إلى الموارنة قادة ًوكنيسةً قبل أن تقع الواقعة

في البداية، سأسمح لنفسي، كمسلمٍ، مناقشة قضايا تتعلق بالمسيحيين الموارنة، أو التحدث بإسم هواجس فئاتهم المسحوقة ولسان حالهم، وربما تناول المحظورات، ولم لا؟!

عامٌ سيء على الصعد كافةً مرّ على الموارنة، والقادم ليس أفضل من الذي فات. الوضع الراهن، يتحمّل مسؤوليته في الدرجة الأولى قادة المسيحيين الموارنة السياسيين، في الدرجة الثانية الكنيسة المارونية التي تعيش في فترة ضعفٍ غير معهودة.

 

منح النظام السياسي الحالي المسيحيين الموارنة 4 مراكز أساسية درجة أولى في الدولة، تأتي بالتدرج: رئاسة الجمهورية، حاكمية مصرف لبنان، قيادة الجيش ومجلس القضاء الأعلى، ما يعني أنهم ممسكون عملياً بعصب الدولة المتمثل بالسياسة والنقد والامن والقضاء.

3مراكز من أصل 4 باتت في حكم الشغور والفراغ أو مقبلة عليه، وهي رئاسة الجمهورية حاكمية مصرف لبنان وقيادة الجيش. وإذا تمادينا في التوصيف لذهبنا نحو القول إن هذه المراكز ليست واقعة في شغور فقط، إنما تحولت إدارتها لتصبح في متناول شخصيات من طوائف أخرى، وهذا يحدث للمرة الأولى منذ نشأة لبنان. فرئاسة الجمهورية باتت صلاحيات إدارتها في ظل فراغ الموقع من صلاحية رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي “السني”، وحاكمية مصرف لبنان تولاها أخيراً نائب الحاكم الأول وسيم منصوري الذي هو في المناسبة “شيعي”، والوضع ليس أفضل بالنسبة إلى قيادة الجيش، إذ يجيز القانون لرئيس الأركان “الدرزي” تولي الموقع في حالة الفراغ، وهو ما يعمل على إنتاجه حالياً.

إذاً خرج المسيحيون من إدارة الدولة التي أٌسست كامتياز لهم، وباتوا يسيّرون الأعمال أو لاعبين على هامش الإدارة.

ولكي ينصرف قادة الموارنة عن هول الفاجعة التي ألمّت بهم، يتمادون في تعميق الهوة في ما بينهم، أو خلق مبررات لا تفيد سوى في إظهار ضعفهم، مثل رمي المسؤولية، مثلاً، على أطراف أخرى شريكة واتهامها بأنها سعت وتسعى إلى اقتناص فرصة إجراء تغييرات في النظام الحالي “بالممارسة” مستفيدين من التحولات الجارية.

وفيما لو صحّت هذه النظرية حقاً، فإن النزاع الإداري والسياسي سيكون محصوراً بين المسلمين سنة وشيعة وربما دروز، على اعتبار التداخل الحاصل في المواقع بينهما لا سيما السنة والشيعة، ولن يكون للمسيحيين أو على المسيحيين أي خطر، وهو بالفعل ما ينتبه إليه “حزب الله” بصفته القوي والأكثر قدرة في الداخل، ويعمل على تجنّبه وإبعاده، وهذا حصل في مناسبتين: حين أجهضَ الحراك الفرنسي الذي تبلور بعيد انفجار الرابع من آب 2020 وطرح موضوع “الصيغة” للنقاش، ومرّة ثانية حين زار المبعوث الفرنسي الخاص جان إيف لودريان بيروت أخيراً، وأعاد طرح النقاش بالنظام وطبيعته.

يُفهم إذاً أن قادة الموارنة يرمون قنابل دُخانية لإخفاء عجزهم عن إحراز أي تقدم بالنسبة إلى النقاشات في ما بينهم، أو إصلاح العلاقات الإجتماعية والسياسية بينهم كمدخل لحل شؤونهم، والتي وصلت حد تجنّب تبادل التهنئة والمعايدات. ولعل السيء أكثر، تخطيهم الأزمات الأكثر عمقاً والفريدة في تاريخهم الحديث، كتوسع ظاهرة هجرة الشباب والعائلات، وخطر النزوح والنازحين وما يمثله من تلاعب ديمغرافي قد يجرّ الويلات، وانصرافهم إلى التعاطي بأمور سطحية، سيفقدونها مع الوقت في حال لم يعالجوا الأسباب الحقيقية لأزمتهم.

والأسوا في الأمر، تماهي الكنيسة الكلي مع الكارثة الحاصلة. يكتفي رأس الكنيسة في الوعظ كل أحد، لكن من الذي ينفذ أو يتبنّى العظات ويعمل بها؟ وأين هي الإستراتيجية (أو الآلية) التي وضعتها الكنيسة لتنفيذ مضمون عظاتها وأين حضورها؟

أمّا الأكثر سوءاً، فيتظهر في حديث مقربين منها عن حالة الضعف التي تنتاب رأس الكنسية، الفاقدة لقدرة التأثير على زعامات الموارنة والعاجزة عن جمعهم أو إقناعهم بمفردة واحدة، والعاجزة عن إنتاج فكرة سياسية لتعمل عليها، وهو ما دفع بمن يدوس بساط الكنيسة لأن يترحّم على أيام البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير.

إذاً المشكلة لدى المسيحيين، والموارنة تحديداً. أحزابهم تمضي من فشل إلى آخر. “التيار الوطني الحر” وقّعَ بالامس فشله الثاني على التوالي ضمن سردية “المحافظة على مواقع المسيحيين الموارنة”، بعدما لم يجد “تخريجة” تفيده، لا في قضية وضع مصرف لبنان تحت وصاية “الحارس القضائي”، ولا الذهاب نحو تعيين إداري يتولاه القضاء بناءً على مشورة وزير عدله. قبلها وقّع فشله الأول حينما تقاطع مع “القوات اللبنانية”، حول إسم جهاد أزعور لرئاسة الجمهورية ، ثم ما لبث أن انصرف الطرفان إلى مصالحهما. والآن يُقبل التيار على الفشل الثالث، حينما لن يجد تخريجة قانونية تفيد في تولي الضابط الأعلى رتبة في الجيش، وهو “كاثوليكي”، مكان القائد “الماروني”، وسيذهب الموقع إلى رئيس الأركان “الدرزي”، وجل ما نجح به هو مقاتلة قائد الجيش الماروني، بأدوات مسيحية.

أما القوات، فحدّث ولا حرج. يتقلب سمير جعجع بين فشل إستراتيجي وآخر تكتيكي. طوال 15 سنة من العمل في الشأن العام لم يصب “الحكيم” مرةً وأخفقَ مرات، وليته تعلم! سيبقى على هذا المنوال طالما اختار أن يضع إلى جانبه “موتورين”، ولن ينفعه التمتع بمقدرات الكتلة المسيحية الأكبر في البرلمان او المجاهرة بذلك طالما أنه عاجز عن إنتاج حلول، إنما سيتحول إلى مسؤول أو أقلها “شيطان أخرس”.

في النهاية مشكلة المسيحيين الموارنة، في الخيارات والتكتيك والتخطيط، وخيالهم الواسع في أن هناك شركاء “يريدون أكلنا”، يعيشون في الماضي، بينما قادتهم يأكلون بعضهم بعضاً ولا يتحالفون سوى على الدم.