الدكتور وجيه فانوس
حدّد الأفغاني، بصورة عملية وواقعية مميّزة، الأسس التي تقوم عليها دعوته إلى الوحدة الإسلامية. ولعل من أبرز هذه الأسس ذهابه إلى أن من واجب الأحزاب السِّياسية ومصالح الجماعات الحاكمة أن تتضامن فيما بينها لخدمة الإسلام. ومنها أيضا أن الوحدة الإسلامية ليست في ذلك التعاون الذي يمكن أن يقوم على مستوى القيادات السياسية والدينية، وفيما بينها؛ بل هي، كذلك، في تضامن الأمة جمعاء. أما الهدف السياسي والحضاري للوحدة الإسلامية، الذي يسعى إليه السيد جمال الدِّين الأفغاني، فهو في تمكين الأمة الإسلامية، بالدرجة الأولى، وسائر أهل الشرق، على الوقوف في وجه الاستفزاز والعدوان الذان كان يمثلهما التوسُّع الأوروبي زمنذاك.
مارس السيد جمال الدِّين الأفغاني دعوته إلى هذه الوحدة الإسلامية، عبر موقف ريادي واسع الأفق. لقد توجَّهَ إلى المسلمين في بلاد فارس والأفغان طالبا منهم العمل على تحقيق الوحدة مهما تنوّعت أو تعددت مذاهبهم وفرقهم الإسلامية. ويرى السيِّد جمال الدِّين الأفغاني، في هذا المجال، أن «(الفرس والأفغان) طائفتان هما فرعان لشجرة واحدة، وشعبتان ترجعان لأصل واحد هو الأصل الفارسي القديم، وقد زادهما ارتباطا اجتماعهما في الديانة الحقة الإسلامية، ولا يوجد بينهما إلا نوع من الاختلاف الجزئي، لا يدعو إلى شق العصا وتمزيق نسيج الاتحاد، ليس بسائغ عند العقول السليمة أن يكون مثل هذا التغاير الخفيف سببا في تخالف عنيف» (الأفغاني: 265)، وهو يذهب أعمق في هذا الموضوع، إذ يقترح أن «ليس ببعيد على همم الإيرانيين وعلو أفكارهم أن يكونوا أول القائمين بتجديد الوحدة الإسلامية، وتقوية الصلات الدينية، كما قاموا في بداية الإسلام بنشر علومه، وحفظ أحكامه، وكشف أسراره، وما قصروا في خدمة الشرع الشريف بأية وسيلة» (الأفغاني:265).
ولقد رأى الأفغاني أن بإمكان الناس في الهند، كما في مصر، وإن اختلفت أديانهم وتنوّعت، أن يتحدوا فيما بينهم، لمواجهة الاستفزاز والعدوان القادمين من بلاد الغرب (الأفغاني: 296، 308، 205-207) وثمة من الباحثين الرصينين من يشير إلى نقاط مشروع عملي لتوحيد السياسة الإسلامية كان السيد جمال الدِّين الأفغاني يدعو إليه، ويسعى إلى تحقيقه (Hourani: 116) ولعل من أبرز سمات هذا المشروع أنه كان يعمل على ضم الوجودين العثماني والفارسي، الأول بصفته المذهبية السنية، والثاني بصفته المذهبية الشيعية، إلى بعضهما كي يتمكنا من الوقوف معا بنجاح في وجه التسلط الغربي. بل إن من الباحثين من يذهب إلى أبعد من هذا، إذ يشير إلى إمكانية كون هذا المشروع من الأسباب التي أدّت إلى مصرع الشَّاه ناصر الدين الصفوي الذي كان معارضا له؛ والذي يقال بأن السيد جمال الدِّين الأفغاني كان من الحاضين على تنفيذ هذا الاغتيال (Kedouri).
