الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
قال الله تعالى في القرآن الكريم:{يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا} سورة الأحزاب.
وجاء في كتاب “الروض الأُنُف” للحافظ عبد الرحمن السُّهيلي في الكلام على عامر بن الظَرِب بن عمرو العَدْوَاني (أحد مشاهير العصر الجاهلي) أن العرب كانوا في الجاهلية لا يكون بينهم نائرةٌ (عداوة وشحناء وفتنة) ولا عُضْلَةٌ (المشكلة الشديدة التي استعصى حلُّها) في قضاءٍ إلا أسندوا ذلك إليه ثم رضُوا بما قضى به فاختصم إليه في بعض ما كانوا يختلفون فيه بعضهم بميراث خنثى (أي لا يُعرف أهو ذكرٌ أو أنثى لاشتمال جسده على علامات ذكورة وعلامات أنوثة والخنثى على نوعين ولأهل العلم فيه كلام) أيُعطى نصيب رجلٍ أم يُعطى نصيب أنثى وكان هذا الخنثى له ما للرجل وله ما للمرأة (أي له آلة الذكورة وآلة الإناث) فقالوا: أنجعله رجلًا أو امرأة (أي نحكم له بحكم الرجل أو بحكم المرأة) ولم يأتوه بأمر كان أعضل (أشد) منه. فقال: حتى أنظر في أمركم فوالله ما نزل بي مثلُ هذه منكم يا معشر العرب فاستأخروا عنه فبات ليلته ساهرًا يُقلِّب أمره وينظر في شأنه لا يتوجَّه له منه وجه (لا يهتدي فيها لوجهٍ يراه حكمًا للقضية).وكانت له جاريةٌ يقال لها سُخَيْلَة ترعى له غنمه وكان يُعاتبها إذا سَرَحت (خرجت أول النهار للرعي) فيقول صَبَحت والله يا سُخيل (أي طلع الصباح وتأخرتِ في تسريح الغنم حتى سبقك الناس صباحًا) وإذا أراحت (رجعت). قال: مَسَيت والله يا سُخَيل (أي دخل المساء وتأخرت في العودة بالغنم) فلما رأت سهره وقلقه وقلة قراره في فراشه قالت: ما لكَ لا أبا لك (كلمة تقولها العرب) ما عراك (أصابك) في ليلتك هذه؟ قال: ويلك دعيني، أمرٌ ليس من شأنك. ثم عادت له بمثل قولها (أعادت عليه نفس السؤال) فقال في نفسه: عسى أن تأتي مما أنا فيه بفَرَجٍ فقال: ويحك اختُصِم إليَّ في ميراث خنثى أأجعله رجلًا أو امرأةً فوالله ما أدري ما أصنع ما يتوجَّه لي فيه وجهٌ فقالت: لا أبا لك أتبع القضاءَ المبَال(مكان خروج البول) إن بال من حيث يبول الرجل فهو رجل وإن بال من حيث تبول المرأة فهي امرأة. فقال: مَسِّي سُخيل بعدها أو صَبِّحي (أي اخرجي ساعة شئت للرعي من الصباح وعودي متى شئت مساءً) فرَّجتها والله ثم خرج على الناس حين أصبح فقضى بالذي أشارت عليه به”.
وفي “تاج العروس” للزبيدي أنهم مكثوا عنده أربعين ليلةً يطعمهم ويُدافعهم(يؤجِّل) بالقضاء فقالت الجارية: ما شأنك قد أتلفت مالك فأخبرَها أنه لا يدري ما حُكم الخنثى فقالت: “أتبعه مباله”. وقال النووي في “المجموع”: “قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ من أهل العلم على أن الخنثى يُورَّث من حيث يبُول” أي إن بال من آلة الذكورة له حكم الذكر وإن بال من آلة الأنوثة له حكم الإناث.
وإنما حكم العلماء بذلك لأنه قد دلَّ الدليل عليه لا اعتمادًا على ما قضى به أهل الجاهلية وقد ورد في الشرع الشريف ما يُستنبط منه هذا الحكم ولسنا في صدد ذكر الدليل على ذلك، وربما بال الخنثى من الآلتين ولأهل العلم فيه خلافٌ وكلامٌ طويلٌ ليس موضوعنا.
وروي أن الإمام الأوزاعي قال تعقيبًا على هذه القصة: “هذا رجلٌ مشركٌ لا يرجو جنةً ولا يخاف نارًا ولا يعبد الله (وذلك أنه كان من أهل الجاهلية قبل البعثة) ويتوقف في مسألةٍ أربعين يومًا حتى يُفتي (يقضي) فيها فكيف بمن يرجو الجنة ويخاف النار كيف ينبغي له أن يتحرَّى إذا صُدِّر للإفتاء وإذا سُئل أمرًا عن الله جل وعلا”.
صدق الأوزاعي
قلت: وصدق الإمام الأوزاعي وما أحوجنا إلى مثل هذا التذكير في زماننا ليكون أحدنا على بصيرةٍ من أمره، فقد كان عامر بن الظرب من أهل الجاهلية وليس يخفى ماذا يعني عصر الجاهلية ومع ذلك كان منه ما كان من التمهُّل والنظر وعدم الاستعجال في الحكم حتى نبَّهته الجارية فما بال كثيرٍ من أدعياء المشيخة اليوم أو غيرهم من أصحاب الشهادات أو المواقع المتقدمة لا يتورَّعون عن الفتوى بغير علمٍ بل ولا يقبلون النصيحة إذا ما تبيَّن لهم خطؤهم بل ربما عنَّف أحدُهم من نصحه، وكم من أناسٍ يظن أحدهم بنفسه أنه أهلٌ للفتوى والاجتهاد في الدين وهو في الحقيقة من أجهل الجاهلين وتراه لا يعرف من العلوم الضرورية شيئًا.
وإزاء ذلك نقول: إن السكوت أفضل من الكلام بغير علمٍ وإن الإجابة بلا أدري خيرٌ من الفتوى بالباطل ومن لم يعدَّ كلامه من عمله كان ما يفسد أكثر مما يُصلح. ولقد قيل: “زلةُ العَالِم زلةُ العَالَم” فكلامك من جملة عملك الذي تقدِّمه ويُحصى عليك خيره وشره فترى ذلك يوم القيامة. ومن أيقن أنه مسؤولٌ ذلك اليوم حاسب نفسَه وفكَّر فيما يقول قبل أن ينطق بشىءٍ. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فينبغي أن يعرض نفسه على الجنة والنار إن سُئل في مسألةٍ وينظر كيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يُجيب، فمن تذكَّر ذلك كان الجدير به أن يضبط نفسه ولا يتسرع في الفتوى فقد روى يعقوب بن سفيان الفَسَوي في “المعرفة والتاريخ” أن عبد الله بن عمر قال:”إنكم تستفتونا استفتاء قومٍ كأنَّا لا نُسأل عمَّا نُفتيكم” معناه نحن نُسأل عمَّا نُفتي به يوم القيامة فينبغي أن نلزم الحذر لا أن يطلق أحدنا لسانه في المسائل بناءً على ما يمليه عليه رأيه السقيم، فإن السلامة في الدين لا يعدلها شىءٌ، ومن كان فطنًا علم أن السائل في الدين إنما يقصد عادةً من وثق به ورأى فيه الأهلية والأمانة العلمية فليكن عند حسن ظنه بأنيُجيب بعلمٍ أو يقف حيث لا يدري حتى لا يكون غاشًّا فإن الأمانة في العلم أهم من الأمانة في المال فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليَصْمُت” متفقٌ عليه. والحمد لله أولًا وآخرًا.