كما كان متوقعاً، طارت الإنتخابات البلدية، وتأجّل موعد إجرائها إلى وقتٍ غير معلوم، قد يكون 4 أشهر وقد يكون عاماً كاملاً. هذا التطيير الممنهج للإستحقاق البلدي، تمّ بحِرَفية عالية وبمشاركة أبطالٍ كثر، وبطولة معظم القوى السياسية بالشراكة مع الحكومة ووزير الداخلية.
وجهتا نظر رافقتا هذا الإجراء “التطييري”، الأولى مؤيدة لتأجيل الإنتخابات البلدية لعدة اعتبارات، والثانية ترى أنه قرار سياسي لحماية المنظومة من أضرار هذه الإنتخابات، في تلميحٍ واضح إلى أن الأحزاب السياسية كانت ستخسر سلطتها على المجالس البلدية.
لكن لتبيان الحقيقة دون الدخول في لعبة تقاذف المسؤوليات ورميها على جهات وقوى محدّدة، لا بدّ من الإعتراف أن عدم إجراء الإنتخابات البلدية ليس بالقرار الخاطىء، طبعاً دون إنكار خوف السلطة من هذا الإستحقاق وتداعياته عليها.
البلديات في لبنان، هي إدارات محلية تعنى بشؤون المدن والقرى ضمن نطاقها الجغرافي على المستوى الإنمائي، لكنها ليست سلطات محلية بسبب عدم إمساكها بأمرين أساسين، الأمن والمال. هذان العنصران تمسك بهما الدولة المركزية أو العميقة إذا صحّ التعبير، فالمال بيد وزارة المال والأمن يرتبط حصراً بوزارة الداخلية.
وبما أن المال في لبنان منهوب نتيجة الفساد والهدر على مدار عقود من الزمن، وبما أن الأمن يقف على “صوص ونقطة” نتيجة تردّي أوضاع الأجهزة الأمنية، تصبح البلديات في مهبّ الريح، وتكاد تكون قادرة على تأمين رواتب موظفيها وعمالها، باستثناء بلدية بيروت التي فرّطت بقيمة أموالها المكدّسة في مصرف لبنان.
إفلاس الدولة مالياً وتراجع دورها أمنياً، يؤثّر مباشرةً على أداء البلديات التي تعاني أصلاً من عدم قدرتها على استيفاء أموالها من الصندوق البلدي المستقل، فتغيب المشاريع والأعمال الإنمائية عن جدول أعمالها، كما تعجز عن منع التعديات على الأملاك العامة واستيفاء الرسوم من المكلّفين وفرض الضرائب على المخالفين.
هذا الواقع المزري تفرضه الظروف الراهنة، وحتى لو حصلت الإنتخابات البلدية ودخلت قوى جديدة إلى المجالس البلدية، فإنها لن تنجح في تغيير الوضع ولا في لجم الإنهيار، ولا في تحسين أوضاع المناطق ومرافقها العامة، بل سيبقى الحال على ما هو عليه، بل من الممكن أن يزيد سوءاً.
الإنتخابات البلدية كي تجدي نفعاً، يجب أن تحصل بعد انتظام العمل الدستوري، أي بعد إتمام الإستحقاق الرئاسي وتشكيل حكومة جديدة تعيد لمؤسّسات الدولة عافيتها، وتكون قادرة على تأمين الأموال اللازمة، ليس فقط لإجراء الإنتخابات، بل لتعطي البلديات أموالها التي تمكّنها من القيام بدورها الإنمائي. لذلك، إن قرار تأجيل الإنتخابات يمكن وضعه تحت عنوان “رُبّ ضارة نافعة”.
لكن هذا لا يعني عدم تورّط السلطة الحاكمة في تطيير الإنتخابات البلدية، فمعظم القوى السياسية، وتحديداً “الثنائي الشيعي” و”التيار الوطني الحر”، لم تكن راغبة بإجراء الإنتخابات، بل سعت لتأجيلها عبر عدة طرق.
الحكومة أيضاً متورّطة، وهي مسؤولة بشخص رئيسها نجيب ميقاتي عن عملية التطيير، وذلك، بسبب تمنّعه عن عقد جلسة حكومية بالإتفاق مع رئيس مجلس النواب نبيه برّي، الذي عمل على تقديم اقتراح قانون بواسطة النائب علي حسن خليل، للقول إن مجلس النواب هو الوحيد الذي يقرِّر تسديد سلفٍ إضافية.
هذا دون أن نغفل ما فعله وزيرا الداخلية والمال بسام مولوي ويوسف خليل، إذ تغيّبا عن حضور جلسة اللجان المشتركة أمس الأربعاء، ما أثار غضب النواب الحاضرين. هذا التغيّب المقصود كان الهدف منه منح القوى السياسية الحجّة والعذر للتأجيل “على طبق من فضة