يبقى القول إن السيِّد جمال الدِّين الأفغاني كان نموذجا لجانب عملي فذ عرفته مفاهيم الوحدة الإسلامية في نهاية القرن التاسع عشر. لقد سعى الرجل، بفردية مميّزة، إلى إنشاء تيار من الممارسات السياسية القائمة على نظر محدد في فهم الدور العملي للإسلام في الحياة الإنسانية. ومن الواضح أن كثيرا مما طمح إليه السيِّد جمال الدِّين الأفغاني لم يتحقق بحذافيره؛ لكن من الواضح أيضا أن كثيرا من أفكار الأفغاني انزرعت بقوة في نفوس كثيرين من ناس ذلك الزمن. ومن الجلي أن هذه الأفكار وجدت من يحملها وينقلها إلى ناس الجيل الذي أتى بعد جيل السيِّد جمال الدِّين الأفغاني. لكن، لا بد من القول أن أفكار الأفغاني ظلت عند التطبيق، من قبل مريديه والمؤمنين بدعوته إلى الوحدة الإسلامية، دون طموحات السيّد، وأقل مما كان يرجوه لها. أما اليوم، فإن أفكار السيِّد جمال الدِّين الأفغاني تبدو وكأنها لا تزال تأتي، عبر منهجية وجودها، حلولا، بل تحديات، لكثير من المعضلات التي تواجه تحقيق الوحدة الإسلامية. نعم، لا بد من عودة رصينة إلى منهج أفكار الأفغاني، ولا بد من إعمال نظر جدي ومسؤول في الأوضاع الراهنة للمسلمين في ضوء الطروحات التي يقدمها فكر السيِّد جمال الدِّين الأفغاني.
دعا الأفغاني إلى الوحدة الإسلامية عبر قيادة القرآن الكريم، ودعا إلى منع الاختلاف الحزبي والمذهبي من أن يكون سبيلا لهدم الأمة وتشتيت صفوفها، وشدَّد الأفغاني على أهمية القوة والغلبة إن كان في المجال المادي أو في المجال العلمي. ولا مندوحة من التأكيد، في هذا المجال، من أن الأفغاني قد أوضح، ومنذ البدء، أن الاستعمار الغربي هو العدو الأساس الذي يتربص النوائب بالوحدة الإسلامية، وأن على المسلمين أن يتوحدوا لمواجهة هذا الخطر.
يبقى عدد من التساؤلات يلوح في البال. فهل بات المسلمون على وعي بما أشار إليه الأفغاني قبل ما ينوف على قرن من الزمن عندما أكَّد لهم أن الاختلاف في المذاهب ضمن الدين الواحد لا يجب أن يستغل لتفريق هذا الدين؟ وهل أدرك المسلمون، منذ ما ينوف على القرن من الزمن، أهمية المثال الذي قدَّمه لهم السيد جمال الدِّين الأفغاني عن تجربة الألمان فع المذاهب الدينية حين قال: « كان الألمانيون يختلفون في الدين المسيحي على نحو ما يختلف الإيرانيون مع الأفغانيين في مذاهب الديانة الإسلامية، فلما كان لهذا الاختلاف الفرعي أثر في الوحدة السياسية ظهر الضعف في الأمة الألمانية، وكثرت عليها عاديات جيرانها، ولم يكن لها كلمة في سياسة أوروبا، وعندما رجعوا إلى أنفسهم وأخذوا بالأصول الجوهرية وراعوا الوحدة الوطنية في المصالح العامة أرجع الله عليهم من القوة والشوكة ما صاروا به حكامم أوروبا وبيدهم ميزان سياستها»؟ (الأفغاني:269).
مكتبة:
Hourani. Albert, Arabic Thought In The Liberal Age 1798-1939 – Oxford, U.K. 1970.
Kedouri. Elie, Afghani And ‘Abduh; London: Frank Cass and Co. Ltd., 1966
– الأفغاني. جمال الدِّين، الأعمال الكاملة، دراسة وتحقيق الدكتور محمد عمارة، الجزء الثاني، الكتابات السياسية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1981.
——————-
رئيس المركز الثقافي الإسلامي