غزة أوّلُ الجرح، آخر الهزيمة/ شعر: عمر شبلي

ذَرِ السفينةَ، لا الجُودِيُّ مقتربٌ
ولا رُسُوٌّ سوى في جرحِكَ الخَضِبِ
والجرحُ ميناؤكَ الباقي، فَكُنْ حَذِراً
أن ترتديهِ قميصاً من دمٍ كَذِبِ
ولا يزال مَدى الطوفانِ مرتفِعاً
وقد تكونُ بظهرِ الفُلْكِ دونَ نبي
قلْ للسفينةِ: أُوبي. إنَّ لي وطناً
لو آبَ نوحٌ، ولو غالى ولم يؤُبِ
لا بدَّ من وطنٍ يعطيكَ رخصتَهُ
وسوفَ يُعطيكَها إنْ أنت لم تغِبِ
فاقحَمْ، وحقِّ ثراهُ، أنتَ مُتَّحِدٌ
به كمثل اتحادِ الجَذرِ بالتُرُب
تَأنَّقَ الفجرُ كي يعطيكَ جذوتَهُ
لكنَّهمْ جعلوهُ قاتمَ اللهبِ
والفجرُ كالليلِ إنْ طاف الدمارُ بهِ
على الوجودِ وأعطى الأمرَ بالعَطَبِ
كأنّ غزّةَ إذْ عاثَ الغزاة بها
وزِيحَ منديلُها عن خَدِّها التَرِبِ
سمراءُ كان أخوها دونَ هَوْدَجِها
يعطي لها عُمْرَهُ صَوْناً من السَلَبِ
لا بدَّ من سيفِهِ لا بدّ من دمِهِ
لا بدَّ من شرفٍ، لا بدَّ من غضبِ
فأنتَ وحدَكَ من يحمي كرامتَها
في عالمٍ مُتْخَمٍ بالذُلِّ والعَرَبِ
رميتَ باللحمِ ميركافا لتقتلَها
ولو رمَيْتَ بغير اللحمِ لم تُصِبِ
*****
للهِ غزّةُ كم جاعت وكم ظَمِئَتْ
وكم تَعَثَّرَ فيها الموتُ بالطَلَبِ
ما بين موتيْنِ كان الفرقُ مرتَفِعاً.
.في غزّةَ الموتُ ألغى موتَنا العربي
ماتت شوارعُها من طولِ ما قُصِفتْ
والموتُ في الأرضِ غيرُ الموتِ في الكُتُبِ
تنسى الحجارةُ فيها أنّا خُلِقتْ
من دونِ حِسٍّ فتُكسَى وجهَ مكتئِبِ
وحين ألغَوْا سماءً فوقها صنعت
هي السماءَ من الأنفاق والتُرُبِ
كلُّ الدروبِ امّحَتْ، إذْ أنتِ حافيَةٌ
فامشي عليها بلا نَعْلٍ سوى العربِ
القصفُ يبحثُ عن دارٍ بلا عَطَبِ
والطفلُ يبحث عن أمٍّ له وأبِ
جراحُهُ كم حَكَتْ تحت الترابِ لنا
عن أمّةٍ لم يَعُدْ فيها سوى الكذبِ
والموتُ بين يديهِ ينتحي خَجَلاً
مما يعاني ومِمّا فيه من تعبِ
كم توقِظُ الحزنَ في عينيْهِ أسئلةٌ
عن أمِّهِ أين راحتْ ثمَّ لم تَؤُبِ
تَأخّرَ الموتُ عنه فانتحى وغفا
إذْ رُبَّما كان مشغولاً بألفِ صبي
كنْ عادلاً أيُّها الموتُ اللئيمُ ودَعْ
ما كان بين يَديْهِ بعدُ من لُعَبِ
حضورُهُ كان أعلى من حُضورِهِمُ
قد كان في قلبِ كلّ الناس مثلَ نبي
ثيابُهُ عندما عادوا بجثّتِهِ
كانت تُحَدِّثُ عمّا ذاق من نُوَبِ
وغزّةُ اليومَ لا تحتاجُ أضرِحَةً
حَنَتْ بلطفٍ على أفراخِها الزُغُبِ
كانت حجارتُها تحنو بقسوتِها
على الصغار،ِ كأنْ كانا على نَسَبِ
تلك التي حَضَنَتْ أشلاءَ فتيتِها
قد أصبحتْ كلُّها قبراً لمغتصبِ
وقفتُ أبكيكِ من عجزي ومن غضبي
يا للنَقيضَيْنِ في روحي وفي عصبي
كانت قبورُكِ من حيطانِ أبنيةٍ
حَنَتْ على جُثَثِ الأطفالِ في حَدَبِ
والدمعُ يصبحُ أعلى حين تَحبسُهُ
يا غزّة، الدمعُ كم يقسو على الهُدُبِ
*****
إنَّ الذين غدَوْا بالقهر قادتَنا
فقط ثيابُهُمُ تمتازُ بالرُتَبِ
كم أجبرونا على صَبْغِ الوجوهِ لهمْ
وعَلَّمونا على مَشْيٍ على الرُكَبِ
كم حاكمٍ بينهم في ثوبِ منحكمٍ
والصدق في قولِهِ جزءٌ من الكذبِ
ونحن نعقدُ للتحريرِ مؤتمراً
أعلى احتجاجٍ به نُبديهِ بالخُطَبِ
ويصدرون بياناً لا بيانَ بهِ
يعني كثيراً، ولا يعني سوى الكذبِ
رَبْطاتُ أعناقِهم حمراءُ من دمِنا
متى ستجعلُها يا شعبُ كالذَنَبِ
فليُحْشَروا مع أشقاهمْ، وقد     نضِجتْ
“جلودُهمْ قبلَ نُضجِ التينِ والعِنَبِ”
*****
يا غزّةُ الآنَ تُغتال المسالكُ بي
ولا أُفَرِّقُ بين العُجْبِ والعجَبِ
لا أَكتبُ الشعرَ كي أرثيكِ، أنتِ غَدٌ
لكنَّ ذكراكِ مثلَ النارِ تُومِضُ بي
لا تيأسي إن جرحي لم يجد سبباً
إلى النزيف سوى في يومك العربي
لم يَتركِ الحزنُ بي ضوءً ولا لُغَةً
مَعارِكُ الروحِ تُلغي الحَرْبَ بالحَرَبِ

    الحَرَب بفتح الراء تعني الدمار