يعيش لبنان في هذه الأيام الصعبة والمصيرية، وكما في الأيام العادية، تناقضات “الصيف والشتاء على سطح واحد”. فاللبنانيون الذين يعيشون شمال نهر الليطاني حتى امتداد الوطن بطوله وعرضه لا يعيشون حال والخوف التي يمرّ بها أهل القرى الجنوبية الحدودية، والذين اضطرّوا لمغادرة منازلهم إلى أماكن أكثر أمانًا، وهم لا يدرون إذا كانوا سيعودون إليها يومًا، وإن عادوا فهل سيجدونها كما تركوها.
فالذين يعيشون خارج المنطقة، التي تستبيحها إسرائيل بالقصف المتصاعد يومًا بعد يوم، لا يسمعون بما يجري في الضفة الأخرى من الوطن سوى عبر مراسلي التلفزيونات، الذين يخاطرون بحياتهم، وقد سقط لهم شهداء، لينقلوا إلى العالم حقيقة ما ترتكبه هذه الدولة، التي لا تقيم وزنًا للقوانين الدولية، التي تحرّم استخدام بعض القذائف، ومن بينها القذائف الفوسفورية. فهذه الدولة الغاصبة للأرض ولحقوق شعب يتعرّض لأبشع أنواع “الهولوكوسات العصرية”، تتمادى في توجيه التحذيرات إلى اللبنانيين، وتهدّدهم بأنهم سيلقون المصير نفسه الذي يلقاه أهل غزة، وأن لبنان سيكون عرضة للتدمير على غرار ما يتعرّض له القطاع، إن لم يضغطوا على “حزب الله” لكي يبتعد عن خطوط التماس بما يضمن أمن المستوطنين في الشمال.
وبذلك تضع إسرائيل اللبنانيين أمام خيارين لا ثالث لهما. فإمّا أن يتحرّكوا ضد “حزب الله” بشتى الطرق والوسائل لكي ينسحب من أماكن وجوده على الشريط الحدودي. وإمّا فالحرب ستكون شاملة مع ما تعنيه كلمة شاملة من معانٍ تدميرية وتهجيرية، خصوصًا أن أبواب سوريا مغلقة، وهي كانت لبعض اللبنانيين ملاذًا آمنًا في حرب تموز، وبالتالي فإن إمكانات الأمس لم تعد متوافرة اليوم، خصوصًا بالنسبة إلى الذين سمحت لهم امكاناتهم المادية قبل سبع عشرة سنة بالسفر إلى الخارج، وبالتحديد إلى قبرص، ولم يعد ذلك متاحًا اليوم، بعدما أصبحت الطبقة الوسطى بمعظمها تحت خط الفقر، وهم بالكاد يستطيعون أن يعيشوا كل يوم بيومه.
وأمام هذين الخيارين الأحلاهما مرّ كالعلقم، ينقسم اللبنانيون إلى فئتين: الأولى تناصر “حزب الله” في ما يقوم به اسنادًا للشعب الفلسطيني الصامد في غزة، وهم يؤيدون فكرة أن الحديد لا يفّله إلا الحديد، وأن لا شيء يمكن أن يردع إسرائيل إلا القوة، التي تجسدها المقاومة الإسلامية، والتي تمتلك من المفاجآت الميدانية والعسكرية ما يجعل العدو يحسب ألف حساب قبل مجرد التفكير بفتح حرب شاملة لا يعرف أحد ما ستكون عليه نتائجها، وبالأخصّ في العمق الإسرائيلي.
أمّا الفئة الثانية فهي ضد جرّ لبنان إلى حرب لا تشبه أي حرب أخرى، مع ما يمكن أن تخّلفه وراءها من مآسٍ وكوارث ونكبات، وهي وإن كانت تحمّل “حزب الله” مسؤولية امتلاكه قرار “الحرب والسلم”، فهي لا تعفي إسرائيل من مسؤولية إمكانية تحويل لبنان إلى هيروشيما ثانية. وقد يكون انفجار المرفأ مع ما تركه وراءه من خسائر بشرية ومادية عيّنة عمّا يسعى إليه العدو، خصوصًا أن بعض المعلومات عن الجهة المسبّبة بانفجار المرفأ لم تبرئ إسرائيل من تهمة انفجار تدمير نصف بيروت.
فهاجس الحرب الشاملة، التي تلوح في أفق سماء لبنان، تقضّ مضاجع الكثيرين في لبنان وخارجه، وبالأخصّ الذين يرون بأم العين ما الذي يحصل في غزة، وهم يدركون مخاطر هذه الحرب، بشريًا وماديًا، ويجزمون أن لا قيامة للبنان من بعد هذه الحرب، أقّله اقتصاديًا، وهو الذي يعاني ما يعانيه من مشاكل اقتصادية لا يعرف كيف السبيل للخروج من أنفاقها. فما يعانيه لبنان اليوم من أزمات اقتصادية خانقة ليس سوى نموذج صغير مما يمكن أن يعانيه مستقبلًا إن دخل أو أُدخل في هذه الحرب المدمرة.
فبالإضافة إلى الخسائر البشرية المتوقعة فإن فاتورة الخسائر المادية والاقتصادية ستكون مكلفة وباهظة جدًّا.