عندما رغب الأميركيون بدعم وديعتهم في مصرف لبنان محمد بعاصيري، توجّهت السفيرة الغليظة دوروثي شيا إلى السرايا الحكومي في رياض الصلح، وفاتحت رئيس الحكومة حسان دياب بالتمديد له كما لو أنّ الأمر يتعلّق بموظف أميركي في إدارة أميركيّة، ولكن دياب المحصّن بوطنيّة عالية، أجاب على طرحها بسؤال من 5 كلمات يحمل رفضاً قاطعاً: هل تقصدين المصرف المركزي الأميركي؟
كان وقع ردّ دياب كبيراً على “كبيرة الدبلوماسيين”، لأنّها لم تعتد على سياسيين من قماشته، فأعدّت العدّة لقلب الطاولة عليه.
لم يكن خافياً على أحد، أنّ شيا لعبت أدواراً انقلابية، ونجحت بمساعدة الداخل كلّ الداخل، في توضيب أغراض حسان دياب ونقلها من رياض الصلح إلى منزله الكائن في محلة تلّة الخيّاط، وقد سهّل لها دياب قلب الطاولة عليه، باتّخاذه قرار قلب الطاولة على رياض سلامة، فكان أن استنسخ تجربة عمر كرامي.
في كتابه “الانقلاب على الطائف” يروي ألبير منصور وقائع الانقلاب على عمر كرامي، وكيف أنّ ميليشيا المال وميليشيا الأحزاب نفذا مخطّط الانهيار بمساعدة مصرفيّة، بهدف إبعاد كرامي عن السرايا، الأمر الذي جعل دولة “الأفندي” ينصرف إلى منزله بقرارٍ منه.
نفس العدّة الميليشياوية ـ المصرفيّة التي استُخدمت في زمن عمر كرامي استُخدمت في زمن حسان دياب، والفارق الوحيد هو أنّ الأوّل استعجل الرحيل، فيما الثاني تمهّل، والنتيجة واحدة: انهيار. ولكن الانهيار الثاني كان بمساعدة ومباركة أميركيّة، ولذلك طال أمده وتعمّق.
أجهز الانهيار الثاني على كلّ مفاصل الدولة وأجهزتها التي شهدت تحللاً غير مسبوق، ولكن بقيت مؤسسة الجيش صرحاً شامخاً على كومة دمار شامل، تُمسك بالأمن بيد من حديد رغم الوضع المالي المهترىء، ورغم الاجتياح البشري السوري ومخاطره الأمنيّة، ورغم الجيوب الفلسطينيّة التي لا تقلّ خطراً عن الاجتياح السوري.
عدم انزلاق مؤسسة الجيش نحو الانهيار لم يكن من باب الصدفة، بل كان قدراً كُتب بخطّ قائدها الذي أكسبته مناعته ثقة الخارج، وقد احترف السير بذكاء على حواجز الدولة العميقة، قافزاً فوق مكائد غرف العمليات، ومتجاهلاً التحالفات الموضوعية بين أعداء النجاح.
فرغم السيوف السياسيّة التي استُلّت من أغمادها لطعنه، لا يشكّ إثنان في حكمة وحنكة قائد الجيش العماد جوزيف عون، الذي لا تطابق جيناته الوراثيّة جينات الطبقة السياسيّة. وعليه السؤال الذي يطفو: هل يغادر عون اليرزة في 10 كانون الثاني مخلّفاً بعده مرحلة ضبابيّة، وسقوطاً لآخر الأعمدة المسيحية في البنيان الدولتي، وتشريعاً لإدارة البلد من دون المسيحيين؟
.
لا قرار في الأفق لجلسة تمديد لقائد الجيش، ولا جدول لأعمالها، والرجل الأوّل المعني بها، يتصرّف منذ أشهر كما لو أنّه مغادر، وعليه يرتّب شؤون عائلته العسكرية ليطمئن إلى وضعها في الفترة التي ستلي مغادرته، ومع ذلك يتصدّر التمديد أعمال المرحلة السياسيّة الراهنة، إذ ثمّة حاجز كنسي يعترض خروجه من اليرزة، يبدأ في روما ولا ينتهي في بكركي.
تسأل دوائر البطريرك الماروني زواره من المسيحيين المعترضين على التمديد: ماذا ستقولون لشارعكم لدى سؤاله لكم عن السماح بتعيين سنّي على رأس الجمهوريّة، وشيعي على رأس الحاكميّة، ودرزي على رأس المؤسسة العسكريّة؟ وتقول أوساط بكركي إنّه رغم موضوعية السؤال تأتي الأجوبة لا موضوعية، وتعتبر أنّ عدم التمديد لقائد الجيش يعني انكسار اليرزة المفيدة أمام الدويلات العميقة والعقيمة.. ولدى سؤال هذه الأوساط عن كيفية تجاوز المعترضين تجيب بسؤال آخر: ألا يتجاوز التمديد الداخل إلى الدول المعنيّة باستقرار لبنان؟