الأب كميل مبارك
يُحْكى عن نابوليون بونابرت أَنَّه حينَ دَخَلَ مِصْرَ مُحْتَلًّا لَقِيَ مقاومةً من محمَّد كريم حاكمِ الاسكندريَّة الذي قضى على عددٍ مِنْ جُنوِد الفاتِحِ الفرنسي، وأَخيرًا أُلْقِيَ القَبْضُ على هذا المقاوم، وأُحضِرَ أَمامَ نابوليون الذي بادَرَه بالقَوْل: لَنْ أَسْمحَ للتَّاريخِ بأَنْ يُسَجِّلَ عليَّ أَنَّني أَعْدَمْتُ مُناضِلًا في سبيلِ شَعْبِهِ ووَطَنِه. ولكنَّكَ ستدفعُ مَبْلَغًا مِنَ المالِ لعائلاتِ الجُنودِ الَّذين قَتَلْتَهم بمقاومتِك، وهكذا تنالُ حرِّيَّتَك. فأَجابَه محمَّد: لا أَمْلكُ مالًا ولكنِّي سأَسْتعينُ بتُجَّارِ الاسكندريَّة كي يساعدوني. وهكذا سِيقَ هذا المقاوِمُ مقيَّدًا بالأَغْلالِ إلى شوارعِ الاسكندريَّة ليطلُبَ المَعونة، فرفَضَ جميعُ التُّجَّار مساعدتَه، بل اتَّهَموه بأَنَّه خرَّب المدينةَ وسَبَّبَ الانْهيار الاقتصادي. فعادَ به الجُنودُ إلى نابوليون وأَخْبروه بِمَا جَرى. فقالَ له نابوليون سَوْفَ تُعْدَم، لا لأَنَّك قاوَمْتَني، بل لأَنَّك دافعْتَ عنْ شَعْبٍ تَنَكَّرَ لك وهو لا يَسْتَحِقُّ أَنْ تموتَ مِنْ أَجْلِه، لأَنَّه يتلَهَّى بمالِ التّجارة عن حرِّيَّة الوطن وكرامة النَّاس. وهكذا أُعْدِمَ الرَّجل، في السَّادسِ مِنْ أَيلول 1798.
تُرى لَوْ جاءَ نابوليون اليوم إلى لبنان، فهل يحكم على مَنْ يَتَلَهَّى بمَصالِحِهِ عَنْ مصالِحِ الشَّعْب؟ أَم يحكُمُ على الشَّعْبِ الذي أَتى بهؤُلاء الَّذين لا يَكْترِثون لأَمْرِه وأَعادَهُم إلى مَناصِبِهِم حكَّامًا يأَّسُّوه مِنْ إخلاصِهِم للوَطَنِ وللشَّعْب؟ أَم يَحْكُمُ على مَنْ لا يَتْرُكُ سانِحَةً إلَّا ويستفيدُ مِنْها كَيْ يُمْعِنَ في تَهْديمِ مَا تَبَقَّى منَ الوَطَن؟ أَمْ يَحْكُمُ على الأَيادي الآتِيَةِ مِنْ خارجِ البِلادِ لتَتَلاعَبَ بمَصيرِ العِباد، مِنْ دونِ أَنْ تَلْقَى مَنْ يَرْفضُ التَّعامُلَ مَعَها مَحَبَّةً بوَطَنِه؟ أَمْ يَحْكُمُ على صانِعي القَراراتِ الدَّوْليَّةِ التي تُمْعِنُ في إيذاء الشُّعوبِ الصَّغيرةِ مِنْ أَجْلِ تَنْفيذِ مآرِبَ هدَّامَةٍ لبَعْضِ الأَوْطان، لصالِحِ بَعْضِ الأَوْطان الأُخْرى؟ أَمْ يَحْكُمُ على الَّذين تَعاقَبوا في الحُكْمِ عَشَراتِ السّنين ولَمْ يَسْعوا طوالَ وُجودِهِم إلَّا إلى إشْباعِ غَرائِزِهِم المَادِيَّةِ والسُّلْطَوِيَّة؟ أَمْ يَحْكُمُ على تُجَّارِ الهَيْكَلِ وفُجَّارِه الَّذين جَعَلُوا بُيوتَ الله بُيوتًا للتِّجارةِ والأَرْباحِ الرَّخيصةِ على حِسابِ كرامَةِ المَقْهورين ودُموعِ المَظْلومين؟ أَمْ يَحْكُمُ على القَيِّمينَ على المَذاهِبِ والطَّوائِف والأَدْيانِ لأَنَّهم جَعَلوا مِنْ مَذاهِبِهِم مَتاريسَ تخلُّفٍ وانْغلاقٍ وأَغْلَقوا أَبْوابَ الحِكْمَةِ فلا هُمْ دَخَلُوا ولا سَمَحوا لِمَنْ يَرْغَبونَ بالدُّخولِ أَنْ يَدْخُلوا؟ أَمْ يَحْكُمُ على أَهْلِ النِّفاقِ والرِّياءِ والزَّنْدَقَةِ الَّذين يُظْهِرونَ ابْتِساماتٍ تَسْتُرُ خَلْفَها أَسْنَانًا مُسْتَعدَّةً لِنَهْشِ كلِّ مَنْ يُخالِفُ آراءَهُم ومُعْتقداتِهم؟ أَمْ يَحْكُمُ على الدَّاعينَ إلى التَّلاقي بكلامِهِم، وفي أَيْديهِم خناجِرُ جاهزةٌ للتَّنافُرِ والاقْتِتال والرَّفْضِ والتَّهْميش؟ أَمْ يَحُكمُ على القادَةِ السِّياسيِّين وواجِهاتِ المَذاهبِ لأَنَّهم مَا زالوا يَتَغَذَّوْن بالشَّحْنِ المَذْهَبيِّ مِنْ أَجْل تَدْعيمِ بَقائِهِم؟ أَمْ أَنَّه يحكُمُ على بعضِ المَوَارِنَةِ لأَنَّهم باعوا بَكوريَّتَهم بصَحْنٍ منَ العَدَسِ في الطَّائِف كما فعلَ عيسو وأَعْطى البَكوريَّةَ لأَخيه يعقوب؟
تُرَى لَوْ جاءَ نابوليون اليَوْم إلى لبنان، أَيُستَقْبَلُ برَشِّ الأَرُزِّ وماءِ الوَرْد، أَمْ أَنَّه يَلْقى مقاومةً من هذا وذاك ثمَّ يكتشف، كما اكتشفَ في مِصرَ، أَنَّ الشَّعْبَ لا يَسْتَأْهِلُ مَنْ يموتُ في سَبيلِهِ فيَحْكُمُ على المُقاوِمِ بالإعدامِ لأَنَّه لَمْ يعْرِفْ سخافَةَ الشَّعْبِ وعَدَمَ إخلاصِهِ لأَبْطالِه؟
تُرى هلْ يجِدُ عِنْدَ شَعْبِنا إدْراكًا واضِحًا لمَاضٍ عَبَر ولحاضرٍ دامٍ ولمُستقبلٍ مَجْهولِ المَعالِم؟ أَمْ أَنَّه سَيَجِدُ شَعْبًا يعيشُ على أَرْصفةِ الشَّوارِعِ يتلَهَّى بقَرْقَعاتِ الأَراكيلِ غافِلًا عَمَّا يُحاكُ له مِنْ أَيَّامٍ سودٍ تُغْلِقُ في وَجْهِهِ كلَّ الأَبْوابِ مَا عدا أَبْواب الرَّحيلِ ليَذوبَ كمَا حبَّات الرَّمْلِ على شطْآنِ المحيطات الواسعة في مَا يُسَمَّى عالَمُ الإغتراب؟ أَمْ أَنَّه سَيَجِدُ شَعْبًا تَعَرَّى مِنْ كلِّ الحقائِقِ والكَراماتِ وباتَ جائِعًا إلى الخُبْزِ مُتَناسِيًا أَوْ ناسِيًا أَنْ لَيْسَ بالخبز وَحْدَه يَحْيا الإنْسان؟ أَمْ أَنَّه سَيَجِدُ أُمَمًا تَدَّعي التَّلاقي لبُنْيانِ وَطَنٍ يعيشونَ فيه مَعًا، وفي بالِ كُلِّ أُمَّةٍ وطنٌ مُغايِرٌ لِمَا يصرِّحُ به لعَشيره أَو حليفِهِ أَو قريبِهِ أَو شريكِه، لأَنَّ الْتِصاقَ هذه الأُمَمِ باتَ مُسْتحيلًا في وَطَنٍ واحِدٍ يَجْمَعُ الجَميعَ ويَرْضَى بِهِ الجَميع، فَسَعَتْ كلُّ أُمَّةٍ بالقوَّةِ أَوْ بالدَّهاء، إلى امْتلاكِ زِمامِ الأُمورِ في الوَطَنِ تَيْئيسًا للآخَرين ودَفْعهم إلى الرَّحيل؟
نحن في شَوْقٍ إلى أَنْ يأْتِيَ أَيُّ نابوليون، لنَعْرِفَ نَفْسَنا ونَعرفَ بَعْضَنا ونَعْرِفَ أَنَّ الإخْلاصَ للوطنِ لَمْ يَعُدْ مَوْجودًا إلَّا في أَحْلامِ الهاربين، عَلَّنا نَسْمَعُ كلمةَ قداسةِ البابا مِنْ جديد: إلى أَيْنَ تَأْخُذونَ بَلَدَكُم؟