يتبدّى احتلال تفكير شعب ما والتحكّم به، وسيلة يبرع في استخدامها الفاشيّ ،سواء كان سياسياً أو دينياً أو الاثنين معاً، بهدف شلّ التحليل العقلانيّ، والاقتصاص من قدرة الفرد على اتخاذ أيّ موقف، لا يتناغم مع مجموع أو “زُمَر” الموالين. كما هو الحال في لبنان، يتمّ التعامل مع أي قضية انسانية، على أنها رأسمال سياسيّ أو طائفيّ يأتي طرح المسائل السطحية أو الثانوية على أنها وطنية، وعرضها على أنها مصيرية ليصبّ في مصلحة تأطير الفكر، وتوجيهه نحو مصالح نظام فاشي، يجهد في كلّ مرة إلى قمع من يتمرّد عليه من مواليه، ويخرج من قطيعه بهدف اقتياده مرة أخرى إلى “القطيع”. في مقابل ذلك، وكما هو الحال في لبنان، يتمّ التعامل مع أي قضية انسانية، على أنها رأسمال سياسيّ أو طائفيّ، يجري توظيفه في سبيل زرع الفتن بين أبناء الشعب الواحد، بهدف “تنحيتهم” عن المطالبة بحقوقهم كمواطنين، ليصار بعدها إلى تجذّر ايديولوجية “منافقة”، باعتبارها تحترم، ظاهرياً، العيش الواحد من جهة، و من جهة أخرى تتمسّك بالموروث الرجعي و الديني، ضمنياً، وتعمد إلى تجييش مواليها ضد الاختلاف. إذا ما قاربنا الواقع اللبناني، لوجدنا “النفاق” الايديولوجي هو سيد الموقف!…
و لا يتجلّى هذا النفاق، فقط، في الخطاب وإنما أيضاً في الممارسة، بهدف تحويله إلى “آفة” أو “فيروس”، إن جاز التعبير، تنتقل عدواه من ذهن إلى آخر. تُسهم الهوية الجماعية اللاوعية في تكريس “الغرائزية” تتبدّى الخطورة أكثر، في أنه عندما ينقسم اللبنانيون إزاء قضية بين مؤيّدين ومعارضين، فإننا لا نلحظ أي تباينات فردية ضمن الفريق الواحد. وكأن هذا الانقسام يتجذّر، بعد عملية “صهرٍ” للتفكير الفردي و صبّه في قالب واحد، بحيث تذوب هوية الفرد الخاصة، فتشكّل مع هويات الآخرين المنصهرة، هوية جماعية لا واعية، لتسهم بعد ذلك في تكريس الجهل، الذي يتجلّى في حرمان الفرد، من كلّ ما يمكن أن يساعده على التفكير العقلاني والتحليل . بمعنى آخر، تُسهم الهوية الجماعية اللاوعية في تكريس “الغرائزية”. أيضاً، في الواقع اللبناني نلحظ انقضاضاً على وعي الشعب، بما هو ممارسة لسلطة عاجزة فقدت مصداقيتها، من خلال فشلها المستمرّ في إدارة مؤسسات الدولة، وانتهاكها لأبسط حقوق المواطن، و أيضاً في تبعيّتها لخارج انقضّ على سيادتها أو توسلته. وتتعمّد هذه السلطة إلحاق الغبن بمواطنيها، في كلّ مرة تعجز فيها عن حلّ المشكلات المصيرية، التي تنهك كاهلهم،
خصوصاً بعد أن راكمت سنوات من الفشل و الفساد بأشكاله كافة، لذا فإنها تضع الخارج بينها و بين هؤلاء، و توهمهم أنّ هذا الخارج هو سبب “البلاء”، لما يقوم به من حصار، و بأنه يحمل الحل بين يديه!… لقد برعت هذه السلطة، وما زالت، في تمرير الاجراءات، التي يمتنع الشعب عن القبول بها، عن طريق تطبيقها تدريجياً، إلى أن يجد نفسه مقتنعاً بها، أو يرضى بالأمر الواقع. بمعنى آخر، لقد نجحت بفضل “خبثها”، في تجاوز مقاومة المواطنيين لإجراءات رفضوها سابقاً. لم يأتِ “التغيير” ليشكّل نموذجاً يُقتدى به، فهو في نماذجه المتصدرة يبقى “شعبوياً” و نوابه هم نواب “صدفة”! فوق كل ذلك، كما يُقال، فإنها تسعى دائماً إلى تعزيز شعور المواطن بمسؤوليته، عن ما آل اليه حاله، عبر تحميله اسباب ما وصلت إليه احوال البلاد من انهيار في المؤسسات، و اضطراب في الأمن …. وما إلى هنالك من “مصائب” إذا ما أردنا تناول واقع السلطة في لبنان، بشكل أعمق و أوسع و أكبر، لوجدنا انها تشكّل “مثالاً “سيئاً يحتذى به في الفساد و الفتن و التحريض!… في المقابل، لم يأتِ “التغيير” ليشكّل نموذجاً يُقتدى به، فهو في نماذجه المتصدرة يبقى “شعبوياً” و نوابه هم نواب “صدفة”!…