عاد رئيس تيّار “المردة” سليمان فرنجية أمس من باريس، ولم يكن بعد قد التقى أحداً من دائرته ليسرد على مسمعهم ما دار في العاصمة الفرنسية. عليه، ثمة من يحيل معظم الترسبات التي طالت رحلته إلى الشكّ، أو يمكن نسبها إلى دائرة أخرى ليست في الضرورة محيطة به. بموازاة ذلك، ترفض مصادر موثوقٌ بها، أن تضع زيارة فرنجية ضمن “خانةٍ سلبية بحت أو إيجابية بحت”، إنما كان هناك نقاشٌ واضح معه، ولم تكن مناخات الرياض ببعيدة. بالمحصّلة، تعمل باريس على “جوجلة” وترشيد مجموعة من الأفكار تمهيداً لعرضها على الجانب السعودي. بنتيجة ذلك، يمكن التفسير بأن سليمان فرنجية باقٍ ضمن دائرة الترشيحات، أقلّه لغاية الشهر المقبل، وإذا لمسَ تطورات إيجابية، قد يقدم على إعلان ترشيحه رسمياً بعدما أرجأه في ضوء ما بلغه من معطيات أخيراً.
دور جنبلاط
من جهةٍ أخرى، لا يمكن إعفاء رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط، الذي تواجدَ في العاصمة الفرنسية بالتزامن مع وجود فرنجية هناك، من مهمة نُصح الفرنسيين من موقع العارف بالتفاصيل اللبنانية. وبالتالي، ثمة من يعطي الأمور بُعداً آخر، يتمثّل في دعوة جنبلاط “الخلية الفرنسية” إلى اجتماع ممثلٍ عنها مع فرنجية، والبدء في النقاش الجدي معه للوصول إلى تقدير موقف، ومن ثم البناء عليه وتكوين صورة سلبية أم إيجابية ما يخدم فكرة حسم الخيارات. وبذلك، يكون جنبلاط قد سلّف صديقه رئيس مجلس النواب نبيه برّي موقفاً داعماً لفرنجية، من دون أن يعلنه أو يمارسه، كذلك يكون قد قدّم مساهمة “لبنانية” في مسار إنزال الفرنسيين عن شجرةٍ صعدوا إليها من جراء استشارة لبنانية قد تبنّوها أساساً، ما يُعزّز التكهّنات حول مرجعية لبنانية وقفت خلف تسويق فرنجية لدى الفرنسيين من ضمن مقايضة تضمّه إلى القاضي نواف سلام، وفق المعلومات، بات الفرنسيون في موقع المتراجعين عنها.
المسيحيون يواجهون فرنسا
في المقابل، تدور الدائرة عند المسيحيين. أجمعت القوى الأساسية الممثّلة لهم (التيار الوطني الحر، القوات اللبنانية، حزب الكتائب وبعض النواب المستقلين والتغييريين) على رفض خيار فرنجية، وبالتالي، الوقوف، وللمرة الأولى جماعياً في مواجهة الطروحات الفرنسية، وهو حدث نوعي تأخذه باريس بكثيرٍ من الإستياء. سبقتها إليه الإدارة الأميركية التي ذهبت نحو التعبير عن ذلك خلال زيارة مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف، ورفضها لقاء ممثلين عن القوى المسيحية الأساسية. كل ذلك يوحي بإعادة عقارب الساعة إلى زمن نظرية “مخايل الضاهر أو الفوضى”.
الراعي يدخل على الخطّ بإسم ثالث
في هذا الإشتباك الممجوج، يحاول البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، إحداث فجوةٍ في الجدار السميك وخلق توازن سياسي معين، بين محاولة إفهام الآخرين طبيعة الدور المسيحي المستجدّ داخل السلطة الناشئ عن قانون الإنتخاب الساري (قانون 2018 النسبي) ونتائجه على دورتين، ومزجها مع التطلّعات الغربية، محاولاً عدم إحداث هوّة بين الممثلين السياسيين للطائفة والشركاء الغربيين المفترضين. لكن ما ينقص الراعي هو القدرة. فمن الواضح أنه عاجز عن إقناع “الزعامات المسيحية” وبخاصة “الثنائي” بأفكاره، بدليل فشل حركة المطران أنطوان بو نجم.
وبالتالي، ثمة من يكشف أن البطريرك انتقل إلى الخطوة الثانية عبر تكوين “خلية رئاسية” في بكركي، مهمتها البحث عن مرشح “مناسب” من ضمن المعايير الموضوعة والمتداولة، مسيحياً وغربياً، ومحاولة تكوين توافق حوله لدى القوى. إلى جانب فرنجية، وضع البطريرك إسم قائد الجيش العماد جوزيف عون، وإسماً ثالثاً تتحفّظ عليه مصادر “ليبانون ديبايت”، لكنها تؤكد أنه ليس من بين الأسماء المطروحة أو المتداولة حالياً.
بالنسبة إلى فرنجية، يُدرك الراعي صعوبة تمريره لدى مكوّنين أساسيين (التيار والقوات)، بينما قائد الجيش، يعتقد أنه يستطيع نيل موافقة رسمية عليه من جانب “القوات اللبنانية”، وفي مرحلةٍ لاحقة “التيّار”، بعدما أدرك الجميع بمن فيهم الراعي، أن جعجع تخلّى عن ترشيح النائب ميشال معوض، لكن يجد حرجاً في الإعلان عن ذلك. وتذهب بكركي كما غيرها إلى هذا الإستنتاج من خلال قراءة البيان “القواتي” الذي أتى بعد لقاء جعجع بالسفير السعودي في بيروت وليد البخاري، إذ شدّد على “ضرورة الإسراع في إتمام الإستحقاق (الرئاسي) والإتيان برئيس سيادي إصلاحي خارج الإصطفافات”.
بالنسبة إلى “التيار”، فمتى وقع الخيار بين فرنجية أو عون، ووجد نفسه أنه الوحيد الداعي إلى المقاطعة، ولا قدرة لديه على تحمّل تبعات الموقف، سيذهب صوب القبول بخيار عون، لعدة عوامل وأسباب، من بينها أن قائد الجيش “عصامي عوني” ولا يطمح إلى تكوين زعامة وليس بزعيم، كما يمكن التفاهم معه، بينما فرنجية زعيم دائم ويؤسّس إلى زعامة مؤجّلة لنجله طوني، ومن الصعب على البيئة العونية هضمه بعد كل الذي جرى، بينما يبقى الخيار الثالث قائماً حين يسقط الخياران المتمثلان بفرنجية ومعوض. وتبعاً للمصادر نفسها، فإن البطريرك لن يقدم على خطوة الإعلان عن مشاوراته إنما سيبقيها طيّ الكتمان، على أن يبدأ مسعاه قريباً.