عن ماهر في دير البلح وعبقريات صمود لا تُنسى.. إلى روح نسر فلسطين ماهر اليماني / كتبت: نداء عودة
“ماهر “، هو اسم مستعار لصديق في غزة، واسميته ماهر تيمناً بالمناضل الكبير ماهر اليماني الذي رحل في بيروت شتاء ٢٠٢١ ،بعد تحدّ لمرض السرطان تعامل معه ماهر كزائر هجين على جسده، فالمرض لم يغيّر شيئاً في شخصيته كقائد، لانه لم يرد ان يموت على سرير المرض، بل برصاص العدو، لانه، وكما ردّد مراراً “النسر ما بيختيِر، النسر بيتقوّص قواص”. ومع ان ذلك لم يتحقق، احتفلت بروح ماهر اليماني مقاومة غزة، وحمل شباب كتائب الشهيد ابو علي مصطفى صورته وهم يمتشقون البنادق كوعد باستمرار النضال، وبكاه شرفاء لبنان وفلسطين واحرار العالم، لا نستطيع تلخيص سيرة ماهر ومسيرته ، انما لما مثّله هذا النسر الفلسطيني لشعبه و قضيته، تليق به كلمات رفيقه الشاعر محمد عنهُ إذ قال:
” بلمحك بالنور و بالظلام،
ببحر غزّة وبِ طهر ميّاتو،
ماهر يا نسر الحقّ، يا فارس هُمام،
يا صرخة المظلوم يا صدق دمعاتو”
ظلّ اليماني موصولاً بغزة في حبلٍ سرّي يربط الأم بابنها، يبقى هذا الحبل قائماً مدى الحياة، وبهذا المعنى لم يتوقف نضاله عند توقّف مرحلة العنف الثوري بما فيها من عمليات خطف طائرات العال وغيرها، والمبادلة باسرى في سجون الاحتلال الصهيوني، انما تحوّل لأساليب تشكل امتداداً متجدّداً لما سبقها، فاليماني نفسه امتداد لوديع وغسان والحكيم
تكاد لا تمرّ لحظة على غزّة، إلاّ وشعر بوجوده رفاقه المجاهدون هناك ،ورفاقه في الحرية هنا وفي كل مكان من العالم، وواحدة من ادواره التي تحضر اليوم، عمله لتسهيل مرور غزيين تسبب لهم العدوان الصهيوني بإعاقات وتشوّهات عبر الانفاق إلى مصر ،ثم الى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، وإجراء جراحات لهم على يدّ الطبيب الفلسطيني البريطاني المناضل غسان ابو ستّة، والذي يخوض معركته الطبية الوطنية والإنسانية منذ بداية جرائم الابادة بحقّ المدنيين العُزّل، والمجازر المتعمّدة بحق الجرحى الضحايا والاطقم الطبية، بحرمانهم من المستلزمات الطبية واخلاؤهم بالقوة في اسقاط صارخ للقوانين والاعراف الدولية والإنسانية، تحدث ابو ستة للعالم عن ذلك بما فيه الاستعاضة عن التخدير بمسكنات الم خفيفة وعن المواد المعقّمة بالخل والسائل المستخدم لغسيل الاطباق، هذه واحدة من العبقريات الفلسطينية في الصمود، وهي ذكّرت الآلاف بكتاب الدكتور يوسف عراقي “يوميات طبيب في تل الزعتر” وبه تفاصيل معركته لإنقاذ الجرحى تحت الحصار ومنها، استخدام الملح والماء لتطهير الجروح، ثمّ نقل الجرحى بواسطة ابواب البيوت الخشبية بعد نفاذ الحمالات، وهو ما يجري في غزة اليوم.
لا تختلف يوميات الصمود الفلسطيني وتفاصيلها، منذ العام ١٩٤٨ إلى اليوم على الرغم من . اختلاف الآمكنة والمراحل التاريخية، فحصار الفلسطيني وإبادته هو المنهج الذي تقوم عليه طبيعة هذا الاحتلال، إذ يشكّل الانسان الفلسطيني نقيضاً جوهرياً لَََ”شرعية” لازال الاحتلال الاستيطاني الاحلالي يحاول اثباتها بلا جدوى، وبالنسبة له”الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت”، وأمام ذلك لم يُترك للفلسطيني ما يعبر به عن هويته وانتمائه الا نضاله بجسده وعقله الذي لا يكف عن إبداع أساليب البقاء، فعلى رأي درويش اما ان يكون او لا يكون وعلى رأي الياس خورى في إحدى مقالاته “أرض الفلسطيني جسده”.
