كيف استعدت مصر لمشروع تهجير الفلسطينيين في سيناء

كشفت الطريقة التي تعاملت بها القيادة المصرية مع مخطط إسرائيل لتهجير فلسطينيي غزة إلى سيناء عن استعداد مسبق له، ووضعت مجموعة من السيناريوهات والبدائل لقطع الطريق على محاولات تمريره كنوع من الأمر الواقع أو استخدام ذرائع إنسانية للضغط على القاهرة وإحراجها للقبول به.

كتبت مقالا بجريدة “الأهرام” منذ نحو أسبوعين بعنوان “الآن فهمنا ما حدث في سيناء” وجد صدى إيجابيا في مصر، فحواه في ما قاله أحد الأصدقاء “مس وجدان مصر”، لا أعلم من أين وكيف، لكن العبارة جعلتني أعيد النظر في طرح الفكرة من زوايا أوسع وأعمق وأوضح للقارئ العربي. ومن هنا جاء هذ التحليل.

ودارت نقاشات عديدة وسط النخبة المصرية حول ما قامت وتقوم به القيادة المصرية من اهتمام كبير بمنطقة سيناء، في أقصى الحدود الشرقية، واعتقد البعض أن هناك مبالغة في الاهتمام، إلى أن جاءت الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة.

وبدأ هؤلاء يعيدون التفكير في ما اتخذ من إجراءات واسعة تضمن حماية سيناء بعد تواتر الحديث عن عملية لتهجير سكان القطاع إليها، وهي فكرة قديمة بدأت تلقى رواجا لدى قيادات إسرائيلية وغربية كمقدمة لتصفية القضية الفلسطينية.

الطريقة التي تعاملت بها مصر مع مخطط إسرائيل لتهجير فلسطينيي غزة إلى سيناء كشفت عن استعداد مسبق له

لام البعض، ومنهم مصريون، على إقدام القيادة المصرية على زيادة الإنفاق على الجيش، ومدّه بأحدث أنواع الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية والطائرات والغواصات، وما إلى ذلك من وسائل وضعت الجيش المصري في مصاف جيوش العالم، واعتبر هؤلاء ذلك “تبذيرا” في وقت تحافظ اتفاقية السلام مع إسرائيل على صمودها وثباتها.

لم يتوقع الكثير منهم أن تهديدا وجوديا يمكن أن يأتي منها في وقت قريب، خاصة مع تدافع الحديث عن توسيع نطاق التطبيع مع دول عربية عدة والتبشير بربيع واعد للسلام العربي – الإسرائيلي، وانكفاء مصر كثيرا نحو الداخل.

يتناسى مصريون أن أول درس يتعلمه الدارسون في الكليات العسكرية المصرية على الخارطة الجغرافية أن هناك خطرين يهددان تاريخيا بلدهم، أحدهما يأتي من الشمال الشرقي، ويضع المُعلم يده اليمنى على إسرائيل، والآخر يأتي من الجنوب، ويضع المُعلم يده اليسرى على دول منابع النيل، وإثيوبيا بالتحديد، ولذلك فمن يتلقون هذه الدروس لن يسمحوا بضياع سيناء، أو ضياع مياه النيل ولو شيّدت إثيوبيا سد النهضة.

لام البعض على القيادة المصرية ارتفاع تكلفة الإنفاق على البنية التحتية في سيناء، لأن ما عدّ إسرافا وضع ضغوطا على الميزانية العامة للدولة، وتجاهلوا أن السيطرة على الأرض ليست فقط من خلال حصون عسكرية وانتشار أمني واسع، فهذا يتطلب جذبا وتثبيتا للسكان من خلال مشاريع منتجة وفاعلة، وهو ما حدث في سيناء.

وشهدت سيناء أكبر عملية تعمير في تاريخها الحديث والمعاصر، ودعوات مستمرة لحث سكان الوادي والدلتا في مصر على الهجرة إليها، وتحويلها من صحراء جرداء إلى منطقة عامرة بالسكان، بهدف دحض الروايات التي تتحدث عن فراغها من البشر، والذي كان أحد أسباب طرح المخطط الإسرائيلي للتهجير.

