من الذكريات
تحلّ بعد بضعة ايام ذكرى رحيل ريمون اده.
صحافي عراقي زار لبنان سنة ١٩٥٩ وكتب هذا المقال:
ريمون اده وزيرا للداخلية
بيروت ١٩٥٩ / من قدري قامجي:
اذا اردت السفر الى بيروت فسجل في ذاكرتك او في”مفكرتك”الرقم 16، فقد تحتاج اليه في هذا الظرف الدقيق الذي يمر به لبنان، فهو رقم”بوليس النجدة”الذي انشئ حديثا ليكون في خدمتك وعلى استعداد لتلبية طلبك في اية ساعة من ساعات الليل او النهار..
و”بوليس النجدة”شيء ديد في لبنان، ابتدعه وزير الداخلية الاستاذ ريمون اده الذي عمل من اجل الامن في اسابيع، ما لم يعمله غيره من الوزراء خلال شهور..
وكان بعض المواطنين قد استقبلوا بالابتسام، تلك الانباء التي ذاعت عن الجولات الليلية التي يقوم بها الوزير الشاب لتعقد الامن والساهرين عليه في احياء العاصمة وفي المناطق المختلفة من لبنان، على طريقة خلفاء العرب الاقدمين، ولكن هذا الابتسام ما لبث ان تحول الى تأييد واعجاب، حين رأى الجميع ولمسوا ما يبذله الاستاذ اده من جهد صادق للقيام بالمهمة الشاقة التي اخذها على نفسه حين قبل النهوض باعياء وزارة الداخلية في هذا الظرف الحسيب…
والواقع ان وزارة الاستاذ رشيد كرامي قد اعطت في الفترة القصيرة التي انقضت على تأليفها، كثيرا من الادلة على ان الوزراء الذين تتالف منهم هم وزراء من طراز جديد.. وانهم انما جاءوا ليعملوا في سبيل وطنهم لا ليحققوا الاغراض الشخصية او يظفروا بنفع او جاه..
واطرف ما حدث للعميد – وهذا هو اللقب المعروف للاستاذ ريمون انه عميد الكتلة الوطنية – انه كان يستحم يوما في”بلاج سان جورج”فسمع طلقات نارية تتردد في مكان قريب، ثم تبين ان هذا المكان هو مخفر الشرطة القريب من البلاج، فهرع الى المخفر لمعرفة سبب هذه الطلقات النارية التي روعت السابحين الامنين، واذا به يكتشف ان شرطيين هناك هما اللذان”يتشليان”باطلاق النار، فامر باعتقالهما حالا، كما اعتقل مفوض المخفر الذي غض الطرف عن مخالفتهما. واحالهم جميعا الى المحكمة العسكرية..
وعلق احد الظرفاء على قيام”العميد”بدور المحقق والمفوض والنذير وهو بالمايوه فقال:”لا عجب، فالبحث عن الحقائق يقتضي”التجرد”على كل حال..”.
واتفق انه كان يحضر احدى الحفلات وهو في ثوب”السموكن”فابلغه رجال الامن ان ثمة اشتباكا مسلحا في محلة”المصيطية”فغادر الحفل وذهب الى مكان الحادث برفقة قوة من الجيش قامت بمحاصرة المكان واعتقال المعتدين..
وروى الاستاذ ريمون اده لبعض زملائه النواب كيف فاجأته الحوادث وهو مرة في”المايوه”ومرة في”السموكن”فقا له احد النواب:”انتبه للمرة التالية حتى لا تفاجئك الحوادث وانت في الحمام!!”.
ولاحظت احدى السيدات اثناء حفل لطيف اقامته”مدام سرسق”ان وزير الداخلية امضى اكثر وقته متحدثا بالتليفون، وكانت جميع هذه المخابرات التليفونية صادرة عن دوائر الامن، فقالت:”مسكين رمون.. من زمان كانت تنهال عليه التليفونات من السيدات اما اليوم..”.
ويبدو ان”العميد”ورث علاقاته النسائية الطيبة عن جده لوالدته جرجى سرسق الذي كان يعرف باسم”جرجي البيك”وكان ذا ثروة طائلة جدا، كما كان حريصا على صداقة الحان، فورث ريمون هذا الميل الى المرأة الجميلة ولم يرث شيئا من ثروته الطائلة.. وهناك من يفسر سر حيوية ريمون اده بكونه لا يزال من حزب الاستاذ فكري اباظة الذي اثر العزوبة على الزواج..
