ورغم مرور عقود على استهداف ذلك المشروع العراقي الجريء، ما زالت تتكشف بين فينة وأخرى خفايا كثيرة منوطة به، وآخرها التقرير الذي نشرته صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، تحت عنوان “عصر جديد”، والذي كشفت فيه عن عشرات العمليات السرية التي نفّذها جهاز الموساد من خلال تجنيد عملاء عرب وأجانب أو استهدافهم لمنع بناء مفاعل “تموز” النووي العراقي.
وبعيدا عن الجدل الدائر حول سلمية النووي العراقي ومدى مشروعيته، فإنه أظهر في وجهه الآخر قدرات العلماء العراقيين والعرب وإمكاناتهم الفريدة في هذا المجال الحيوي.
بدايات البرنامج
ويبيّن أن مرحلة جديدة في السياسة الخارجية العراقية بدأت بعد ثورة تموز وامتازت بالتوجه نحو المعسكر الشرقي، إذ تم التعاقد مع الاتحاد السوفياتي حينئذ لتزويد العراق بمفاعل نووي للأغراض السلمية، وقد نصب هذا المفاعل في منطقة التويثة جنوبي بغداد ودخل الخدمة عام 1967.
ويشير إلى أن القيادة العراقية سعت منذ بداية السبعينيات إلى تطوير وتوسيع قدرات العراق النووية، فتوجهت إلى فرنسا بهدف الحصول على القدرة النووية، وبالفعل تم الاتفاق مع الجانب الفرنسي على تزويد العراق بمفاعلين نوويين أطلق عليهما “تموز 1″ و”تموز 2” للأغراض السلمية، وقد بلغت قيمة العقد 275 مليون دولار، كما حاول العراق الحصول على الخبرة النووية من دول أخرى مثل البرازيل وكندا.
وينوه تركي إلى أن النشاط العراقي والنجاح في التعاقد مع فرنسا أثار مخاوف إسرائيل التي بدأت وضع الخطط والإستراتيجيات من أجل إجهاض البرنامج العراقي.
قدرات عراقية
ويقول الخبير العسكري العراقي اللواء الركن علوان حسون العبوسي إن النووي العراقي شهد تشكيل فريق من العلماء العراقيين والعرب، لإجراء الحسابات المفاعلية والبيوترونية وكيفية توزيع الوقود في قلب المفاعل، وكانت العقول العراقية تمتلك القدرة على إجراء تلك الحسابات المعقدة.
وأضاف أن العلماء العراقيين أظهروا قدرة كبيرة في المجال النووي، وحين العمل على بناء المفاعل في منطقة التويثة في منتصف السبعينيات واجهت أعمال صب الأساسات وبناء حوض المفاعل مشكلات جمة منها المياه الجوفية، لكن المهندسين العراقيين حرصوا على إنجاز العمل بأعلى المواصفات، إذ ظهرت شقوق خفيفة في جدار حوض المفاعل وبينما قبل بها الفرنسيون أبدى المهندس العراقي عبد الرحمن رسول ملاحظاته حول الشقوق وأُوقف العمل حتى إصلاح الشقوق.
ويبيّن العبوسي أن إسرائيل أصبحت بعد ذلك ترى الوضع خطيرا عليها، حيث يمتلك العراقيون الخبرات المختلفة بأعمال الهندسة والتشييد للمفاعل غير مبالين بخطوط إسرائيل الحمراء، فأقدمت إسرائيل على اغتيال المهندس الاستشاري رسول عام 1980.
ويضيف اللواء الركن أنه تم تشكيل فريق خاص تزامنا مع البدء بالخطة الإستراتيجية لإنشاء المفاعل، مهامها البحث الفني للأجهزة والمنظومات الهندسية، وكان على رأس الفريق الدكتور المهندس سلمان رشيد سلمان، لكن إسرائيل كانت تخشى من عمل هذا الفريق الذي قد ينافس الدول المنتجة للأجهزة العلمية المتقدمة، فأقدمت على تسميمه في جنيف خلال زيارته العلمية لمركز البحوث الأوروبي “سبرن” عام 1981.
ويشير العبوسي إلى أن أغلب الكفاءات والعلماء العاملين في البرنامج النووي العراقي قد هاجروا في مختلف دول العالم، وبعضهم تعرضوا للاغتيال داخل العراق وخارجه.
