وَحْدَهُ الشِّعْرُ جَدِيرٌ بِتَنَاوُلِ الْمَوْضُوعَاتِ الْكَبِيرَةِ وَسَبْرِ أَغْوَارِهَا. وَ الْقَائِلُونَ أَنَّ هَذِهِ الْمُهِمّةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى النَثْرِ يُخْطِئُونْ .
فَالنَّثْرُ لِسَرْدِ الْمَوْضُوعَاتِ التَارِيخِيّةِ ، لِلتَوْثِيقِ ، لِأَبْحَاثٍ إِجْتِمَاعِيَّةٍ ، لِعَرْضِ الْقَوَانِينْ ، لِتَوْضِيحِ أَفْكَارٍ عِلْمِيّةٍ . أَمَّا الشِّعْرُ فَلُغَتُهُ التَلْمِيحُ لَا التَصْرِيحْ . الشِّعْرُ فَيْضٌ مِنَ الشُّعُورِ الْمُرْهَفِ بِالْجَمَالِ ، يَعْتَمِدُ الْمُوسِيقَى ، مُوسِيقَى الشِعْرُ بِالنَغَمْ ، وَالرَسْمُ شِعْرٌ بِالْخُطُوطِ وَ الْأَلْوَانِ وَ الظِلَالْ. الْإِنْسَانُ قَدِيمًاً ، تَآخَى مَعَ الطَّبِيعَةِ، فَكَانَ يَنْطِقُ الشِّعْرَ تَلْقَائِيًّاً مُنْذُ نُعُومَةِ أَظَافِرِهِ . وَمَنْ لَمْ يَنْطِقْ بِالشِّعْرِ يُعْتَبَرُ مُتَخَلِّفًاً، فَكَانَتْ الْمُجْتَمَعَاتُ تُقِيمُ الْإِحْتِفَالَاتِ إِحْتِفَاءً بِوِلَادَةِ شَاعِرٍ لَدَيْهَا.
بِتَنَاغُمِ الْإِنْسَانِ الْفُطْرِيِّ مَعَ الطَّبِيعَةِ، بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ شَحْنِ جَمَالَاتٍ وَ عَطَاءَاتٍ، يَتَنَاغَمُ مَعَ ذَاتِهِ الْمُضَمَّنَةِ الْوُجُودِ، مَا يُحَفّزُهَا عَلَى الصّلَاةِ وَ تَمْجِيدِ مُبْدِعَهَا الشّاعِرُ الْأَكْبَرُ ، الْمَنْثُورَةُ قَصَائِدُهُ فِي سائِرِ خَلَائِقِهِ، تَبْدَأُ بِالذُّرّةِ وَ لَا تَنْتَهِي فَحَبَّةُ الرّمْلِ قَصِيدَةُ الصّحْرَاءِ ،قَطْرّةُ الْمَاءِ قَصِيدَةُ الْبَحْرِ ، النّهْرِ ، وَ النّبْعِ ، الزَّهْرَةُ قَصِيدَةُ التُرَابِ ، وَ الْكَوَاكِبُ قَصَائِدُ الْفَضَاءِ. مِنْ هُنَا لَجَأَتُ إِلَى الشِّعْرِ، لِكَشْفِ مَا يَعْتَمِلُ فِي وِجْدَانِي مِنْ حَالَاتٍ رُؤْيَوِيّةٍ ، عَبْرَ الرُّمُوزِ وَ الْمَجَازَاتِ وَالِاسْتِعَارَاتِ، بِالْكَلِمَةِ الْمُجَنَّحَةِ ، وَ الْخَيَالِ الْجَامِحِ، وَ الْعَاطِفَةِ الْجَيَّاشَةُ.
الْعَاشِقُ يُعَبِرُ عَنْ عَوَاطِفَهُ بِالشِّعْر
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ، هَلْ أَنْتَ حَبِيبِي؟ لَا فَأَنْتَ هَزِيّمَتِي وَ خَيّبَتِي حَبِيبِي شَرَارَةُ تَجَدُّدِي رَجَّ غَفْلَتِّي وَ نَقَانِّي بِجَلَدَاتِ تَأْدِيِبَاتِهِ… حَبِيبِي ، مَلَامِحُ مِنْ حَنَانٍ وَ آبْتِّهَالٍ، نَبْضُهُ شَوْقٌ يَنْسَابُ كَمَا الْخَيَالْ… يَذُوبُ عُصَارَةٌ فِي مُهْجّتَيْ، خَلَايَا حُبِّهِ مَصْهُورَةٌ فِي جِبْلَتّي، أَشْوَاقُهُ حَصَادُ سَرِيرَتِي ، هَمَسَاتُهُ مَعْصُورَةٌ مِنْ لَهْفَتِي ، وَ انْقِيَادُهُ يَقِينٌ مُطْمَئِنٌ فِي قَلْبِي… أَيُّهَا الْإِنْسَانُ ،لَا تَقُلْ أَنْتَ حَبِيبِي! فَأَنْتَ هَزِيمَتِي وَخَيّبَتِي .
فَمَعَكَ هَبَطْتُ مِنَ الْأَعَالِي إِلَى زَنْزَانَةِ الْأَرْضِ إِلَى الْحَضِيضِ، إِلَى قَاعِ الْقَاعْ.
وَ مِنَ التّحْتِ، رُحْتُ اسْتُغِيثُ بِإِلَهِي الْحَبِيبِ الْحَقِيقِيِّ . وَ بِفَرْطِ حَنَانِهِ، اسْتَجَابَ لِي، الْتَقَطَنِيُّ، جَمْعَ أَشْلَّائِي، فَكَّ عَنّي أَغْلَالِي، وَ رَنَا إِلَيَّ قَائِلًاً : أَمَا كَفَاكِ مَا عَانَيْتَ ؟ مَا تَأَلْمْتِ؟ تَعَالِيّ أَنَا وَحْدِي أُفْدِيِكِ وَ أُخْلِصُكِ. إِلَهِي، كُلّمَا أَطْبَقَ عَلَيَّ فَخٌ ،وَ تَعَثّرْتُ فَوَقَعَتُ فِي حُفْرَةٍ مَا ، تَفْتَحُ لِي سَبِيلًاً لِلنَجَاةْ… كُلَّمَا قَيّدُونِي بِالْأَغْلَالْ، وَ أَحْكُمُوا عَلَيَّ الْوِثَاقْ، أَتَلْمَّسُكَ فِي الظُّلْمَةِ تُضِيئُ لِي مِصْبَاحُ الْأَمَانِ. وَعَبْرَ أَنِينِ أَوْجَاعِي،فَاضَتْ أَشْعَارِي مُغْمَّسَةً بِدَمِّي وَدُمُوعِي |