المنظومة تلهث خلف صكّ غفران وعفو مالي وتصفير لمسؤوليتها عن الإنهيار

أنهكت الدولة العميقة البلد ومؤسساته على امتداد 3 عقود ونيّف، وأوصلته الى القعر الذي لا قعر له. وها هي راهنا تتحدى طبيعة النظام اللبناني وميزته الميثاقية وتفرّده في العالمين العربي والإسلامي، باستنكافها عن انتخاب رئيس للجمهورية وتغطية اجتماعات حكومة تصريف الأعمال، والأخطر التطبيع الممنهج مع الفراغ الرئاسي.
مع ذلك، تُتهم القوى السياسية والحزبية المسيحية، والمارونية على وجه الخصوص، بتعطيل انتخاب الرئيس بذريعة أنها تختلف على مقاربة رئاسية مشتركة وأنها لم تتفق على إسم واحد.
لكن واقع الحال مغاير تماما. فحزب الله، بوصفه الناخب الأكبر والمرجِّح والأكثر تأثيرا، وضع في طليعة مواصفاته الرئاسية “عدم طعن المقاومة في ظهرها”، وحصر ترشيحه غير المعلن برئيس تيار المردة سليمان فرنجية، الى أن يقضي الله امرا كان مفعولا أو في انتظار أن يملّ فرنجية نفسه من الترشّح. رغم ذلك، يلقي الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله مسؤولية الفراغ الرئاسي على القوى المارونية. بدا في خطابه ما قبل الأخير كأنه يقول إن اتفاق المسيحيين على اسم يعني حكما اصطفاف باقي القوى والطوائف خلف توافقهم. غير أن هذا اللبس عاد وأزاله بنفسه حين كرر مواصفة الرئيس الذي لا يطعن. إذ قال في خطابه الأخير مساء الخميس: “نُصرّ على أنه عندما نتكلم برئيس ‏جمهورية، لسنا نُفتش عن رئيس لنقطّع 6 سنوات، الـ 6 سنوات المقبلة ‏بالنسبة لحياة اللبنانيين ومصير لبنان والدولة اللبنانية والشعب اللبناني هي سنوات ‏مصيرية (…) نريد رئيساً اذا نفّخوا عليه الأمريكان ما يطير من قصر بعبدا يصير بالبحر المتوسّط، يعني نريد رئيساً “عندو ركاب”، ‏نريد رئيساً شجاعاً، نريد رئيساً عنده استعداد للتضحية، نريد رئيساً إذا هدده ‏الامريكان ورأى أن هناك مصلحة وطنية كبرى ما تفرق معه تهديد الأمريكان”.
ينسحب الأمر، مع فارق الدافع والتشبيه، على باقي القوى المسلمة التقليدية، وتحديدا التآلف السياسي الرباعي. صوّبت تلك القوى على إمتداد السنوات الستة الفائتة على ما اعتبره المسيحيون ثابتة الرئيس الممثِّل في بيئته والمنبثق منها. لم تفوّت فرصة أو سانحة من أجل التنكيل بمواصفة “الرئيس القوي”، سخريةً وتنمّرا سياسيا غير مسبوق، ولم توفّر مناسبة لتعطيل بلد بكامله انقلابا على تلك المواصفة. هي في ذلك تريد استعادة رئيس للجمهورية بلا لون أو طعم، حلزونيّ، زئبقي، طيّع، قابل للطيّ، من صلب منظومة الدولة العميقة، يتآلف وحاجاتها، لا يعيق توسّعها، والأهم يغطّي عوراتها وارتكاباتها ويمنحها ما تلح عليه راهنا: صكّ غفران وعفو مالي عام وتصفير لمسؤوليتها المباشرة والحصرية عن الإنهيار.

بين مواصفتيّ الرئيس الممثّل والرئيس الدمية، حصل الاصطدام الكبير. تعطّل الانتخاب في مجلس النواب المتشظي بين مجموعة أقليات، فعوّم التآلف الرباعي حكومة تصريف الأعمال وجعل رئيسها قائم مقام رئاسة الجمهورية نصا وممارسة، وسجّل سابقة على مستوى الفراغ الرئاسي تاريخا ومستقبلا، وتجاوز الميثاقية رغم الإعتراض المسيحي الصارخ السياسي والروحي.
ولما رفعت الصوتَ البطريركية المارونية، بمن وما تمثّل وجدانا وضميرا، واعترضت على إصرار التآلف الرباعي على انعقاد جلسات الحكومة، أتاها من جانب رئيس حكومة تصريف الأعمال من يؤنّبها ويسوْسها ويدلّها الى الطريق الصواب بأن “ليكن كلامكم نعم نعم أو لا لا”. لم يرق له بيان الأساقفة، وعاب عليهم إفتاءهم بالدستور وبعدم صوابية أو قانونية آلية الحكم الأوحد التي يعتمدها رئيس حكومة تصريف الأعمال. واتهمهم بتزكية الانقسام السياسي والطائفي (كذا!) لمجرّد التعبير عن هاجس يقلق جماعة بأمها وأبيها، هاجس تفريغ المراكز المسيحية، بعد الرئاسة، الواحد تلو الآخر. وأنهى المؤنِّب عظته بأن حمّل الموارنة، كما السيد، مسؤولية الفراغ الرئاسي، وإتهم البطريرك مار بشارة بطرس الراعي بالانقلاب على مداولات الخلوات الثلاث مع ميقاتي الذي بات واضحا أنه قدّم في المرّات الثلاث ما لم يلتزم به لاحقا، حتى لا يُقال أكثر.
هكذا تحوّلت البطريركية المارونية، بين ليلة وضحاها، محرّضة على الفسق السياسي والوطني، داعية انقسامات طائفية، جاهلة الأصول الدستورية. وهكذا تحوّل الغضب الساطع من التيار الوطني الحر الى شخص البطريرك لأنه استشاط غيظا ممن حوّل النَعَمَ في بكركي الى لاء خارجها!