مقابلة مع أ. د لويس صليبا
أ. د. لويس صليبا مُسْتَهْنِد ومدير أبحاث في المعهد العالي للدكتوراه وفي كلية العلوم الدينية في الجامعة اليسوعية/بيروت، وأستاذ في علوم الأديان والدراسات الإسلامية. صدر له حتى اليوم ستون كتاباً، من بينها: “زرادشت وأثره في الأديان الخمسة الكبرى: إيران المجوس جسر عبور بين أديان الشرقين الأقصى والأوسط” وكذلك كتاب “نحو الحوار المسيحي-الإمامي: بحوث في نقاط الالتقاء بين المسيحية والتشيّع”، التقيناه وتحدّثنا معه في واحد من مواضيع بحثه، فكان هذا الحوار:
-دكتور لويس عقيدة المخلّص الآتي ووجوب انتظاره نجدها في أكثر الأديان، ولكن أيّها كان الأسبق تاريخيّاً إلى القول بها وتبنّيها؟
ج: سؤال مهمّ ومن شأن الإجابة عنه أن تسلّط الكثير من الأضواء على جوانب لا تزال ملتبِسة في هذا الموضوع.
كنتُ، وكسائر أكثر الناس، أعتقدُ أن اليهوديّة هي السبّاقة إلى الحديث عن المخلّص أو المسيح المنتظر. ولكننّي عندما بحثتُ تاريخيّاً وأكاديمياً في الموضوع اكتشفتُ ما فاجأني. فالعقيدة المسيحانية إو انتظار المخلّص الآتي لا أثر لها بتاتاً في التوراة. والمقصود بالتوراة هنا المعنى الحصري للكلمة، أي الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم (أسفار الشريعة) والتي ينسبها التقليد إلى النبي موسى: التكوين، الخروج، الأحبار، العدد، وتثنية الاشتراع. ولا نجد أثراً للعقيدة المسيحانية عند اليهود إلا بعد السبي البابلي!
-ماذا يعني ذلك برأيك؟
لم يفكّر العبرانيون بالمخلّص الموعود أو المسيح المنتظر ماشيّا أي الممسوح إلا بعد أن أوقعهم نبوخذنصّر في الأسر واقتادهم أذلّاء مسبيين إلى بابل.
-هل يعني ذلك أن عقيدة المسيح المخلّص ظهرت نتيجةً للذلّ الذي تعرّضوا له، وشوقهم للخلاص منه؟
ج: قد يكون هذا الذلّ ساهم بطريقة ما في ظهورها، ولكن السبب الحاسم والمباشر يبقى الأثر الفارسي/الزرادشتي.
-كيف تستنتج ذلك؟
يبدو ذلك واضحاً في التوراة. فسفر أشعيا وهو السفر المسيحاني بامتياز يسمّي الأمبراطور الفارسي قورش مسيح الربّ: {هكذا قال الربّ لمسيحه: لقورش الذي أخذتُ بيمينه لأخُضع الأممَ بين يديه. إنّي أسيرُ قدّامك فأقوّمُ المعوجّ، وأحطّم مصاريع النحاس لتعلم أني أنا الربّ إله إسرائيل الذي دعاك باسمك} (أشعيا45/1-3).
وقورش كما هو معروف، هو من خلّص العبرانيين من السبي البابلي.
-ولكن هل يعني ذلك أن عقيدة المسيح المخلّص مأخوذة عن الزرادشتيين/الفرس؟
بيّنتُ في كتابي “زرادشت وأثره في الأديان الخمسة الكبرى” أن الشتات اليهودي بدأ في إيران، وهناك بلغ التفاعل الزرادشتي-اليهودي ذروته، حتى سمّي التلمود البابلي “التلمود الإيراني”.
ومن ناحية أخرى فعقيدة المخلّص الموعود واضحة، بل هي أساسية في الزرادشتية، ونجدها مذكورة في أقدم نصوصها المقدّسة. ففي أناشيد زرادشت أو الكاتا أنتظارٌ مسيحاني واضح. فزارا يتحدّث فيها عن رجل بارّ سيظهر في المستقبل، ويرشد إلى طريق الخلاص، جاء في يسنا 43/3: {عسى ذاك الرجل يُهدينا الصراطَ المستقيم، وننعمُ ببركة حياتِه الجسمانية والروحية، وبكلماتِه الأزليّة التي يقطنُ فيها أهورا} (زاردشت، ص189).
