته، وقفز سعر صرف الدولار من 45 جنيهاً سودانياً عام 2019 إلى نحو 579 جنيهاً.

وكانت الأوضاع أشد حدة في البلدان التي تشهد حروباً وصراعات كما هي الحال في سوريا التي خسرت عملتها منذ عام 2011 أكثر من 99 في المئة من قيمتها، وتجاوز سعر صرف الدولار أمام الليرة السورية حاجز ستة آلاف ليرة، بعد أن كان نحو 47 ليرة قبل الحرب.

أما اليمن فتعكس أسعار صرف الريال اليمني مدى عمق الأزمة السياسية والاقتصادية في هذا البلد، حيث يتم تداول العملة المحلية بسعرين للصرف، أحدهما في عدن وحضرموت جنوباً، وآخر في صنعاء شمالاً والتي يسيطر عليها الحوثيون منذ عام 2014، وإجمالاً خسرت العملة المحلية نحو 83 في المئة من قيمتها، بعد أن كان الدولار لا يتجاوز حدود الـ230 ريالاً يمنياً عام 2015.

يشدد المتخصصون في الاقتصاد على أن انخفاض قيمة العملة قد يحمل نتائج إيجابية في بعض الأحيان لا سيما للدول والاقتصادات ذات القدرة التصديرية، لكن يبقى الوضع مختلفاً بالنسبة إلى الاقتصادات العربية النامية والناشئة، نظراً إلى اختلال ميزان مدفوعاتها وزيادة الواردات بشكل مزمن على الصادرات، مما يعني أن انخفاض قيمة العملة يزيد من الأعباء المعيشية للمواطنين، فضلاً عن زيادة معدلات التضخم، بالتالي انخفاض قيمة ثروات الأفراد.

وبحسب رشاد عبده فإنه “على صعيد الاقتصادات النامية تزداد الآثار السلبية لتراجع العملة، مثل ارتفاع قيمة الواردات السلعية، وتباطؤ حركة النشاط الاقتصادي لدى المؤسسات التي تعتمد على استيراد مستلزمات الإنتاج والعدد والآلات، فضلاً عن تأخر وصول السلع الضرورية، إضافة إلى شيوع ظاهرة الدولرة والمضاربة بالعملة في الأسواق السوداء مما يزيد من الضرر للاقتصادات الوطنية”.

لماذا تنهار العملات العربية؟

لم تكن تبعات عامي أزمة الجائحة وبعدها الحرب الروسية – الأوكرانية وما تبعهما من أزمات التضخم والطاقة وسلاسل الإمداد وأسعار السلع، فضلاً عن قرارات الاحتياطي الفيدرالي الأميركي برفع سعر الفائدة، هي وحدها التي قادت إلى تراجع العملات المحلية في الدول العربية، فهناك عوامل داخلية إضافية بعضها متعلق بحال عدم الاستقرار السياسي والأمني والبيئة الاقتصادية ومناخ الاستثمار في هذه الدول.

ففي مصر، وبحسب المراقبين تأثر سعر صرف العملة المحلية المصرية خلال العام الماضي بسبب مجموعة من الأسباب، من بينها تداعيات أزمتي كورونا والحرب الروسية، فضلاً عن خروج الأموال الساخنة من الدولة وتأثر القطاع السياحي (أحد مصادر العملة الصعبة في البلاد) وعزوف الاستثمارات الأجنبية الطويلة الأجل عن الولوج إلى السوق المحلية أمام إنفاقات ضخمة تنتهجها السلطة على المشروعات القومية، مما أثار انتقادات في شأن أولويات الإنفاق العام، والتوجه الحكومي المستمر إلى الاقتراض لمواجهة الأزمة، حتى بات حجم الديون الخارجية لمصر قريباً من 177 مليار دولار، في حين أنه لم يزد على 140 مليار دولار عام 2021، وشكل الدين العام المصري حالياً 89 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً لمؤسسة التجارة الخارجية الألمانية للاستثمار والتجارة.

وفي الحال السورية واللبنانية والسودانية واليمنية كانت الاضطرابات السياسية والأمنية ومناخ عدم الاستقرار وعدم اليقين المهيمن على المشهد الاقتصادي من بين الأسباب الرئيسة التي قادت إلى انهيار العملة الوطنية، لا سيما أن هذه الدولة تعتمد بشكل ملحوظ على العوائد الريعية والمساعدات الخارجية، ولم تنجح في التحول إلى اقتصادات إنتاجية.

كذلك، ووفق الهياكل الاقتصادية لتلك البلدان العربية، فإن هناك محدودية في المصادر الرئيسة للعملة الصعبة في البلاد، فمثلاً تعتمد كل من مصر (بجانب عوائد المرور بقناة السويس) ولبنان وسوريا بشكل رئيس على عوائد السياحة وتحويلات العاملين بالخارج، وصادرات غالب تلك الدول هي صادرات مواد خام أو صادرات تقليدية، كما تعتمد دول مثل لبنان والسودان واليمن على المساعدات الإقليمية والدولية بشكل رئيس منذ عقود.

