ألأب كميل مبارك
يَجْمَعُنَا بالعَذْرَاءِ مَرْيَمَ حُبٌّ مَلِيءٌ بِمَا لا يُوصَفُ مِنَ الأَهْلِيَّةِ والحَنَانِ والدِّفْءِ العَائِلِيِّ، مَا يَجْعَلُنا نَشْعُرُ بالقُرْبِ والحِمَايَة، إنَّه حِضْنُ الأُمِّ نَلْجَأُ إلَيْه في صَقيعِ الخَطِيئَةِ كَمَا في لَهِيبِ الاشْتِيَاق. مَرْيَمُ تُرَافِقُنَا في كَلامِنَا وفِكْرِنا وتَعْبِيرِنا عَن الإيمَانِ بالله، وفي تَرْبِيَتِنَا لأَوْلادِنا اسْتِقْبَالاً للحَيَاةِ بالأَمَلِ والفَرَحِ والرَّجَاءِ، وفي وَدَاعِنَا لِمَنْ يُغَادِرُنَا إلى عَالَم الأَبَد، كَيْفَ لا وهي مُعَزِّيةُ الحَزَانَى وسَبَبُ سُرُورِنا على الرُّغْم مِنْ كُلِّ أَسْبَابِ القَلَق ومَظَاهِرِ عَيْشِنَا إيَّاه؟!
هذا ومَرْيَمُ تَبْقَى رَفيقَةَ دَرْبِنَا في مَرَاحِلِ نُمُوِّنَا بالقَامَةِ والحِكْمَةِ أَمَامَ الله والنَّاس، تُبَارِكُ بُيُوتَنَا بأَيْقُونَاتِهَا المُعَلَّقَةِ فَوْقَ أَسِرَّةِ أَوْلادِنَا وفي صُدُورِ صَالُونَاتِنا، فنَغْفُو على أَصْوَاتِ أُمَّهَاتِنَا تُرَنِّمُ أَنَاشيدَها بَيْنَما تُداعِبُ شَعْرَ رؤُوسِنا، ونُفيقُ صَباحًا على ذِكْرِ اسْمِها كأَوَّلِ كَلمَةٍ تَدْخُلُ آذانَنا وتَأْتي الظَّهيرَة على التَّبْشيرِ المَلائِكِيِّ، ونَلْهَجُ بذِكْرِها في قِيَامِنَا وقُعُودِنَا، هيَ مَعَنا ولَنَا ومِنَّا وفينا تَعيشُ في نَبْضِ أَعْراقِنَا.
وازْدادَ حبُّنا لِمَرْيَمَ حَتَّى سَلَّمْنَاها أَرْزاقَنا بالإضَافَةِ إلى أَعْنَاقِنا، فأَقَمْنَاها سَيِّدةَ الزُّرُوع وسَيِّدةَ الحَقْلَةِ وسَيِّدةَ التَّلَّةِ، وكأَنَّ الرِّزْقَ يأْتِي مِنْها وببَرَكَةِ صَلاتِها وبغَزَارَةِ حُبِّها وزَوْدِ عَطْفِها على بَنِيها، لَقَدْ جَعَلْنا مِنْها، قَوْلاً وفِعْلاً وإِيمانًا، أُمَّ الجَسَدِ والرُّوح، وتَرَبَّيْنا على حَقيقَةٍ راسِخَة تَقولُ إنَّ كُلَّ واحِد مِنَّا لَهُ أُمٌّ أرْضِيَّةٌ أنْجَبَتْهُ ورَبَّتْهُ، ولَهُ أُمٌّ سَمَاوِيّةٌ تَسْهَرُ عَلَيْه مِنْ عَلْيَائِها وتَحْميه مِنْ مَخَاطِر وَهَن الجَسَدِ وأَحَابيلِ التَّجارِبِ الَّتي تَنْحَرِفُ بالنَّفْسِ عن السَّبيلِ القَويم إلى مَهَاوِي العَتْمَةِ والضَّيَاع.
مَرْيَمُ رَفيقَةُ صَلاتِنا نَتَضَرَّعُ إلَيْهَا كُلَّ مَرَّةٍ نَتَقَرَّبُ مِنَ الله، نَسْتَشْفِعُها طالِبينَ رَحْمَةَ الدَّيَّان، لَهَا مَقَامٌ مُمَيَّزٌ في أَقْدَسِ سَاعَاتِ التَّسْبيح والتَّمْجيدِ لله الآبِ والابْن والرُّوحِ القُدُس، في قُدَّاسِنا وذَبيحَتِنا، كمَا في تأَمُّلاتِنا الصَّامِتَةِ والمَحْكِيَّة. وبَيْنَ أَصَابِعِ أَيْدينا وحَبَّاتِ المَسَابِح غَرَامٌ يَرْبُط بَيْنَ هذه وتلك ويَشُدُّهُما إلى القَلْبِ والعَقْل، حتَّى غَدَتِ المَسْبَحَةُ سِلاحَنَا ضِدَّ الشِّرِّيرِ الغَدَّار، وقُوَّةً نَرْفَعُها في وَجْهِ الحَسَدِ والعَدَاوَةِ والنَّميمَةِ وأَلْسِنَةِ السُّوء.
إكْرَامُنا مَرْيَمَ العَذْرَاءَ دَفَعَ المُؤْمِنين ببَتُولِيَّتِها وطَهَارَتِها وعِصْمَتِها إلى تَكْرِيس شَهْرَيْن من أَشْهُرِ السَّنَة، للِاستِزادَةِ من إكْرَامِها، في نَوَّارٍ شَهْرِ الأَزهارِ والفَرَحِ والخِصْبِ والِاستِبْشارِ بالخَيْرِ والرِّزْق، وتشرين شَهْرِ المَوَاسِم والحَصادِ وامْتِلاءِ الخَوابي بالزَّيْتِ والنَّبيذِ، بَرَكَةِ البُيُوت وطُمَأْنينَةِ النُّفوسِ وراحةِ البال. مِنْ مَخازِنِ القَمْح في تشرينَ نَأْخُذُ خُبْزَ القَرابين، حُضُورَ المسيح الدَّائِم الَّذي وَعَدَنا بأَنَّه لَنْ يتركَنا يَتَامَى، ومِنْ خَوابي الخَمْرِ نَأْخُذُ خَمْرَةَ الكأْسِ الَّتي إذا شَرِبْنا مِنْها لَنْ نَعْطَشَ إلى الأَبَد، ومِنْ صَفَاءِ الزَّيْتِ نَأْخُذُ زَيْتَ العِمَادِ والمَيْرونِ المُقَدَّس، وكُلُّ هذه الخَيْرَاتِ نَحْلُمُ بِهَا في نَوَّارِ الوُرودِ ونَجْمَعُها في تشرين المَوَاسِم، وكِلاَ الشَّهْرَيْن نَحْيَاهُما ونَحْنُ نُرَدِّدُ على عَبَق البَخورِ في الكَنائِسِ والمَزَارَات، إلَيْكِ الوَرْدُ يا مَرْيَمُ يُهْدَى مِنْ أَيَادينَا، نَقوُلُها وكلُّنا إيمَانٌ بأَنَّ أَيْديَنَا الَّتي تُعْطِي الوُرودَ ستَمْتَلِئُ نِعَمًا تَصِلُ إلى القُلوب، فنَسيرُ مع مَرْيَمَ وعلى خُطاها إلى المسيح ربِّنا، مُعْلِنينَ جَهَارَةً أَنَّه الطَّريقُ والحقُّ والحَياة.