ـ تقرير صحيفة عبرية عن قصف مروحية إسرائيلية لمواطنيها في 7 أكتوبر واكتشاف أن 200 جثة ليست لإسرائيليين وإنما لفلسطينيين واعتراف إيهود باراك أن الملاجئ تحت مستشفى الشفاء شيدتها تل أبيب وليس حماس.. يشكك في الرواية الإسرائيلية
“يمكنك أن تكذب على كل الناس بعض الوقت، ويمكنك أن تكذب على بعض الناس كل الوقت، ولكن لا يمكنك أن تكذب على كل الناس كل الوقت”.
هذا المثل ينطبق على الجيش الإسرائيلي، الذي أطلق أكاذيب لتبرير حربه الوحشية على قطاع غزة صدقها الرأي العام العالمي بشكل أعمى قبل أن تتصدع الرواية بعد انكشافها، ما يهدد بانهيار السردية الإسرائيلية وخسارتها الحرب الإعلامية أمام الرأي العام.
سردية الجيش الإسرائيلي حول ما جرى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وما تم تسويقه على نطاق عالمي بشأن “جرائم حماس” و “حق الدفاع عن النفس”، لتبرير المجازر التي ترتكب في قطاع غزة، توشك أن تنهار بعد انكشاف زيف الكثير مما تم ترويجه، لكن هل سيكون ذلك كافيا لوقف الحرب ومحاكمة مجرميها؟
أخطر ما تم تسريبه حول الأكاذيب التي لفقها الجيش الإسرائيلي لحركة حماس في هجومها على بلدات وقواعد عسكرية إسرائيلية في غلاف غزة، ما ذكرته صحيفة “هآرتس”، بأن تقييمات المؤسسة الأمنية أظهرت أن “مروحية قتالية تابعة للجيش الإسرائيلي وصلت إلى مكان الحفل (قرب كيبوتس رعيم في غلاف غزة)، وأطلقت النار على منفذي هجمات هناك، وكما يبدو أصابت أيضا بعض المشاركين في المهرجان”.
وهذه الشهادة، التي حاولت الشرطة الإسرائيلية نفيها، تتقاطع مع شهادات أخرى لمستوطنين تتحدث عن قتل الجيش الإسرائيلي لفلسطينيين وإسرائيليين بشكل عشوائي، وقصف قاعدة عسكرية هاجمها مقاتلو حماس في 7 أكتوبر، كان يختبئ بها جنود إسرائيليون.
بل إن الجيش الإسرائيلي ذاته أقر ضمنيا بوقوع أخطأ في إحصاء عدد القتلى الإسرائيليين في 7 أكتوبر، عندما قلص عددهم من 1400 إلى 1200، بعد أن اكتشف أن 200 جثة متفحمة تعود لفلسطينيين.
ما يعزز أن السردية الإسرائيلية حول ما جرى في بداية الحرب، والتي تحدثت أن مقاتلي حماس أحرقوا جثث أطفال واغتصبوا النساء وإلى ما لذلك من فظاعات، لم تكن صادقة بالمطلق وصدقها الرأي العام الغربي كحقيقة غير قابلة للتشكيك، رغم أنه لم تخرج أي امرأة إسرائيلية وتزعم أنها تعرضت للاغتصاب.
ورغم نفي حماس ارتكاب مقاتليها لأي من المزاعم الإسرائيلية التي روجه لها الإعلام الأمريكي والغربي على نطاق واسع، إلا أنه لم يكن هناك في الغرب من يرغب في سماع الرواية الأخرى، قبل أن يأتي الاعتراف من داخل إسرائيل ذاتها ليصطدم كل من صدق السردية الإسرائيلية من البداية بشكل أعمى ودون تمحيص ولا حتى انتظار تحقيق من هيئات مستقلة أو حتى من هيئات إسرائيلية.
فليس من المستبعد أن تكون كل الجثث المتفحمة أو بعضها على الأقل قصفت بصواريخ وقذائف حارقة، ومن المعروف أن من يملك هذه القوة التدميرية هو الجيش الإسرائيلي، بدليل اعتراف الأخير بأن 200 جثة تعود لفلسطينيين بعدما كان يعتقد أنها لإسرائيليين.
والصور والفيديوهات التي نشرها الفلسطينيون في7 أكتوبر، أسلحة خفيفة ومتوسطة، وحتى الصواريخ التي أطلقتها يومها كتائب القسام ذات تدمير محدود، وكان هدفها الرئيسي تضليل القبة الحديدة لتسهيل تجاوز مظلات مقاتليهم الجدار العازل.
ـ انتشار التضليل ووأد الحقيقة
والمؤسف حقا أنه بعد أكثر من 50 يوما، لم تشكل أي لجنة تحقيق دولية لتوضيح ما جرى بالضبط في 7 أكتوبر، وأهمية ذلك أن الجيش الإسرائيلي ضخم أعداد القتلى ولفق تهم لحماس ثبت كذبها مثل حرق الأطفال وقطع رؤوسهم واغتصاب النساء، وانطلاقا من هذه السردية برر قتل أكثر من 4 آلاف طفل فلسطيني.