وقادت الحرب والصراعات في دول مثل سوريا واليمن إلى فقدان مصادر رئيسة من الدخل الأجنبي، ففي الحال السورية، فقدت دمشق مواردها من السياحة، وكذلك تدفقات العاملين بالخارج، فضلاً عن خروج أموال مواطنيها الذين أجبرهم الصراع على الهجرة للخارج، مما أدى إلى زيادة الطلب على العملات الأجنبية، والضغط على سعر صرف العملة المحلية، وفي اليمن كذلك، تأثرت بشكل كبير صادراته من المواد الخام جراء النزاع المسلح الدائر فيه منذ عام 2014.

وتعاني هذه الدول بشكل كبير عجزاً في ميزان المدفوعات، مما يزيد الضغط على العملة المحلية، وبحسب إحصاءات البنك المركزي المصري، فقد سجل ميزان المدفوعات عجزاً بلغ نحو 10.55 مليار دولار خلال العام المالي (2021-2022)، في حين بلغ عجز ميزان المدفوعات اللبناني عام 2021 نحو ثلاثة مليارات دولار، وسجل السودان عجزاً عام 2021 بنحو 2.9 مليار دولار، وفق بيانات البنك الدولي.

ومع عدم توافر البيانات الحديثة بسبب الصراع، سجل اليمن، وفق بيانات البنك الدولي، عجزاً بميزان المدفوعات عام 2016 بلغ أكثر من 2.4 مليار دولار، فيما كانت آخر بيانات مسجلة بالنسبة إلى سوريا عام 2010 تقضي ببلوغ عجز ميزان المدفوعات 367 مليون دولار.

عامل إضافي داخلي يؤثر في سعر صرف العملة المحلية تشير إليه الباحثة السورية في الاقتصاد الدولي إسراء العبدي، ويتمثل في البني الهيكلية لاقتصادات تلك الدول، ومؤشرها في محاربة الفساد، وتصنيف بعضها في المؤشرات الدولية من بين الاقتصادات عالية الخطورة، حيث حلت دول مثل اليمن وسوريا والسودان ضمن أكثر عشر دول فساداً في العالم، وفق مؤشر مدركات الفساد الصادر عن مؤسسة الشفافية الدولية لعام 2020. وكذلك عانت دول مثل لبنان ظاهرة هرب الأموال إلى الخارج، مما أدى إلى تراجع المعروض من النقد الأجنبي في الأسواق المحلية، مضيفة “إدراك المسؤولين حجم الأزمات الاقتصادية والتعاطي معها بشكل مبتكر يبقى جزءاً من التحدي كذلك”.

وفي الحال اللبنانية، كان لافتاً العام الماضي أن أزمة النقد الأجنبي قادت إلى عجز المصرف المركزي عن سداد التزاماته الخارجية، وانعكس ذلك على وضع المصارف المحلية، مما أدى إلى عدم الوفاء بمسحوبات أصحاب الودائع، وذلك في وقت تبادل فيه المصرف المركزي والحكومة المسؤولية عن الأزمة.

ترى العبدي أنه “عند الحديث عن تراجع العملات الوطنية في البلدان العربية، علينا التفرقة بين الدول التي تشهد نزاعات مسلحة أو اضطرابات سياسية مستمرة، والدول الأخرى التي تعتمد على النفط في أدائها الاقتصادي، فالأولى ستستمر عملاتها في الانهيار إلى أن تستقر أمنياً وسياسياً، أما الثانية فيتحدد موقف عملتها على تحسن أسعار النفط في السوق الدولية وزيادة مواردها من النقد الأجنبي”.

عوامل خارجية فاقمت الأزمة

أضافت تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية، وما خلفته من أزمات على الصعيد الاقتصادي العالمي، تحديات أمام العملات العربية التي تعاني أصلاً بسبب مشكلات بنيوية وهيكلية في اقتصاداتها، ولعل قرار البنك الفيدرالي الأميركي برفع الفائدة لأكثر من مرة العام الماضي زاد من المصاعب التي تواجه عملات الأسواق الناشئة والنامية، فضلاً عن ارتفاع كلفة القروض والواردات المقومة بالدولار.

في مقاله المنشور، يوليو (تموز) الماضي، بمجلة “فورين أفيرز”، جادل جيان ماريا ميلسي فرريتي الزميل الأول في مركز هتشينز للسياسة المالية والنقدية التابع لمعهد “بروكينغز” والنائب السابق لمدير إدارة البحوث في صندوق النقد الدولي، بأن رفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة يمكن أن يكون له “تأثيرات مدمرة” على الأسواق الناشئة والبلدان النامية، التي تعتمد في الغالب على الدولار في الاقتراض الدولي، موضحاً أن رفع معدلات الفائدة لن يقتصر أثره على أميركا، إذ إن معدلات الفائدة العالية من شأنها أن ترفع كلفة الاقتراض بالدولار في الأسواق العالمية، كما تزيد أيضاً من الطلب على الأصول الدولارية مقارنة بالأصول من العملات الأخرى، وعليه فإنها تتسبب في انخفاض قيمة العملات الأخرى، وتجعل من مهمة سداد الديون بالنسبة “أمراً مكلفاً للغاية”.

