قالت مجلة “national interest” الأميركية ان “ساحة المعركة في العصور الوسطى كان يسيطر عليها “الفرسان”، وهم المقاتلون المجهزون تجهيزاً جيداً وباهظاً للغاية، وتدربوا منذ ولادتهم على فنون الحرب”.
وأضافت، “في إنجلترا بالقرن الخامس عشر، كانت تكلفة البدلة المدرعة من الدرجة الأولى تبلغ 20 جنيهاً إسترلينياً أو أكثر، أي ما يعادل 800 يوم من أجر رامي السهام البسيط حينها، وكانت هناك اعتبارات كبيرة لشراء بدلة مدرعة للفارس”. وبالإضافة إلى الحماية التي توفرها من الضربات، فإن درع الفارس يمنح مرتديها هيبة في ثقافة مجتمعية تضع قيمة كبيرة على ذلك. علاوة على ذلك، بما أن الدروع كانت تستخدم لفترة طويلة في زمن العصور الوسطى، فيمكننا أن نفترض أن قيمتها على المدى الطويل كانت، إلى حد ما، تستحق التكلفة.
في البداية كان القوس الطويل الإنجليزي، الذي لم يكن في حد ذاته باهظ الثمن بشكل خاص، ولكن استخدامه يتطلب تدريباً مدى الحياة نظراً لوزن السحب العالي. وهذا يعني أن التدريب واستخدام رماة الأقواس الطويلة كان مكلفاً. بعد ذلك جاء القوس والنشاب، الأمر الذي أثار مزيداً من التساؤلات حول جدوى تكلفة درع الفارس، الذي على الرغم من أن إنتاجه أكثر تكلفة من القوس الطويل، إلا أنه يتطلب القليل من التدريب. ومع انتشار القوس والنشاب، الذي رافقته في النهاية تقنيات مماثلة مثل المدفع اليدوي والأركويبس، اختفى مفهوم الفرسان من ساحة المعركة. وذكرت المجلة الأميركية أن “الحروب الحديثة أوضحت مفهوم التسليع بشكل كبير، فالتكنولوجيا التي تم تطويرها في البداية لأغراض عسكرية، مثل نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) والبصريات الإلكترونية المتقدمة، تم تصميمها للمنتجات الاستهلاكية، وانخفضت أسعارها”. وأردفت، “يتم الآن استخدام الإصدارات السلعية من هذه التكنولوجيا لإنشاء أنظمة أسلحة جديدة فعالة للغاية ورخيصة الثمن”. وأبرز قطعة تستخدم هذا النوع من التكنولوجيا هي الطائرات من دون طيار رخيصة الكلفة والثمن (مئات أو آلاف الدولارات)، والتي يمكنها اليوم تدمير دبابات متطورة وباهظة الكلفة (ملايين الدولارات)، وتدمير منشآت بمليارات الدولارات. وعلى سبيل المثال طائرة “ZALA Lancet” الروسية المسيرة، التي تم استخدامها على نطاق واسع لاستهداف الدبابات والمركبات الأخرى التابعة للقوات المسلحة الأوكرانية. وأصبح من الشائع الآن رؤية مقاطع فيديو لطائرات من دون طيار من نوع لانسيت تستخدم لتدمير الدبابات المتقدمة، مثل الدبابة الألمانية ليوبارد 2. وبالنظر في التكاليف النسبية، تبلغ تكلفة تصنيع طائرة لانسيت من دون طيار حوالي 35 ألف دولار في أحسن الأحوال بحسب تقديرات غربية. ويبدو أن إنتاجها سهل وسريع، حيث أعلنت مجموعة “ZALA Aero” أنها ستزيد الإنتاج “عدة مرات هذا العام”. ومن ناحية أخرى، تبلغ تكلفة دبابة ليوبارد 2 حوالي 11 مليون دولار. كما أنها بطيئة التصنيع، حيث يتم إنتاج حوالي 50 منها كل عام. هذا هو المكان الذي تبدأ فيه الأمور بالعبثية على أساس التكلفة الخالصة، يمكن لروسيا إنتاج 314 طائرة من دون طيار من طراز لانسيت مقابل كل دبابة من طراز ليوبارد 2 تنتجها ألمانيا. ويصبح هذا أكثر دراماتيكية إذا أخذنا في الاعتبار الأسعار النسبية في البلدين باستخدام معادل القوة الشرائية (PPP). وبهذا نجد أنه مقابل تكلفة إنتاج دبابة واحدة من طراز ليوبارد 2 في ألمانيا، تستطيع روسيا إنتاج 683 طائرة من دون طيار من طراز لانسيت وربما أكثر بكثير من هذا الرقم. إن تحويل ساحة المعركة