استطاع صديقي الذي اسميته” ماهر” من جوار دير البلح ان يطمئني و يطمئن اصدقاءهُ في لبنان عنه وعن اهله، فعندما انقطعت كل وسائل الاتصال عن القطاع، فكرنا ان نرسل إشارة عبر صفحته، إذ لا بدّ ان احد اصدقائه الفيسبوكيين في غزة لازال يملك كهرباء من الطاقة الشمسية وبالتالي الانترنت، ونجحت الخطة، وخرج ماهر من بين الركام، وليسامحني اني حين فقدت الأمل في التواصل معه رحتُ أبحث عن اسمه بين لوائح الضحايا.. لازال” ماهر َ” على قيد الحياة حتى كتابة هذه السطور، وهو يرسل بصعوبة كلما استطاع الاستعانة بشبكة احد الجيران بهدف التطمين، وكانت شبكة التواصل الاجتماعي قبلاً هي المنفذ الوحيد لماهر إلى العالم الخارجي، حيث صنع صداقات جميلة وتحدث عن أحلامه السجينة تحت الحصار، ماهر شخصية متعلّمة، أنيق وراقي، يتحدث الانكليزية بطلاقةمع ذلك لا فرص عمل، وهو موسيقي وعازف عود لم يفقد حبّ الحياة والموسيقى وروح النكتة التي لم تفارقه، وذات يوم سجّل معزوفة على آلة العود وارسلها لي، وعلى روعة عزفه استطعت كموسيقية ان الاحظ خشونة في النقرات فقلت له “أوتار العود قديمة وعليك تغييرها” فصدمني حين قال ان ذلك” شبه مستحيل لأنه تحت الحصار لا تتوفر المواد الموسيقية تلك”، كان يعرف انه لن يستطيع تحقيق حلمه الموسيقي، لكني كنت اقول له” لازلت شاباً وسيأتي اليوم الذي ينكسر فيه الحصار”. اليوم بات ماهر على يقين أننا على هذه الطريق.
خلال جريمة الابادة المستمرة وأصوات الطائرات التي تدكّ بيوت العائلات وتحول الأطفال والنساء اشلاءً، لا مكان لموسيقى ولا لزقزقة عصافير، على العكس، استفاق ماهر فجراً على داره تهتزّ واذا بمنزل جيرانه ينهدم على رؤوس ساكنيه، سيدة سبعينية وبناتها ومنهن لازلن تحت الانقاض. تناثرت اشلاء صديقه بين ارغفة الخبز التي كان يعدّها قبل الفجر ليأكل الأهالي، لازال يبكي بصمت رفاق عمره الذين جمعته معهم سنيناً طويلة من الذكريات والجلسات و الحكايات والاحلام.
افهم ما يعيشه ماهر من موت وسفك دماء ، ومعه الجوع و العطش، فرشفة الماء غنيمة، بينما الدماء والدموع بحراً، أفهمه لكوني عشته في طفولتي تحت حصار الجيش الصهيوني لبيروت ١٩٨٢، الأسلحة الفراغية التي جُربت في المباني الآهلة بالعائلات ، وفي مدافن الموتى حتى،.اذكر الوقوف بالطوابير لملء حاويات الماء من بئر الكنيسة، والاكل المقتصر على المعلبات، وصالة مكسيم للأفراح بشارع السادات التي تحولت ملجأً تحت الارض في أيام القصف المجنونة، هناك كانت تلجأ امرأة فلسطينية مع طفلها الذي كلما سمع صوت الطيران الاسرائيلي صاح بلهجته الفلسطينية مقلّداً والده “يلعن ابوك بيغن”. فأضحك امي التي كتبت عنه في مذكراتها، ثم اضحكنا كلما طلب المزيد من الطعام ونهرته امه، إذ لم يكن يوجد سوى رغيفَيّ خبز لليوم التالي.
بعد سنوات طويلة لازلت اكتشف كم في حصار بيروت من مخزون حكايا بطولات اهلها، كان قطع جيش العدو المياه والكهرباء عن المدينة مفيداً في موقف مصيري، فحين كان هذا الجيش يدهم المنازل بحثاً عن “مخرّبين” وجد ابن بيروت الاصيل صديق ماهر اليماني، ان يخبّئهُ في خزّان المياه الفارغ على سطح منزله، حيث لا يمكن للجيش ان يفكر في تفتيشه كما أنه لا يمكن أن يمتلىء بالمياه.
يكتب ماهر من دير البلح ، “نحن نستخدم المياه الملوثة لطهي الطعام المعتمد غالباً على البقوليات، أما أداة الطهي او الفرن فهو الطين الذي نقوم بعجنه مع التبن فيصبح مادة صلبة ويتشكّل، يوضع فيه منطقة عازلة ومنطقة للتهوئة، نشعل النار بالحطب وأعواد شجر الزيتون” ..
يعود ويكتب، “على الرغم من الألم و المأساة، و اختلاف انتمائي العقائدي، فلا استطيع وصف فرحتي بالسابع من اوكتوبر واعتزازي بمقاومتنا، عزيزتي، التحرير آتٍ”.
نداء عودة
الشراع