معركة عين جالوت وهزيمة المغول التتر على يد المماليك بقيادة قطز والظاهر بيبرس

يذكر ابن النفيس في مذكرت له أملاها على أحد الوراقين الذين يثق بهم ، أنه بسبب قتامة الأخبار الواردة من بلاد العراق والشام التي صارت مرتعا للرعب وملعبا لعنف وهمجية التتر المغول ، حيث جاءت الأنباء باقتراب جيش المغول بقيادة كتبغا نوين من مصر ، عم الفزع أنحاء البلاد وارتعب أهل القرى والمدن واستعد كثير منهم للنزوح من ديارهم واللجوء الى نواحي الصعيد إلا أنني قررت البقاء في القاهرة .

عندما اقترب القائد المغولي كتبغا نوين بجيشه من مصر وحام الحمى بعساكره أعلن النفير العام في النواحي المصرية وخرجت الجموع لصد جحافل المغول التتر ، جمع كبير من فرسان المماليك ورجال الدين وفرسان العربان وجموع الناس قد برزوا لقتالهم خارج مصر ، قاد بيبرس الهجوم بنفسه متقدما كعادته الصفوف ومنفذا الحيلة الحربية ، التي قهر بها الفرنجة الصليبيين من قبل في موقعة المنصورة .

فقد اندفع نحو جيش المغول التتر موهما إياهم بأنه أخرق وغير منظم الصفوف ، ثم فر من الميدان بعساكره مستدرجا التتر المغول الى مصيدة ، كانت كامنة في الخفاء بقيادة ” السلطان قطز ” فلما وقع التتر المغول في الفخ أطبق عليهم جيش قطز الذي كان مختبئا ، وجيش بيبرس الذي كان يوهمهم بهروبه ، فانطحن عسكر التتر المغول بين شقي الرحا وهكذا انتصر المصريون على المغول سنة ستماية وثمان وخمسين هجرية بعد حرب ضروس جرت عند بلدة عين جالوت .

وجالوت هذا المذكور في القرآن هو زعيم قديم ، حارب النبي داود في غابر الزمان فقتل داود جالوت …. عقب موقعة عين جالوت وكما هو معهود من المماليك ، قتل بيبرس قطز لأنه توجس منه شرا فقال أمراء المماليك وكبار فرسانهم لبيبرس : أجلس على العرش مكان السلطان قطز ، ذلك أن هولاكو كان قد عاد بقسم من جيشه الى بلاده لمنازعة إبن عمه ” بركان خان ” الناقم عليه .

وقد صدمه إنتصار المسلمين على عساكره في عين جالوت ، ومقتل قائده المحنك كتبغا نوين على يد أمير الحرب جمال الدين آقوش بطريقة مفزعة ، إذ اندفع آقوش بشجاعة فائقة فاخترق صفوف التتر حتى وصل الى كتبغا نوين وصرعه بطعنات سريعة متتالية ، أسقطت الهيبة التي كانت سابقا لعسكر المغول وقادتهم .

لما علم هولاكو بما جرى في عين جالوت لم يستطع العودة بجيشه الى الشام ، قبل حسم أموره بين ” بركة خان ” وبينه حيث جرت مناوشات عديدة ومطاردات بين الجيشين التتريين ببلاد التتر ، وفي ختام تلك المناوشات والمصادمات التي دارت بنواحي صحارى ” قرة قورم ” الواقعة شرقي البحر الأسود احتدمت الحرب بين الجانبين التتريين وعندما اصطدم الجيشان انهزم جيش هولاكو أمام جيش ” بركة خان ” الذي كان آنذاك قد أعلن إسلامه وسلم قيادة جيشه لإبن أخيه نوغاي الذي كان قد أعلن إسلامه هو الآخر .

كان ” بيبرس ” يجلس على عرش مصر آنذاك سلطانا منذ سنة ونصف السنة ، وبينه وبين بركة خان مراسلات وتجارات وتحالفات ما لبثت أن صارت صلة مصاهرة ، إذ تزوج بيبرس إبنة ” بركة خان ” وأنجب منها ولداً أسماه بركة خان على إسم جده لأمه ، ومع جريان أنهار المودة بينهما استجاب بيبرس لدعوة بركة خان باستيعاب عسكر التتر المغول الذين كانوا مع المهزوم هولاكو ، وصاروا بالعراق والشام حائرين فاستقدمهم بيبرس الى القاهرة وأسكنهم بأرض اللوق وخلع عليهم وأسند إليهم الوظائف .

انشغل الظاهر بيبرس خلال سنوات حكمه الأولى بتثبيت دعائمه وسلك في سبيل ذلك كل السبل فرفع عن فقراء الناس ما رسمه سابقوه من المكوس والضرائب الباهظة ، وألزم نفسه وغيره من الأمراء والأثرياء بإطعام المعدمين وسداد نفقات إعاشتهم ، وصادر أموال الأغنياء للإنفاق على الفقراء واعتنى بمد وتعمير الطرق وأكثر من بناء المدارس والمساجد .

كما قمع الثورات التي اندلعت ضده من فلول الأيوبيين ، وتصدى للمكائد التي حيكت للإضرار به والمؤامرات التي سعى مدبروها للنيل منه فنال هو منهم ، وسلب ما كانوا يملكونه وهكذا انشغل بما هو فيه ، مثلما انشغلت بما أنا فيه فلم يجمعنا إلا لقاء واحد وكان عمري آنذاك في حدود الخامسة والخمسين سنة .

عبد الهادي محيسن …. كاتب وباحث