إلى سلعة كما شهدناه في أوكرانيا وغيرها يدعو إلى التشكيك في قدر كبير من الاستراتيجية العسكرية الغربية المعاصرة، والتي يبدو أنها تركز على إنتاج معدات عالية الجودة وعالية التكلفة على أمل أن تتمكن من التغلب على القوى الأدنى. ولا ينطبق هذا فقط على حرب الاستنزاف الطاحنة، كما رأينا في أوكرانيا. فمنذ اندلاع الحرب في غزة في تشرين الأول من هذا العام، شهدنا العديد من الجوانب الأخرى للاستراتيجية العسكرية الغربية أصبحت موضع تساؤل بسبب عملية التسليع السريع في ساحة المعركة. وقالت”ناشيونال إنترست” في بداية حرب غزة: “بدأت حماس بإطلاق أعداد كبيرة من صواريخ القسام على إسرائيل، وهذه الصواريخ رخيصة الثمن بشكل لا يصدق، حيث يتم تصنيع وقود الصواريخ من السكر والأسمدة وبعض المواد الرخيصة. ويبدو أن تكلفة إنتاج كل صاروخ حوالي 300-800 دولار”. وأشارت إلى أن “نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي الشهير “القبة الحديدية” هو سلاح الدفاع لدى إسرائيل ضد هذه الصواريخ، وتبلغ تكلفة البطارية الواحدة من القبة الحديدية 100 مليون دولار، وتبلغ تكلفة كل صاروخ من صواريخ “تامير” الاعتراضية التي تطلقها حوالي 50 ألف دولار”. وحتى من دون النظر في تكلفة المنصة، تستطيع حماس أن تصنع 91 صاروخاً قسامياً لكل صاروخ اعتراضي إسرائيلي من طراز تامير، وإذا وضعنا الحسبة وفقاً لمعادل القوة الشرائية (PPP)، فيمكن لحماس أن تصنع 177 صاروخاً مقابل كل صاروخ اعتراضي. ومقارنة التكاليف هنا واضحة ومباشرة لأن الإسرائيليين يستخدمون صاروخاً اعتراضياً لكل صاروخ قسام يتم إطلاقه من غزة. وعلى نحو مماثل، يبدو أن دبابات الميركافا الإسرائيلية الأغلى والأكثر تطوراً في العالم معرضة للدمار والخطر أمام نظام “آر بي جي” محلي الصنع الذي تنتجه حركة حماس، وهو قاذف “الياسين 105”. ويعد تعرض الدبابات المتطورة لأنظمة آر بي جي، خاصة في البيئات الحضرية، ليس تطوراً جديداً. ولكن قدرة جماعة مثل حماس على إنتاج آلاف القذائف الخاصة بها على نطاق واسع وفي ظل حصار شديد يتعرض له قطاع غزة منذ 16 عاماً، يثير تساؤلات جدية حول القدرة على القتال المستمر في المناطق الحضرية باستخدام المركبات المدرعة، حتى بالنسبة للجيوش المجهزة تجهيزاً جيداً مثل الجيش الإسرائيلي. ولا توجد تقديرات لتكلفة قذائف الياسين الفلسطينية، ولكن بالنظر إلى أنه يمكن شراء صواريخ آر بي جي-7 بحوالي 300 دولار في السوق السوداء، فمن المرجح أن تكلفتها ربما 200 دولار، نظراً لانخفاض تكاليف العمالة في قطاع غزة. وإذا كانت تكلفة دبابات ميركافا 4M تبلغ 7 ملايين دولار لكل وحدة، يمكننا تقدير أن حماس يمكنها إنتاج 35 ألف قاذف ياسين مقابل كل دبابة ينتجها الإسرائيليون، أو 70 ألف قاذف على أساس معادل القوة الشرائية. وقد نطرح أيضاً سؤالاً حول مدى فعالية نظام الصواريخ الأميركي المضاد للدبابات جافلين “Javelin” من نظام “RPG”. لا شك أن أي جندي عاقل يفضل استخدام صاروخ جافلين بدلاً من آر بي جي عندما يواجه دبابة، ولكن بتكلفة 78 ألف دولار للقاذف الواحد من جافلين يتم إنتاجه في أمريكا، تستطيع حماس إنتاج 390 قاذف ياسين، أو 784 قادفاً على أساس معادل القوة الشرائية. ولفتت المجلة الأميركية، الى أن “تسليع الحروب في المعارك الحديثة وصل لمرحلة صادمة عندما تمكنت جماعة “أنصار الله” الحوثية في اليمن من فرض حصار بحري فعال في البحر الأحمر على السفن الإسرائيلية أو تلك المتجهة لإسرائيل، دون امتلاك قوة بحرية”. على مدار تاريخ البشرية، كانت