وفي آية أخرى من الأفستا يسمّى هذا المخلّص ساوشيانت Saoshyant، جاء في يسنا 45/11: {بالإيمان بـِ ساوشيانت الجوّاد، وهو كربّ القدرة الحافظة.}
وتشير متونُ الأفستا إلى رسوخ عقيدة المخلّص منذ ظهور الزرادشتية. فزرادشت هو المخلّص الأول، وهناك من سيعقُبه على رأس كلّ ألف عام. وإن ابناً ستنعقد نُظفته في رحم عذراء من نسل زرادشت أثناء الاغتسال سيولد في أواخر كلّ ألفٍ من الآلاف الثلاثة الباقية.
-هل ترى إذاً أن اليهوديّة قد أخذت عن الزرادشتية عقيدة “المسيح المخلّص”؟
يبدو ذلك واضحاً للباحث في تاريخ الأديان والأديان المقارنة، وليس الأثر هذا مقصوراً على اليهودية، فالتفاعل بين الزرادشتية والبوذية على أرض إيران: بلخ وغيرها، أدّى إلى نتيجة مماثلة: فعقيدة مايتيريا Maitreya، أي بوذا الذي سيأتي كمخلّص في المستقبل محاكاة واضحة لعقيدة ساوشيانت الزرادشتية. وهكذا يبدو أن الزرادشتية غرست في البوذية انتظاراً مسيحانيّاً واضحاً. والمخلّص المنتظر مفهوم عمّمته الزرادشتية على أكثر الأديان، فعنها أخذته اليهوديّة كما أسلفنا، والمسيحية من بعدها ثمّ الإسلام ولا سيما بوجهه الشيعيّ الإماميّ.
-هل يعني ذلك أن زرادشت هو في أساس ثقافتنا الدينية؟!
لستُ أوّل من قال ذلك. لنصغِ إلى المفكّر الأميركي المعروف هارولد بلوم الذي يقول: «يبدو أن زرادشت هو من ابتكر مفهومَنا الدينيّ للنبوّة وللرؤيا التنبّؤية والعصر الألفي، أي العصر الذي سيملُك فيه المسيح على الأرض، وهي أفكار لم توجد قبله. وبصورةٍ مدهشة أحياناً تنكسر أفكارُ زرادشت الأصليّة وتنعكسُ انكسارَ الأشعةِ وانعكاسها لتظهر في النبؤات الرؤيوية اليهودية المتأخّرة، وفي الغنوصية وفي المسيحية الباكرة، كما طَفَت وظهرَت في التشيّع الذي يسيطر على إيران اليوم.» (زرادشت، ص195).
-كلام المفكّر بلوم ينقلنا مباشرة إلى الحديث عن الإمام المهدي، وقد درستَ في كتابك “نحو الحوار المسيحي-الإمامي” آراء المستشرقين فيه، فمن هم أبرز هؤلاء الدارسين وماذا قالوا؟
الموضوع شائك ومتشعّب وطويل. لذا اكتفي بمستشرقين: أجناس جولدتسيهر (1850-1921) وهنري كوربان.(1903-1978)
وخلاصة نظرية جولدتسيهر في المهدي، أن فكرة الرجعة يُحتمل أنها تسرّبت إلى الإسلام عن طريق المؤثرات اليهوديّة والمسيحية. فعند اليهود والمسيحيين أن النبي إيليا (الياس في القرآن) قد رُفع إلى السماء، ولا بدّ أن يعود في آخر الزمان. واليهود في حالة انتظار إيليائي. ويضيف جولدتسيهر أن المهدي في الإسلام، وعند الشيعة خصوصاً، رجع صدى، وطبعة جديدة منقّحة ومزيدة لنظرية التيّار الإيليائي في اليهوديّة والمسيحية.
أما هنري كوربان، فقد درس وتبسّط في تطوّر فكرة ومفهوم المهدي عند الشيعة لا سيما في موسوعته “في الإسلام الإيراني”. وهو يرى أن عقيدة المهدي إذا كانت قد عرفت في الإسلام الشيعي تطوّراً وتوسّعاً لم تعرفه عند أهل السنّة، فذلك يعود إلى أثر فارسي/زرادشتي مباشر.
-وماذا تقول أنت في هذه المسألة؟
خلاصة ما وصلتُ إليه في كتابي “نحو الحوار المسيحي-الإمامي” أن الإمام المهدي، عليه السلام، عنوان لقاء مسيحي-إسلامي عموماً، ومسيحي-إمامي خصوصاً.
