أخرج انهيار الليرة القياسي اللبنانيين أخيراً من حالة الركود، والإستسلام للواقع المتدحرج نحو هاوية من دون قعر، فكانت التحركات الشعبية العفوية أولاً، ثم حراك المتقاعدين من الأجهزة الأمنية ثانياً، بانتظار استحضار مشهد الثورة الشاملة، أو العصيان الذي يُنذر بالتحوّل إلى كرة ثلج تقلب الطاولة على الجميع، وتحقِّق ربما الإنفراج الموعود على المستويين السياسي والمالي، خصوصاً بعدما بات ارتفاع الدولار يسير وفق معدلٍ مختلف عن تدهوره المعهود منذ العام 2019، وهو ما دفع نحو سقوط كل الضوابط، وربما المحرّمات على غرار ثورة 17 تشرين.
وتطرح هذه التحركات مجدداً واقع الجمود والعجز السياسي “المتعمد”، مقابل قدرة أي تحرّك شعبي مهما كانت طبيعته، على تحريك المعادلة القائمة، وفي ضوء شكوكٍ واضحة لدى المراقبين بإمكان الخروج بنتائج فاعلة عبر أي تحرّك شعبي مهما بلغ حجمه، حيث يجزم الخبير الإستراتيجي الجنرال خالد حماده، بأن التغيير لن يتحقق إلاّ من خلال التغيير في الخيارات الشعبية عبر الإستحقاقات الدستورية المقبلة التي تؤدي إلى وصول شخصيات واعدة تمثل المزاج الشعبي، وتعمل فقط من أجل المصالح الوطنية، وضمن قواعد الحَوكَمة الرشيدة.
ويقول حماده لـ”ليبانون ديبايت”، إن انضمام المتقاعدين من الأجهزة الأمنية إلى التظاهرات، لن يأتي بأي جديد، ولن يرتدّ بأي حال بشكلٍ إيجابي على الواقع العام، وعلى الأزمات المستعصية، كون الحلول المطلوبة تتجاوز المواقف والشعارات السياسية إلى سياسة مالية واقتصادية عامة، تعيد الثقة مجدداً في الداخل والخارج عبر إصلاحات يطلبها صندوق النقد الدولي، وتؤمن الإستقرار على كل المستويات.
وعليه، فإن السؤال الكبير الذي يطرحه حماده على زملائه المتظاهرين، ماذا بعد التحرّك في الشارع؟ ويجيب بأن المتظاهرين أمام خيارين، الأول هو الذهاب إلى العنف وهو ما نرفضه جميعاً، والثاني، هو الذهاب إلى ترجمة النقمة الشعبية في الإستحقاقات الإنتخابية سواء النيابية أو البلدية، واختيار الأشخاص الذين يتمتعون بالكفاءات اللازمة لتحقيق التغيير والإنقاذ.
وبالتالي، فهو يؤكد أن الأجهزة الأمنية التي تواجه المتظاهرين تقف بينهم وبين السلطة، والمتظاهرون لا يريدون الإصطدام معها، معتبراً أن التعبير مفيد، ولكن من الضروري تحديد التوجهات المستقبلية بوضوح.
وبالعودة إلى تجربة الثورة في 17 تشرين الأول، يتحدث العميد حماده، أن اللبنانيين الذين نزلوا بالآلاف إلى الشوارع، لم يحقّقوا أهدافهم واستمرّ الإنهيار وتسارعت وتيرته، وبقيت السلطة على نهجها التدميري وكلامها الشعبوي.
ويستبعد حماده، أن تؤدي التحركات الشعبية إلى استعادة مشهد الثورة الشاملة، مشدّداً أن التظاهر في وجه صندوق النقد ومطالبته ببرنامج دعم وتمويل يمرّ عبر سلطات محلية منتخبة، وهيئات تمثل القطاعات المنتجة من مزارعين وصناعيين وليس عبر المنظومة الحاكمة، هو أفضل من النزول إلى الطرقات واختراق بعض المجموعات المأجورة للتظاهرة، وتكسير الممتلكات العامة. تظاهرة الأمس كانت عفوية ومبرّرة، وتعبِّر عن الإتجاهات الفعلية للبنانيين كلهم، ولهذا، قام المتظاهرون بطرد كل من حاول الدخول على خطّ الإحتجاجات واستغلالها.