القدرة على السيطرة على البحار -وبالتالي السيطرة على التجارة- متاحة فقط للدول الغنية التي كان بوسعها تخصيص قدر كبير من دخلها الوطني لبناء قوات بحرية جادة، لكن تسليع ساحة المعركة الحديثة أدى إلى تغيير هذه الديناميكية بشكل كبير. وكانت اللحظة الحاسمة في حصار البحر الأحمر هي الاستهداف الناجح لسفينة تجارية بصاروخ إيراني الصنع مضاد للسفن في منتصف كانون الأول. والمعلومات حول النموذج المحدد للصاروخ ضئيلة، ولكن ليس هناك شك في أن تكلفة الصاروخ أقل بكثير من صواريخ الدفاع الجوي التي تستخدمها السفن البحرية الغربية لمواجهتها. وفي الواقع، سلطت التقارير الضوء بالفعل على أن “البحرية الأميركية تستخدم صواريخ بقيمة مليونيْ دولار لإسقاط طائرات من دون طيار تابعة للحوثيين بتكلفة 2000 دولار فقط”. وتثير طبيعة هذا السلاح الجديد أيضاً مشاكل أكثر جوهرية. عندما فُرض الحصار، كانت هناك دعوات للبحرية الأميركية وحلفائها لقصف الحوثيين لإجبارهم على الاستسلام. لكن ما الذي سيقصفونه بالضبط؟ ومن المفترض أن هذه الصواريخ والطائرات من دون طيار الجديدة يمكن نقلها إلى أي مكان في أراضي اليمن وتركيبها وإطلاقها، وربما حتى عن بعد. وبحلول الوقت الذي تحصل فيه البحرية الأميريكية على هدف، قد يكون مجرد قاذفة رخيصة الثمن، أو في أحسن الأحوال شاحنة فارغة. كل هذا يثير عدداً من الأسئلة وعلامات التعجب والاستفهام حول الحروب الحديثة. فهل -على سبيل المثال- من الحكمة مقارنة القوة العسكرية لكل دولة على أساس إجمالي الإنفاق؟ في مقال نشرته مجلة “American Affairs Journal” في وقت سابق من هذا العام، أظهرت المجلة مشاكل خطيرة في مقارنة القوة العسكرية لكل دولة على أساس إجمالي الإنفاق، وقالت إنه يجب التوقف عن استخدام هذا المقياس. وبينما قدمت المجلة بعض الأمثلة في هذا المقال، فقد زودتنا التطورات الأخيرة بأمثلة أخرى كثيرة وعديدة. ويبدو أن الأدلة التجريبية في الحروب الجارية تثبت صحة ما نقول بسرعة متزايدة، حيث إن المناقشات حول القوة العسكرية التي تشير إلى الإنفاق الإجمالي لا ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد بعد الآن. ثم هناك أسئلة عديدة حول المجمعات الصناعية العسكرية، مثل تلك التي تملكها الولايات المتحدة الأميركية نفسها. هل نموذجها عالي التقنية وباهظ التكلفة مناسب لساحة المعارك الحديثة؟ هل تعتبر سلاسل التوريد العسكرية الهائلة إلى حد كبير ضرورية؟ في ظل إمكانية الحصول على الكثير من التكنولوجيا المستخدمة لإنتاج “الأسلحة السلعية” الجديدة من السوق التجارية. على سبيل المثال، يمكن لأحدهم شراء محرك مماثل لذلك المستخدم في الصواريخ الإيرانية 358 من موقع “AliExpress” أو من خلال مواقع الطائرات من دون طيار للهواة مقابل بضع مئات من الدولارات، وهو في المنزل. وأردفت المجلة الأميركية، أنه “ربما حان الوقت لإعادة تقييم كيفية إنفاقنا على الأسلحة وما نشتريه كقوة عسكرية عظمى. وربما حان الوقت أيضاً لإعادة تقييم ما تستطيع القوة العسكرية التقليدية تحقيقه وما لا تستطيع تحقيقه في ساحة المعركة التي تحولت إلى سلعة حديثاً”. ولفتت، الى أنه “يبدو أن جميع الأدلة المتاحة تشير إلى أن هذه البيئة الجديدة تعطي “ميزة محلية” قوية للأطراف المتحاربة. ولطالما كانت القوات البحرية هي الأداة المفضلة لاستعراض القوة في المناطق البعيدة من العالم”. وختمت: “لكن إذا كانت هذه السفن يتم تهديدها بهذه السهولة وبتكلفة زهيدة، فإن فائدتها قد تكون أقل بكثير مما كانت عليه في الماضي”. |