-كيف ذلك؟
طوّرتُ في كتابي هذا نظريتي التي أسميتها “البدلية” بين المسيحية والإمامية. ومثل على ذلك البحث المستفيض عن مريم العذراء وفاطمة الزهراء، والذي يبيّن كيف رُسمت صورةُ السيدة فاطمة، عليها السلام، في التشيّع بملامح مريميّة. ومثلٌ آخر بحث ثانٍ وعنوانه “المهدي والمسيح: بحث في التفاعل والبدلية بين المسيحيّة والإمامية”.
-ماذا تعني بالبدلية في ما يخصّ المسيح والمهدي؟
ج: المسلمون والمسيحيّون يختلفون في مسألة صلب المسيح. ولكنّهم يتّفقون في مسألة رفعه إلى السماء، على اختلاف في التفاصيل. في الإنجيل أو بالحري العهد الجديد/سفر أعمال الرسل (1/9) نقرأ الآية التالية: {ارتفع يسوع إلى السماء وهم يشاهدونه، ثم حجبتْه سحابةٌ عن أنظارهم}
وفي القرآن (النساء4/157-158): {وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه}
يتّفقُ المسيحيّون والمسلمون إذاً على أن المسيح لا يزال حيّاً بالروح والجسد، في مكان ما، أو لنقُل في السماء.
ولمّا كان لمّا يزل حيّاً بالجسد حتى، فالمسيحيّون في كل زمان ومكان هم في حالة انتظار دائم لعودة المسيح. ففي الإنجيل (أعمال الرسل 1/10): {يسوع هذا الذي صعد عنكم إلى السماء، سيعود مثلما رأيتموه ذاهباً إلى السماء}. لذا فهُم يهتفون في صلواتهم الآية التي يكرّرها الإنجيل مراراً: “ماران آتا” أي تعال أيها الربّ يسوع (1كورنتس16/22 ورؤيا يوحنا 22/20).
ولأن المسلمين يعتقدون هم أيضاً أن المسيح لمّا يزل حيّاً بالنفس والجسد، فهم يقولون كذلك بعودته.
-ما دور الإمام المهدي هنا وماذا عن البدلية التي تحدّثتَ عنها؟
هذا الانتظار المسيحاني في المسيحيّة، وفي الإسلام كذلك، كان من شأنه أن يرسمَ صورةَ الإمام المهدي بملامح مسيحانيّة. فهو الذي يأتي في آخر الأزمنة مع المسيح، وهو لا يزال مِثله حيّاً بالروح والجسد، وفي مكان ما. الملامح المسيحانية واضحة في الصورة المرسومة للإمام المهدي ودوره. حتى إن بعض المفكّرين المسلمين أمثال مصطفى كامل الشيبي وغيره يقولون، إثر بحث مستفيض، إن لفظة مهدي تعريب للفظة المسيح الموجودة في التوراة!
-ماذا يمكننا أن نستخلص من كلّ ذلك برأيك؟
أعود إلى خلاصة بحثي: الإمام المهدي عنوان لقاء مسيحيّ-إمامي. ولا يتّسع المجال هنا لأتوقّف عند الكثير من الملامح المسيحانية التي رُسمت بها صورته. لكنّني أقتصر على الرواية الشيعية عن والدة هذا الإمام: نرجس أو مليكة. وقد رأى العديد من الباحثين أن هذه الرواية أقرب إلى الأسطورة منها إلى الحدث التاريخيّ. أياً يكن. فرمزيّتها هي التي تهمّني هنا: مليكة هي من نسل شمعون/بطرس وصيّ المسيح وخليفته ورأس حوارييه. والنبي محمد، عليه الصلاة والسلام، يخطبها من بطرس لابنه الإمام الحسن العسكري والد الإمام المهدي بحضور المسيح، كما تخطُبها فاطمة لابنها الحسن العسكري من مريم. وبهذه الرواية يَجمع الإمام المهدي بين التقليدين المسيحي والإسلامي، ولا سيما الإمامي منه في لقاء فريد وترنسندنتالي، لم نستثمره بعد كما يجب في تفعيل حوار مثمر وبنّاء بين التقليدين.
-كيف يمكن لعقيدة الإمام المهدي برأيك أن تكون ركيزة حوار وتلاقٍ بين المسيحيّة والإسلام؟
هذا ما قُلته وأكّدتُ عليه في خاتمة بحثي المذكور، حيث جاء (نحو الحوار المسيحي-الإمامي، ص318): «المسيحيّة والإماميّة كلاهما كما بينّا في حالة ترقّبٍ وانتظار. وأنظارُ كلا الجماعتين مشدودةٌ تتطلّعُ إلى الآتي. ومن يذُق لوعةَ الانتظار يعي شوقَ نظيرِه الناطرِ مثلَه ويسهلُ عليه فهمُه وتفهّمُه»