(يَومَ هَجَّرَتِ الحَربُ اللُّبنانِيَّةُ، الَّتِي اتُّفِقَ على أَنَّ بِدايَتَها كانَت في 13 نَيْسان سَنَةَ 1975، في مَنْ هَجَّرَتْ، أَحِبَّةً غَوالِيَ، ومَزَّقَت وَطَنًا يَحضُنُ الرِّسالات. نَتَذَكَّرُها بِغُصَّةٍ في الفُؤَادِ، ودَمعَةٍ في عَيْنِ القَلَم!)
قَصَدتُ أَحِبَّتِي، والقَلبُ نارُ، أُنادِي الدَّهرَ: قُلْ لِي أَينَ صارُوا؟
أَهَلْ ماتُوا؟ أَهَلْ غابُوا لِحِينٍ؟ أَهَلْ زارُوا؟ أَهَلْ هَلَّتْ دِيارُ؟
أَهَلْ هذِي المَرابِعُ ما زَرَعنا، مِنَ الأَطيابِ، أَم هذِي قِفارُ؟
تُرَى أَينَ المَساكِبُ مِنْ وُرُودٍ؟ هُنا؟ والشَّوكُ يَعبَثُ والبَوارُ
لَقَد كانَ الضِّياءُ لها دِثارًا، فَماتَ الضَّوءُ، واسوَدَّ الدِّثارُ!
***
ومِلْتُ إِلى رِتاجِ البابِ أَبغِي دُخُولًا، حَيثُ كانَ لَنا جِوارُ
فَأَنَّ البابُ إِذْ لَمَسَتهُ كَفِّي، وصاحَ بِحُرقَةٍ: طالَ انتِظارُ!
دَخَلتُ إِلى العَرِينِ، وبِي ذُهُولٌ… لَقَد هُتِكَ العَرِينُ فَلا سِتارُ
فَأَلفَيتُ المَقاعِدَ ذابِلاتٍ، عَفَت أَلوانُها، وخَبا النُّضارُ
فَهاجَ بِخاطِرِي ذِكْرُ الغَوالِي، وماجَت بَينَ أَضلاعِي بِحارُ
مَداها أُفْقُ آلامِي تَداعَت، وغارَت في الفُؤُادِ فَلا قَرارُ
وَقَفتُ، فَعادَ ماضٍ، خِلْتُ وَلَّى، ـــــــــــ إِلَيَّ، وراحَ يَصلِينِي(1) اذِّكارُ
هُمُ الأَحبابُ كانُوا ثُمَّ غابُوا، هُمُ الإِيناسُ أَدبَرَ، والشَّرارُ
هُنا، في الرُّكْنِ، سامَرنا اللَّيالِي، فَكَم قَصُرَت، وكَم طالَ النَّهارُ
وفي شَغَفِ الأَماسِي كَم شَدَونا أَغانِيَ ما شَدا مِنها الهَزارُ
وَكَم حَمَلَ الجِدَارُ لَنَا رُسُومًا… تُرَى مَا حَلَّ فيهَا يَا جِدَارُ؟!
وفَوقَ رُفُوفِ خَلْوَتِنا كُؤُوسٌ، على الخُلَّانِ كَم كانت تُدارُ
تَتُوقُ لِذِكرِ أَيَّامٍ تَقَضَّت، تَحِنُّ إِلى الجِرارِ ولا جِرارُ
وفي الأَدراجِ كَم رَقَدَت عُقُودٌ، لِجِيدِ حَبِيبَةٍ، وبَكَى سِوارُ
ومَسَّدتُ الأَريكَةَ حَيثُ غَنَّى ــــــــــ لَنا، في كُلِّ أُمسِيَةٍ، حِوارُ
فَأَجفَلَتِ العَناكِبُ، مِن هُدُوءٍ، وَثارَ أَمامَ ناظِرَتِي الغُبارُ
فَصِحتُ، وفي يَقِينِي فَيْضُ حِقْدٍ: كَفَى يا دَهْرُ… هل مِنَّا تَغارُ؟!
فَخِلْتُ الدَّهرَ يَهزَأُ مِن خَبالِي، يَقُولُ: هَناؤُكُمْ نَزْرٌ مُعارُ
وهذِي سُنَّتِي، والوَهْمُ وَعْدِي، وفي الصَّفصافِ لا تُؤْتَى الثِّمارُ
فَقُلتُ لَهُ، وبِي شَوقٌ بَرانِي، وفِكرِي حائِرٌ، وبِهِ دُوارُ:
سَيَبقَى في ضَمِيرِي ذِكْرُ حُبٍّ، لَهُ، في القَلبِ، أَحلامٌ ودارُ
ولَن يَخْفَى الحَبِيبُ، ولَوْ تَناءَى، وَلَن تَخبُو لَهُ، أَبَدًا، جِمارُ
فَعِطْرُ وُجُودِهِ في القَلبِ باقٍ، وذِكرَى حُبِّهِ، عِندِي، مَزارُ!
***
وَغادَرتُ الدِّيارَ، وفي جُرُوحِي قُرُوحٌ، والدُّمُوعُ لَها انْهِمارُ،
وأَلفَيتُ الفَضاءَ بِهِ اربِدادٌ، وفي الشَّفَقِ المُوَدِّعِ جُلَّنارُ(2)
أَشارَكَنِي الفَضاءُ بِما أُعانِي، أَمْ انَّ خِضابَهُ دَمْعٌ يُثارُ؟!
أَم انَّ غُرُوبَهُ في كُلِّ يَومٍ، كَما الأَحبابُ كانُوا ثُمَّ طارُوا؟!
هِيَ النَّشَواتُ يا قَلبِي خُمارٌ، سَرِيعًا ما يُجافِينا الخُمارُ(3)!
***
أَداهِيَةً بِأَرضِ الأَرزِ حَلَّتْ، كَوانا مِ الضِّرامِ، بِكِ، الأُوار(4)
فَأَينَ لَنا نَعِيمٌ كانَ غَضًّا، وما قَدَرَتهُ أَنفُسُنا الغِرارُ(5)؟!
نَعِمنا بِالعَرارِ فَهَل أَتَتنا ــــــــــ العَشِيَّةُ لا يُضَمِّخُها العَرارُ(6)؟!
فَلا كَانَتْ عَلَى الدُّنْيَا حُرُوْبٌ، وَلا كَانَ الضَّلالُ، ولا الدَّمَارُ
فَفِي نَبْضِ المَحَبَّةِ نَبْضُ رَبٍّ، وَكُلُّ مُسَالِمٍ لِلَّهِ جَارُ!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): صَلَى اللَّحمَ: شَواه / صَلَى فُلانًا: كادَ لَهُ لِيُوقِعَهُ في شَرٍّ وهَلَكَة
(2): جُلَّنار: زَهْرُ الرُّمَّان
(3): الخُمارُ: ما خالَطَ الإِنسانَ مِن سُكْرِ الخَمْر
(4): الأُوارُ: شِدَّةُ العَطَش / اللَّهَب
(5): غِرار: جَمْعُ غِرٍّ وهو مَنْ يَنخَدِعُ إِذا خُدِعَ (مُذَكَّرٌ ومُؤَنَّث)
(6): في هذا البَيتِ نَظَرٌ إِلى بَيتِ الصِّمَّة القُشَيْرِي: تَمَتَّعْ مِنْ شَمِيْمِ عَرَارِ نَجْدٍ فَمَا بَعْدَ العَشِيَّةِ مِنْ عَرَارِ
العَرَار: شُجَيرَاتٌ ذَاتُ رَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ، تَنبُتُ فِي نَجْد