أَوَتصيرُ الحجارةُ خبزًا؟

الأب د. كميل مبارك
إنْ كنتَ ابنَ الله قُلْ لهذه الحجارة لتصيرَ خبزًا، ونحن اليوم وبعد أَلْفَيْ سنة من تلك الحجارة ومن ذاك الإبليسِ المُجَرِّب، ننظرُ إلى كلِّ ما حولنا وفي قلبِنا شهوةٌ تدفعُنا إلى تحويل هذه الحجارة إلى خبزٍ يعْنينا، ولكنَّه لا يُغْنينا. أَوَليْسَ المالُ حجارةً نَرْغَبُ فيه في مَخادِعِنا ونظنُّه زهرةَ أَحلامِنا وعِطْرَ آمالِنا، غافِلينَ عن التَّحذيرِ الإلهيّ، لا تعبدوا ربَّيْن؟ أَوَليْسَت السُّلْطةُ حجارةً نَرْغَبُ في اعْتِلائِها لتُعْطِيَنا كلَّ القوَّة التي نحتاجُ لنَقْتاتَ ونَقْوَى ونستمرَّ ولَوْ على حِسابِ ذاك المَأْمورِ أَو تلك، وإنْ شئْنا الامتدادَ الأَكبر نقول: على حساب كرامات الناس وخيراتِهم ومَقاماتِهم، فنضربَ بالحائط كلَّ القِيَم وكلَّ الفضائِل، لأَنَّ السلطةَ أسْكرتْنا فغابَ يَقينُنا وتاهَ عقلُنا عن الدَّربِ القَويم الذي رَسَمَه الله لكلِّ سلطةٍ، أَلا وهو خيرُ الناس وفرحُ الناس وسعادةُ الناس. كما غابَ كلامُ بولس الرَّسول حينَ ربَطَ السُّلطة الآتِيَة من الله بفِعْلِ إرادةِ الله وخيرِ الناس.
وأَوَليسَت العلاقات التي نَسْعى كي تربطَنا بمَنْ لهم في هذه الأرضِ الفانَيَةِ نفوذٌ، يعتقدون ونعتقد أنَّ بقاءَنا هنا لا تحدُّه الأَعمار ولا تقفُ عائقًا في دربه تقلُّبات الأَدهار. نبني أَحلامَنا وآمالَنا على مَتانَةِ هذه العلاقات واستمرارِها وكأَنَّ فيها ذاك الخبزَ الذي طلبَ الإبليسُ أَنْ يأْتِيَ من الحجارةِ ليَسْتَمِرَّ مسيحُنا في الحياة هَرَبًا من الجوع. أَوَليسَتْ أَطماعُنا التي تغذّي أَحقادَنا وتُنعشُ باستمرارٍ غرائزَنا، حجارةً نسعى بصِدْقٍ أَو بِرِياء، إلى تحويلِها سِلاحًا نوجِّهُه نحو الضَّعيف حينًا والقويِّ أَحْيانًا، كي نستخدمَ ذاك الضَّعيفَ حَطَبًا نُحْرِقُ فيه عُودَ القويّ ليذبُلَ رَمادًا، والهدفُ أَنْ نحلَّ محلَّه غيرَ عابئين بمصير الكثيرين، وكأَنَّ الناسَ ليسوا جميعًا من طينَةٍ واحدة، حَباهم الله نعمةَ أَنْ يكونوا صورتَه الوَهَّاجة في حَنايا هذه الأرض المُظْلِمَة.
أَوَلَيْستِ الغرائزُ التي استعرْناها من عالَمِ الحيوان الذي ينظِّمُ عبرَها حياةَ الغابات فيأكلَ الكبيرُ الصَّغيرَ ويهربُ الضَّعيفُ من القوي، وبِتْنا نسلُكُ سلوكَ هذه في أَرْضِنا مُحوِّلينَها إلى بَرَارٍ يعيثُ فيها الفسادُ الذي عَشْعَشَ في رؤوسِ النَّاس مُستقْوِيًا بمسامير ذاك الشَّيْطان الذي قال للمسيح: قُلْ لهذه الحجارة لتصيرَ خبزًا.
والمُضحِكُ يا أَعزَّائي، ولا أَجرؤُ على القَوْل المُبْكي، أَنَّ الكثيرين وفي جميع مراتبِ الناس الذين يسعَوْن من خلال المكاسِب والمناصِب إلى تحقيق سعادتِهم واستمرارهم وبقائِهم، غافِلينَ عن حُدودِ الأَعمار ناسينَ أو متناسين كلمةً طالَما سمعوها وردَّدوها ألا وهي كلمة السيِّد: لا تعلمون متى تأْتي الساعة. هم هكذا لأَنَّهم يرغبون، جائعين، بالخُلودَ تمامًا كما رَغِبَ أَبَوانا الأَوَّلان بالوُصولِ إلى الأُلوهةِ عبر الشَّجرة المُحرَّمة، والأَدْهى من كلِّ هذا أَنَّ الناسَ يعرفون النتيجةَ التي أَتَتْ من تلك الشجرة المُحرَّمة.
من هنا، جاءَ مبدأُ الصَّوْم الذي لا يحرمُنا من خيراتٍ وَضَعَها الله بين أَيْدينا، إنَّما يوقِظُ عقلَنا ونفسَنا وقلبَنا فيجعلها ترى، واضحةً كالثلج، العقابَ الأَليمَ الذي سنقعُ فيه إنْ حوَّلْنا كلَّ تلك الحجارة إلى خبزِ أَطْماعِنا. وإنْ شِئْنا الاستدراك، نُضيءُ على كلمةِ المسيح: ليس بهذا الخبز وحدَه يحيا الإنسان، فتعود كلمةُ الله إلى فِعْلِ ما أرادَ الله أَنْ تفعل.