اعتمد خالد بن الوليد في معركة اليرموك ولأول مرة في تاريخ الحروب الإسلامية نظام الكراديس مع التنظيم المخمس وهو ما سمي بالتعبئة الخالدية فوضع خالد في المقدمة النبالين فالرماحين فحملة السيوف وأمام هذه المقدمة طليعة متحركة من الخيالة مهمتها المحافظة على التماس مع العدو ومراقبته وإشغاله ريثما تتهيأ صفوف المسلمين للقتال .
ألف خالد أركان حربه من أبو الدرداء قاضي الجيش ومهمته القضاء بين جنود المسلمين وفقا لشريعة الإسلام ، والمقداد ضابط المعنويات أو القارىء ومهمته أن يقرأ صورة الأنفال الخاصة بالقتال ، وأبو سفيان بن حرب ومهمته الواعظ الذي يطوف بين الصفوف يحث الجند على القتال وعبد الله بن مسعود ومهمته كضابط للإدارة تأمين حاجات الجيش وجمع الغنائم وتوزيعها .
كان خالد القائد العام في وسط الجيش وكانت النساء في المؤخرة وراء صفوف المقاتلين ومهمتهم العناية بالجرحى والمرضى ووزع خالد على قادته مهماتهم فأبو عبيدة بن الجراح القلب ومهمته منازلة قلب العدو ويزيد بن أبي سفيان الميسرة ومنازلة ميمنة العدو وعمرو بن العاص ومعه شرحبيل الميمنة ومنازلة ميسرة العدو ، وأرسل خالد قبل بدء القتال الى ماهان وفدا يفاوضه للسلام كعادة المسلمين قبل بدء المعركة فاختار ماهان الحرب .
بدأت الحرب في اليوم الأول بمناوشات بين الجيشين وبمبارزة بين عبد الرحمن بن أبي بكر وخمسة من قادة الروم فصرعهم كما قتل إثنين من فرسانهم ، وانتهى اليوم الأول بهجوم شنه ماهان على المسلمين بأن أمر عشرة من الصفوف على الهجوم الذي استمر من الظهيرة حتى الغروب لم يسفر عن نتيجة تذكر ورجع الفريقان الى مواقهم دون حسم .
وفي اليوم الثاني من المعركة هجوم ميسرة الروم على ميمنة المسلمين وتراجع ميمنة المسلمين وبداية الهجوم الإسلامي المعاكس وتكررت هجمات ميسرة الروم على ميمنة المسلمين بكتيبة ثانية وثالثة حتى تمكن الروم من دحر المسلمين وإزالتهم من مواقعهم في الميمنة فتراجعوا فانكشف قلب الجيش الإسلامي من جهة الميمنة وباتت هزيمة المسلمين وشيكة .
ما أن رأى خالد ميمنة المسلمين مندحرة حتى اقتحم بخيالته الروم المهاجمين واشبك معهم في قتال ضار فتمكن من دحرهم واستعاد المسلمون مواقعهم وأخذوا يطاردون الروم المنهزمين عندها أمر خالد بشن هجوم عام معاكس وكانت الحملة على ميمنتهم فانكشفت إنكشافا قبيحا فانعطف خالد بخيالته على القلب وتوغل فيه حتى وصل الى قائده – الديرجان فحمل عليه ضرار بن الأزور فقتله .
في اليوم الثالث هجوم ميمنة الروم على ميسرة المسلمين وتراجع ميسرة المسلمين وانهزمت قبائل الميسرة حتى معسكراتها فقامت نساء المسلمين بالدور المطلوب فرشقن المنهزمين وخيلهم بالحجارة والعصي صارخات أين عز الإسلام واين تنهزمون عن الأمهات والأخوات والبنين والبنات ، فخجل المنهزمون بهزيمتهم وارتدوا نحو العدو يقاتلونه بضراوة وبأس شديدين محاولين استعادة ما فقدوا من مواقع .
