معركة حطين الفاصلة / كتب: عبد الهادي محيسن

كان جيش صلاح الدين قد انتشر في سهل خصيب وكانت خلفهم تمتد بحيرة طبرية العذبة التي يخترقها نهر الأردن ، وقبل المساء كان الفرنج قد بلغوا ربوة تطل على المشهد برمته وكان عليهم لكي يشربوا أن يحصلوا على إذن من السلطان ، وصلاح الدين يبتسم فهو يعلم أن الفرنج منهوكون يقتلهم الظمأ وليس لديهم القوة ولا الوقت لفتح ممر الى البحيرة قبل المساء .

وعند بزوغ خيوط الفجر الأولى من اليوم التالي الرابع من تموز 1187 م حاول الفرنج المحاصرون وقد أفقدهم العطش صوابهم أن ينحدروا عن التلة ويبلغوا البحيرة ، وإذ كان مشاتهم قد أصابهم من المشقة أكثر مما أصاب فرسانهم بفعل المشي المنهك ، فقد ركضوا على غير هدى حاملين فؤوسهم ومطارقهم التي تنقض ظهورهم لينسحقوا موجة تلو الأخرى على جدار صلب من الرماح والسيوف ودُفع الناجون الى التلة مرة أخرى حيث اختلطوا بالفرسان وقد باتوا موقنين بهزيمتم .

ولم يكن بوسع أي خط من خطوط الدفاع أن يصمد ومع ذلك فقد استمروا يقاتلون بشجاعة البائس وحاول قائدهم ريمون أن يشق طريقا عبر صفوف المسلمين على رأس حفنة من خواصه ، وسمح له صلاح الدين بالهرب فواصل طريقه راكضا على حصانه حتى طرابلس ويقول ابن الأثير :

فلما انهزم القُمّص سقط في أيديهم وكادوا يستسلمون ثم علموا أن لا ينجيهم من الموت سوى الإقدام عليه فحملوا حملات متداركة ، وكادوا يزيلون المسلمين وهنا أخذ المسلمون صليبهم الأعظم … فكان أخذَهُ عندهم أعظم المصايب عليهم لأن فيه قطعة من الخشبة التي صلب عليها المسيح عليه السلام .

وعلى الرغم من تلك الخسارة فقد ظل من بقي أحياء من الفرنج يقاتلون بضراوة منسحبين الى مرتفع من الأرض فوق قرية حطين لنصب خيامهم وتنظيم مقاومتهم ، لكن المسلمين أحاطوا بهم من كل صوب ولم يبق منتصبا من الخيام غير خيمة الملك ويروي الأفضل ابن صلاح الدين الذي كان في السابعة عشر من عمره :

كنت الى جانب أبي فلما وصل ملك الفرنج الى التل في تلك الجماعة فحملوا حملة نكراء على من بإزائهم من المسلمين حتى ألحقوهم بوالدي فنظرت إليه وقد علته كآبة وأربد لونه وأمسك بلحيته وتقدم وهو يصيح كذب الشيطان … فعاد المسلمون على الفرنج فرجعوا وصعدوا الى التل فعاد الفرنج وحملوا حملة ثانية مثل الأولى وألحقوا المسلمين بوالدي .

وفعل مثلما فعل أولا وعَطَفَ المسلمون عليهم فألحقوهم بالتل فصحت أنا هزمناهم فالتفت والدي الي وقال أسكت ما نهزمهم حتى تسقط تلك الخيمة فهو يقول ذلك وإذ بالخيمة قد سقطت فنزل السلطان وسجد شكرا لله وبكى من فرحه ، ثم نهض صلاح الدين وسط تهاليل الفرح واعتلى حصانه وتوجه الى خيمته واقتيد إليه كبار الأسرى ولا سيما الملك غي والبرنس أرناط .

أجلس صلاح الدين الملك الى جانبه وعندما دخل أرناط أجلسه الى جانب ملكه وذكره بإساآته قائلا : كم مرة أقسمت وحنثت بقسمك ؟ وكم مرة أخذت على نفسك المواثيق ولم تلتزم بها ؟ فأجاب أرناط على لسان الترجمان جميع الملوك كانوا يتصرفون دائما على هذا النحو وفي هذا الوقت كان غي يلهث من العطش وعلى وجهه إمارات الذعر فطيب صلاح الدين خاطره بعبارات التطمين وأمر بماء مثلوج فقدم له .

وشرب الملك وأعطى ما بقي لأرناط ، وقال السلطان لم تطلب إذني قبل أن تعطيه الماء وهذا لا يجبرني على إعطاءه الأمان ، وبعد أن قال السلطان ذلك خرج وأشرف على عودة عساكره ثم عاد فدعا أرناط وتقدم إليه شاهرا سيفه فضربه فحز رأسه ودفع به الى أمام الملك الذي أخذ يرتجف فقال له السلطان مُطَمئِناً لم نقتل هذا الرجل إلا لأنه قطع طريق الحجيج وقتل الخلق الكثير منهم .

صباح اليوم التالي هاجم صلاح الدين قلعة طبرية ، حيث زوجة ريمون التي كانت تعلم أن لا فائدة من المقاومة ففوضت أمرها الى صلاح الدين ، الذي سمح لها وللمدافعين بالرحيل بجميع ما يملكون ، وسار صلاح الدينيوم الثلاثاء التالي الى القدس فتسلمها وأعطى الأمان للنساء والشيوخ والأطفال ، وسمح لهم بالخروج منها وأخذ ما يملكون ومنع ضريبة الخروج عن الفقراء والعجزة ، ثم توجه الى ثغر عكا الذي استسلم دون مقاومة ثم كلف  أمراءه بإخضاع مختلف حصون فلسطين ، واستسلمت المنشآت الفرنجية في الجليل والسامرة وكانت هذه حال نابلس وحيفا والناصرة ، والاشتباك الجدي كان في يافا التي سقطت بعد معركة ومقاومة كبيرة .

عبد الهادي محيسن … كاتب وباحث