(في الذِّكرَى الأَربَعِين لِلصَّدِيقِ الأَدِيبِ جُوزف مهَنَّا)
لا تَقُلْ مَرَّتِ الأَربَعُونَ، والخَطْبُ شابا، وغَدا الحُزنُ، في الحَنايا، سَرابا
ذِكرُهُ، في الفُؤَادِ، باقٍ دَفِيئًا، لَم يَغِبْ عِطرُهُ، ولا الشَّوقُ غابا
يا صَدِيقِي رَحَلتَ، لكِن بِقَلبِي، بِتَّ في خَفْقِهِ شَجًى مُنسابا
كُلَّ يَومٍ أَصبُو إِلى هاتِفٍ مِنكَ، فَما مِن صَدًى، وتَوقِيَ خابا
كَم مَرِيرٌ غِيابُ مَن كانَ إِلفًا صادِقًا، لا يُوارِبُ الأَصحابا
مُذْ تَناءَيتَ والأَسَى لَيسَ يَنأَى، والنَّوَى باتَ غَمُّهُ جِلبابا
لَيتَ ذاكَ النَّذِيرَ أَخفَقَ عَنَّا، لَيتَ ما حَلَّ أَخطَأَ الأَسبابا
يا خَدِينَ اليَراعِ، أَشتاقُ أَنْ ــــــــــ تَقرَأَ لِي ما كَتَبتَ، وَحْيًا طابا
كَلِمًا مِثلَ طَلَّةِ الفَجْرِ، شَفَّافًا، وآيًا مِنَ الغَوالِي عِذابا
كُنتَ فَخْرًا لِلضَّادِ، تَرفَعُ فِيها، عَمَدًا صُلبَةً، وفِكرًا عُجابا
وتُراثًا مِن فِكرِكَ الحُرِّ يَبقَى خَيرَ ذُخْرٍ مُعَطَّرٍ آدابا
لَيتَ أَخَّرتَ رِحلَةً لَيسَ عَنها مِن مَفَرٍّ، وَلَو تَطُولُ غِيابا
فَمُنانا، في أَرذَلِ العُمرِ، بَدْعٌ كَالثُّمالاتِ طَيَّبَت أَكوابا
هو سُكْنَى صَحائِفٍ ومِدادٍ، وجَنانٌ يَرَى الهَناءَ كِتابا
نَرصُفُ الوَقتَ بِالحُرُوفِ تُغَنِّي في رِقاعٍ تَسَربَلَت أَطيابا
نَسكُبُ الشِّعرَ في كَلامٍ مُصَفًّى، قُلْهُ بَوْحُ الأَوتارِ هَزَّت رَبابا
قُلْهُ فَوْحُ الأَقاحِ ماجَت عَبِيرًا، أَسكَرَ الخَلْقَ نَشْرُهُ والهِضابا
يا رفِيقِي أَنكَرْتُ بُعدَكَ حَتَّى خِلتُ أَنِّي أَراكَ طَيفًا آبا
فَأُناجِيكَ، لا يُعِيقُ خَيالِي واقِعٌ شَكَّ في الأَمانِي حِرابا
سَوفَ تَأسَى مَحافِلٌ كُنتَ فِيها رَأسَ مَن رَجَّ مِنبَرًا، وأَصابا
ويَراعٌ طَوَّعتَهُ راحَ يَشكُو، ومَغانِيكَ نَكَّسَت أَعتابا
كَيفَ لِي أَن أَمُرَّ في حَيِّكَ ــــــــــ الصَّامِتِ، لا أَرتَجِي بِهِ تَرحابا
باتَ ذاكَ المَلاذُ يَبكِي هَزارًا، إِن دَعاهُ بِغُدوَةٍ ما أَجابا
وإِذا لا صَلاةَ نَرجُو، ولا ــــــــــ ضَوْعَ بَخُورٍ، نُفارِقُ المِحرابا
هكذا لا تُطِيقُ فِينا الحَنايا أَربُعًا لَم تَعُدْ تَرَى الأَحبابا!
***
خانَكَ القَلبُ، يا صَدِيقِي، وقد كانَ ــــــــــ على العُمرِ والِهًا صَخَّابا
كانَ نَبْعَ الوِجدانِ يَجرِي خَيالًا في شَفِيفِ الرُّؤَى، وشَهْدًا مُذابا
ما تَوانَى في نَفحِهِ الغَزَلَ العَفَّ ــــــــــ يَبُثُّ الجَوَى حِسانًا رِطابا
آهِ مِنها وَلَّت لَيالِي هَوانا، لِيَبابٍ، وغَلَّقَت أَبوابا!
***
يا صَدِيقِي، ذِكراكَ تَبقَى لَدَينا صُوَرًا لا تُفارِقُ الأَهدابا
حَيَّةً في الجُفُونِ، مَهما تَداعَت سَنَواتٌ، وشابَ شَيْبٌ شَبابا
كَلُهاثِ الحُقُولِ يَسرِي إِلى ــــــــــ الأَنفاسِ دِفئًا، وفِتنَةً، ومَلابا*
وهَوًى في صُدُورِ مَن كُنتَ فِيهِم خَيرَ مَن صانَ إِلفَةً وصِحابا!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مَلاب: عِطْرٌ، أَو الزَّعْفَران / ضَرْبٌ مِنَ الطِّيْبِ