رأى خالد ميسرة المسلمين منهزمة فانحاز اليهم واشتبك الجميع مع الروم في قتال شديد استمر طويلا ولم ينته الى أي نتيجة ، وبرز في هذه الأثناء أحد قادة الروم يطلب المبارزة فبرز إليه غلام من الأزد فقتله الرومي عندها برز عامر الدوسي زعيم قبيلة دوس فبارز الرومي وقتله وبرز له جبلة بن الأيهم ملك الغساسنة وهو في حلف مع الروم فبارز عامرا فقتله .
ثم برز جندب بن عامر ليثأر لأبيه فقتل هو أيضا فحملت قبائل دوس بعد مصرع زعيمها وابنه على العرب المتنصرة من غسان ولخم ودار قتال شديد كاد ينتهي بهزيمة المسلمين لولا أن بادر عمرو بن العاص وخالد الى الدخول بقواتهما بقتال استمر حتى الليل حين تقهقر الروم الى مواقعهم واستعاد المسلمون ما فقدوا من مواقع في ذلك اليوم الشديد البأس .
اليوم الرابع هجوم ميسرة المسلمين على ميمنة الروم ثم ميسرة الروم على ميمنة المسلمين ثم الهجوم الرومي العام وتبعه الهجوم الإسلامي المعاكس ، تبادل الروم والمسلمون الكر والفر طيلة النهار ولم يسفر ذلك عن نتيجة تذكر حتى اليوم الخامس حيث بدأت هذه المرحلة بمبارزة بين غريغوري قائد ميمنة الروم وأبو عبيدة بن الجراح وانتهت بمقتل القائد الرومي .
مما أثار قائد الجيش ماهان فاندفع يطلب المبارزة وبرز اليه مالك النخعي فما اسستطاع اليه سبيلا ونال منه ماهان بضربة شترت عينه فولى هاربا ومن يومها سمي مالك الأشتر، بعد هذه المبارزة أعطى خالد إشارة البدء بالهجوم العام على ميسرة العدو من ثلاث جبهات بقيادة عمرو بميمنة المسلمين وجانبيا بخيالة المسلمين وخلفيا بقيادة خيالة خالد قائد الجيش فوقعت ميسرتهم ضمن كماشة ثلاثية .
ودارت بين الفريقين رحى معركة عنيفة استبسل فيها ماهان وخيالته في وجه خالد وقيس وخيالتهما ولكن الروم أنهكوا وأرهقوا كونهم مثقلون بالعتاد فهم قليلوا الحركة بطيئو المناورة واشتد القتال بين الفريقين واشتد ضغط خالد على ماهان فأخذ ماهان يتلمس له ولخيالته مخرجا عندها أفسح خالد لهم الهرب فأفسح لهم الطريق ففر ماهان وخيالته شمالا تاركين مشاة الروم دون تغطية تحت رحمة سيوف المسلمين وحوافر خيلهم .
كانت الروم في هذه اللحظات أشبه بكتل بشرية ضخمة تدور حول نفسها ولم تكد تغرب شمس ذلك اليوم حتى أخلي جميع مقاتلي الروم ساحة القتال إماهاربا وإماجثة هامدة وقدرت خسائر الروم بماية وعشرين ألف قتيل من أصل مايتان وخمسون ألف مقاتل عند بدء المعركة أما خسائر المسلمين فكانت ثلاثة آلاف شهيد معظمهم من الصحابة وشيوخ المسلمين .
كانت معركة اليرموك معركة حاسمة في شأن مصير الروم ومصير بلاد الشام وفتحت امام المسلمين باب الإنتصارات المتتالية في هذه البلاد فغادر هرقل سوريا بمقولته المشهورة “سلام عليك يا سوريا سلاما لا لقاء بعده” بعد هزيمة جيشه على جيش صغير لا يتجاوز عديده 46 الف مقاتل وكان مقيما بإنطاكية فغادر الى القسطنطينية بلا عودة .
عبد الهادي محيسن … كاتب وباحث