والأسوأ عندما يتولى نجوم إعلاميون ترويج مثل هذه الروايات المغلوطة على غرار الإعلامية الأمريكية سارة سيدنر، التي زعمت على الهواء مباشرة، أن مقاتلي حماس قتلوا أطفالا إسرائيليين، في 7 أكتوبر، وانتشر مقطعها المصور كالنار في الهشيم على شبكات التواصل الاجتماعي، حتى بعد اعتذار سيدنر، عن هذه المعلومة الكاذبة، التي روجته تل أبيب، قبل أن تتراجع عنها وتضع الإعلامية في موقف مهني محرج.
وتبرر سيدنر، هذه السقطة الإعلامية، بأن “مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياه، قال إنه تأكد من قيام حماس بقطع رؤوس الأطفال والرضع بينما كنا على الهواء مباشرة”، وتستدرك “وتقول الحكومة الإسرائيلية اليوم إنها لا تستطيع تأكيد قطع رؤوس الأطفال. كان يجب أن أكون أكثر حذرا في كلامي. أعتذر”.
وليست سيدنر، وحدها من سقطت ضحية هذه الدعاية الإسرائيلية الكاذبة، فالرئيس الأمريكي جو بايدن، ردد رواية “قطع مقاتلي حماس رؤوس الأطفال”، قبل أن يتراجع البيت الأبيض عن هذه التصريحات، ويبررها بأنها كانت مبنية على “مزاعم” مسؤولين إسرائيليين وتقارير إعلامية محلية، دون أن يعتذر عنها.
لكن هذه الأكاذيب أصبحت قناعة لدى قطاع واسع من الرأي العام الغربي خاصة الداعمين لإسرائيل، ولم يكن الاعتذار أو التراجع عنها كافيا لمحوها من الأذهان.
ومزاعم وجود مقر القيادة الرئيسي لحركة حماس أسفل مجمع الشفاء غربي مدينة غزة، والتي تم ترويجها بشكل واسع، لتبرير مهاجمة المستشفيات وإخلائها من المرضى والجرحى بشكل غير إنساني، انكشف هذه المرة زيفها بمجرد اقتحام الجيش الإسرائيلي المستشفى، وادعائه اكتشاف مقر لحماس وأنفاق أسفل المجمع الطبي، لكن الإعلام الغربي كان هذه المرة أكثر حذرا في تصديق الرواية الإسرائيلية، وشكك فيها خاصة وأن الأسلحة خفيفة يسهل نقلها من مكان لآخر، وأن الفيديوهات متناقضة من حيث عدد الأسلحة..
لكن الضربة الموجعة لهذه الدعاية، جاءت من رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك، الذي اعترف بأن إسرائيل بنت الملاجئ وحفرت الأنفاق الموجودة تحت مجمع الشفاء، في لقاء صحفي مع قناة “سي إن إن” الأمريكية.
ـ انكشاف التضليل لم يوقف الدعم
بفضل الدعاية المضللة، لم يحصل الجيش الإسرائيلي فقط على تعاطف الرأي العام والإعلام الغربي بل أيضا على دعم عسكري مباشر من الولايات المتحدة وبريطانيا، ناهيك عن الدعم المالي والدبلوماسي.
وتجلى هذا الدعم في إرسال واشنطن حاملة طائرات والسفن الحربية المرافقة لها وغواصة نووية إلى شرق المتوسط، وتخصيصها 14 مليار دولار لدعم إسرائيل في حربها ضد غزة، ورفض واشنطن وحلفائها في مجلس الأمن التصويت لصالح قرار بوقف إطلاق النار، ما يعني ضوء أخضر لتل أبيب من أجل الاستمرار في مجارها دون رادع قانوني.
لكن الأسوأ من ذلك أنه حتى بعد اكتشاف جملة من الأكاذيب الإسرائيلية مبكرا، إلا أن ذلك لم يكن له كبير تأثير على مواقف الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة إزاء دعمها الأعمى للجيش الإسرائيلي.
صحيح أن المظاهرات والاحتجاجات ضد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في تصاعد وبأعداد كبيرة في العديد من العواصم العالمية والغربية، وبرزت أصوات حكومات أوروبية تطالب بمعاقبة إسرائيل، ودول أخرى خاصة من أمريكا اللاتينية قطعت أو قلصت علاقاتها مع إسرائيل، وجيش من المحامين تشكل حول العالم لمحاكمة تل أبيب.. لكن كل ذلك مازال أقل بكثير من العقوبات المحتملة التي كانت ستفرض على أي دولة مسلمة ارتكبت الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل، وهو ما أشار إليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
انكسار الدعاية الإسرائيلية المضللة مع استمرار انكشاف الأكاذيب والمجازر، من شأنه أن يضعف المحور الداعم لإسرائيل، ويتسبب في تصدعات في التحالف المؤيد لاستمرار الحرب والحصار المطبق على قطاع غزة.