واثناء الحوادث الاخيرة بين الارمن الطاشناق والهانشاق زار وقد من السيدات والانسات الارمنيات وزير الداخلية، وتكون له اعمال الاعتداء والارهاب، وقالت فتاة جميلة من اعضاء الوفد وهي تحاول ان تفسر وجهة نظرها:
– اذا انا بفوض منشآن انت.. انت مش يفوض منشان انا؟
وتردد الوزير الشاب طويلا ثم قال:
– لا.. انا مش يفوض منشان انت.. وحين يكون الاستاذ انه عصبيا، يتكلم بيديه وعينيه وقسمات وجهه، وقد شوهد منذ ايام بهذه الحالة العصبية، حين اكتشف ان احد المواطنين بنى حانوتا في منطقة تجارية هامة على ارض تخص البلدية، فامر بهدم الحانوت ووقف يشرف على تنفيذ الامر بنفسه، واحتاج اثناء هذا العمل الى عربات نقل تجمع الانقاض لترميها بعيدا عن الشارع، فاتصل بالبلدية يطلب منها ارسال عربتين، فارسلت له عربتين ولكنهما مليئتان بالقمامة فامرهما بالذهاب لافراغ حمولتهما والعودة سريعا، واخذت اعصابه تهتز اثناء الانتظار وهو يتمشى على قارعة الطريق ويردد:”كل هالحالة زبالة بزبالة..”.
وجاءه شخص يلتمس معاونته في مسألة غير قاننية فقال له:
– اتكالي على الله وعليك..
فاجابه:
– اتكل عليه وحده.. انا ما راح يطلع لك مني شي..
وقيل له ان رجلا اطلق الرصاص على خصم له في قرية مزيارة التي ما فنتثت الاحداث تتعاقب فيها منذ عام كامل، فقال:
امر غريب.. هل بقى عندهم رصاص لم يطلقوه بعد..
وبينما كان يغادر مكتبه تقدم منه احدهم مصافحا، ولما مد الوزير يده انحنى الرجل عليها محاولا تقبيلها، فسحب يده صائحا:
– شو مفتكرني.. خوري؟!..
فاجاب الرجل:
– يا سيدي.. انا شايفك مطران.!
وسئل عن رايه في تطهير الادارة من كبار الموظفين الذين بلغوا سن التقاعد، فقال:
– انا رأيي ان يحال الى التقاعد كل من عمل في الوظيفة مدة 35 او 40 سنة دون السؤال عن اعمارهم.. ولما سئل عن السبب اجاب:
– لان جميع الموظفين الكبار اصبحوا اطفالا بسبب تصغير سني اعمارهم بمختلف الطرق وباتوا في حاجة الى مرضعة ومصاصة.!
ومن اطرف ما وقع له خلال جولاته الليلية، انه كان يتفقد مراكز الشرطة والدوريات الموزعة في انحاء العاصمة، ولما وصل الى باب احدى السفارات، لفت نظره منظر شرطي يغط في نومه، فتقدم منه وربت على كتفه، ولما صحا الشرطي عرف الوزير فقال له:
– ليس كنت نايم!
– ما كنت نايم..
– طيب ليش واعي؟
– انا مش واعي..
– طيب شو عم تعمل؟
– امرك سيدنا..
– هيئتك تعبان
– مثل ما بتأمر..
– اذن روح ارتاح شي ثلاثة ايام.. بالحبس.!
ولوزير الداخلية حاجب”على نياته”يدعى جورج، وبين جورج هذا والصحفيين”صداقة”لدودة لا يشوبها الا عناده الشديد كلما ارادوا مقابلة الوزير.
وكالعادة جاء الزملاء ظهر احد الايام الى وزارة الداخلية فرحب بهم جورج، لكنهم في هذه المرة لم يستأذننوه في الدخول بل اعطوه ورقة وطلبوا منه تسليمها الى الوزير، وابى جورج الا ان يعرف مضمونها ولما قضها وجد فيها العبارة التالية:”السفراء يرغبون في مقابلة معاليكم”.
وسأل جورج مستغربا عن السفراء فاجابه الصحفيون:
– موجودون.. عجل سلمه الورقة..
فاسرع وسلم الورقة للوزير، فكانت دهشته عظيمة عند قراءتها، لهجوم السفراء عليه، بالجملة دون موعد سابق، وبادر الى شد ربطة عنقه ثم قال لجورج:
– خليهم يتفضلوا..
وتفضل الصحفيون والضحكة تملأ وجوههم فلما رآهم صاح بهم.
– عملتوها معي..
فاجابوا:
– السنا سفراء صاحبة الجلالة…. الصحافة..