فرريتي تابع أن العواقب تبقى وخيمة كذلك على البلدان ذات الدخل المتوسط والمنخفض، خصوصاً تلك التي ما زالت تعاني جراء الآثار الاقتصادية للجائحة، ووخيمة كذلك على البلدان المستوردة للغذاء والطاقة اللذين ارتفعت أسعارهما ارتفاعاً كبيراً بسبب الحرب في أوكرانيا، وعليه فمن المرجح أن تشهد تلك البلدان مزيداً من الضغط بسبب الديون مع تعويم كبير في عملاتها، الأمر الذي يعوق نموها الاقتصادي ويجعل الحد من نسب الفقر بالنسبة إليها أمراً عسيراً.

واستطرد “تحل زيادات الفائدة الأميركية في زمن عصيب، إذ كان على البلدان الفقيرة، لتخفيف آثار الجائحة، أن تستدين أكثر، وبسبب تراجع النشاط الاقتصادي أثناء الجائحة، فإنها تكافح الآن لتسديد الديون، فقد شهدت الاقتصادات القائمة على السياحة مثلاً جفاف منبعها الأساسي للإيرادات الخارجية، كما تواجه كثير من الاقتصادات الناشئة والنامية تضخماً محلياً ناجماً عن اضطرابات الإنتاج المتعلقة بالجائحة والارتفاع في أسعار الغذاء والطاقة عالمياً، والحال أن ارتفاع أسعار الغذاء بالتحديد يشعل نيران التضخم في تلك الاقتصادات، إذ ينفق الناس حصة كبيرة من دخلهم على المواد الأساسية، وهي حصة أكبر من تلك التي ينفقها الناس على الغذاء في الاقتصادات الغنية، أضف إلى ذلك أن ارتفاع أسعار الغذاء من شأنه أن يذكي نيران الاضطرابات الاجتماعية”.

كذلك كتب جهاد آزعور مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي ووزير المال اللبناني الأسبق، على مدونة صندوق النقد الدولي. يقول إن ارتفاع أسعار السلع الأولية، الذي تفاقم بفعل الحرب في أوكرانيا قاد إلى آثار اقتصادية هائلة على المنطقة، موضحاً “يعد ارتفاع التضخم أحد أكثر الآثار مباشرة لتزايد أسعار السلع الأولية، وتمثل أسعار الغذاء نحو 60 في المئة من ارتفاع التضخم الكلي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ما عدا بلدان مجلس التعاون الخليجي”.

وتابع “كثير من اقتصادات المنطقة يعتمد بدرجة كبيرة على شحنات الأغذية الأجنبية (نحو خمس مجموع الواردات)، كما يشكل الغذاء وزناً ترجيحياً كبيراً في سلة الاستهلاك (أكثر من الثلث في المتوسط)، ويزداد هذا الوزن في حال البلدان المنخفضة الدخل، وكذلك أدت الحرب إلى تصاعد مخاوف انعدام الأمن الغذائي بسبب اعتماد المنطقة على واردات القمح من روسيا وأوكرانيا وارتفاع الأسعار، مما زاد من صعوبة تحمل كلفة الغذاء بالنسبة إلى المواطنين”، موضحاً “الوضع مقلق للغاية في الدول الهشة المتأثرة بالصراعات”.

عامل آخر خارجي قاد إلى تراجع العملات الوطنية في المنطقة هو، بحسب الباحث المصري في الاقتصاد الدولي محمد جاد، يتمثل في “الدور الذي تلعبه مؤسسات التصنيف الائتماني الدولية في توجيه المستثمرين”، موضحاً لـ”اندبندنت عربية” أنه “بجانب التحديات التي خلفتها الحرب ورفع الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة، تلعب مؤسسات التصنيف الائتمانية الدولية دوراً مهماً في تراجع العملات الوطنية في الدول العربية”.

وتابع “ترتبط العملات بالأوضاع الاقتصادية والسياسية، وغالب الأسواق الناشئة حول العالم لديها أزمة على صعيد العملة الوطنية في الوقت الراهن، لكن تبقى قدرة تلك الاقتصادات على النفاذ داخل أسواق الدين أحد المحددات الرئيسة في تحديد سعر أية عملة”.

وأضاف “قدرة دول المنطقة على دخول أسواق الدين محكومة بشكل كبير بالرؤية السياسية والاجتماعية لمكاتب التصنيف الدولية”، مشيراً إلى أن كل التقييم العائد على الديون في دول المنطقة مرتبط بشكل كبير برؤية وكالات التصنيف الدولية.