دور العرب
ويضيف الجنابي أن دور العلماء العرب في البرنامج النووي العراقي كان مهما رغم قلة عددهم، فقد استُقدموا من سوريا ومصر وفلسطين وغيرها من الدول العربية.
وينوه إلى أن من أبرز العلماء العرب الذي عملوا في البرنامج النووي العراقي الدكتور يحيى المشد أحد العلماء المصريين، كان متخصصا في الحسابات النوترونية، من العلماء المرموقين، واغتاله “الموساد” في باريس عام 1980، بالإضافة إلى الدكتور محمود من مصر، وزوجته عائشة، والدكتور نبيل نصر الله من سوريا، وآخرين غيرهم.
ويؤكد الرئيس السابق لهيئة الطاقة الذرية العراقية حصول العلماء النوويين على مخصصات خطورة وحوافز عديدة، إضافة إلى منحهم فرصة حضور المؤتمرات العلمية وكذلك التدريبية.
ويعرب الجنابي عن اعتقاده بأن البرنامج العراقي كان الأكثر تقدما في المنطقة، وأريد لهذا المشروع فتح أبوابه أمام العلماء العرب للعمل فيه حسب الاختصاص، في مختلف مجالات البحوث الزراعية والطبية والصناعية وغيرها.
ويؤكد وقوع عمليات تصفية واغتيال شملت العلماء العراقيين والعرب من العاملين في البرنامج النووي العراقي، وتفيد الإحصائيات بمقتل نحو 3 علماء عرب وأكثر من 125 عالما نوويا عراقيا، فضلا عن تعرض كثيرين لمضايقات وضغوط بسبب طبيعة تخصصهم، حسب الجنابي.
تحركات إسرائيلية
ويضيف أن إسرائيل عندما اكتشفت مساعي العراق لتطوير الصناعة النووية سلكت جميع الطرق لتدمير البرنامج النووي واستهدفت العلماء الذين أشرفوا عليه، وكان على رأسهم العالم المصري يحيى المشدّ، ثم هاجمت مفاعل تموز ودمرته عام 1981.
ويكشف الجميلي أنه أثناء عمليات التفتيش الأممية الخاصة بتدمير أسلحة الدمار الشامل في تسعينيات القرن الماضي فوجئت أجهزة المخابرات الأميركية والإسرائيلية بالتقدم الذي أحرزه العراق في المجال النووي وكيف استطاع العراق بهذه القوة تضليل أجهزة المخابرات الأجنبية.
ويوضّح أن تقديرات مجمع الاستخبارات الأميركي عام 1989 رجّحت عدم قدرة العراق على تطوير سلاح نووي، وكان ذلك يعدّ فشلا كبيرا للموساد الإسرائيلي والمخابرات الغربية التي لم تكتشف تلك الجهود، ومن ذلك يمكن التأكيد أن إسرائيل فشلت في تدمير قدرات العراق الرامية إلى إنتاج سلاح نووي.
ويتابع “المفاجأة الأخرى هي أن لجان التفتيش لم تكتشف برنامجا نوويا سريا ومنشأة من أهم منشآت التصنيع النووي في قضاء الطارمية شمال بغداد حتى عام 1995، بعد أن كشف المنشق الفريق حسين كامل عن الوثائق الخاصة بالمنشأة والبرنامج النووي عندما أعلن في عمّان عن وجودها مخزونة في حقل دواجن بمنطقة الصويرة في واسط، وهو ما دمّر مصداقية العراق وأعاده إلى نقطة الصفر”.
من جانبه، يؤكد الخبير الأمني والإستراتيجي فاضل أبو رغيف أن بدايات البرنامج النووي العراقي سبقت مجيء النظام البعثي، لكن العمل الحقيقي ابتدأ عام 1979، عند نصب المفاعل النووي، لتشرع إسرائيل في عمليات استهداف البرنامج العراقي وقصف المفاعل النووي في مطلع الثمانينيات، وتنفيذ سلسلة اغتيالات استهدفت علماء الفيزياء النووية من عراقيين وعرب.
ويعدد أبو رغيف أبرز العلماء العراقيين في البرنامج النووي العراقي، وهم: خالد السعيد وسلمان اللامي وظافر سلبي وضياء جعفر، لافتا إلى أن هؤلاء كان لهم دور كبير.
ويعرب عن اعتقاده بأن العراق لديه قوة صناعية ونفطية ويمتلك موارد بشرية كبيرة شكلت قلقا على الموساد ودفعته إلى استهداف البرنامج والقائمين عليه. (الجزيرة)