وأنهت مشروعات التنمية الكبيرة عزل سيناء عن الوادي، حيث جرى ربطها بسلسلة من الأنفاق أسفل ممر قناة السويس لتسهيل الحركة منها وإليها، وأكدت أن سكانها جزء من النسيج الوطني العام وغير منفصلين عنه، وبدأت عملية منظمة لدحض قصص سلبية عنهم كان يتم ترديدها لإحداث شرخ في ولائهم التام للدولة، وما شهدته سيناء من وقوف قبائلها باقتدار وشرف وكرامة خلف الجيش أنهى أسطورة الاغتراب.

لام البعض على القيادة المصرية تبني عملية تهجير عدد من سكان رفح بصرامة، وجرى إسقاط عبارات تسخر من ذلك، وشبهته بما تقوم به إسرائيل في الأراضي الفلسطينية، بهدف زيادة النقمة على النظام المصري، وربطه ضمنيا بالاحتلال، لم ينتبه هؤلاء إلى أهمية هذه الهجرة، فالحكومة التي منحتهم تعويضات وقدمت لهم سكنا بديلا، تعلم أن الجيش يريد حماية هذه المنطقة أمنيا، وتوفير الإجراءات اللازمة لذلك.

تهجير قصري للفلسطينيين

وتم إنهاء ظاهرة الأنفاق في هذه المنطقة والتي بقدر ما كانت شريانا للحياة لسكان غزة في خضم حصاره من قبل إسرائيل، بقدر ما تحولت إلى منغص للدولة المصرية عندما استخدمت لتهريب الأسلحة والإرهابيين إلى سيناء.

وعززت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وفضح ألاعيب التوطين، أهمية ما اتخذ من خطوات أمنية محكمة وبعيدة النظر، فوق الأرض وتحتها، فضلا عن ترتيبات اجتماعية جديدة مع وجود عائلات مشتركة على جانبي رفح المصرية والفلسطينية.

لام البعض على القيادة المصرية في عملية تصميمها على تسريع وتيرة تطوير ميناء العريش البحري، وهدم منازل عدد ممن يقطنون بالقرب منه، ووقتها راجت الدعاية حول التهجير القسري، وتعرضت القيادة لاتهامات مختلفة شككت في أهدافها، مع ذلك التزمت الصمت ولم تتحدث عن الهدف الحقيقي وهو تهيئة الميناء لاستقبال سفن حربية مصرية، استعدادا لمجهول لا تعلم القاهرة متى سوف يحل عليها، لكن مؤشرات عدة قالت إنها شعرت باقترابه.

لام البعض على ما وصفوه بأن الإرهاب أداة في يد القيادة المصرية، وأن الحرب على المتطرفين غرضها التغاضي عن أوضاع سياسية واقتصادية صعبة، وتجاهلوا ما هو مصير سيناء إذا تمكن الإرهابيون من مواصلة حربهم ضد الجيش، باختصار كان المتطرفون سيمثلون منغصا أمنيا كبيرا ومأزقا ربما يحوّل مخطط التهجير إلى واقع، أو على الأقل سيقاتل الجيش المصري على أكثر من جبهة في سيناء وتتعرض القاهرة إلى ضغوط قد تصعب مقاومتها.

أدى دحر الإرهاب والقضاء على دولة الخلافة المزعومة في سيناء إلى تسهيل مهمة القيادة العسكرية في إحكام السيطرة على سيناء، والاستعداد للتصدي لمخطط التهجير القسري من غزة بلا مفاجآت، وهو ما منح القاهرة مرونة في الحركة على مستويات متباينة، وجعل من انتابتهم هواجس تجاه القيادة المصرية يعتذرون سرا، إذ استعدت لإدارة المعركة مبكرا وقبل أن تنطلق رصاصة واحدة من إسرائيل على غزة.

سيناء تشهد أكبر عملية تعمير في تاريخها الحديث والمعاصر ودعوات مستمرة لحث سكان الوادي والدلتا في مصر على الهجرة إليها وتحويلها من صحراء جرداء إلى منطقة عامرة بالسكان

لام البعض، وأنا منهم، غلبة القبضة الأمنية على الكثير من التصورات السياسية في الداخل، لكن تخيّل استمرار الفوضى التي سادت في مصر عقب ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013 بكل ما حملته من انفلات، توجد تفسيرات متعاطفة مع دواعي التضييق في الفضاء العام، بصرف النظر عن الاختلاف والاتفاق معها، ففي دولة مثل مصر تحتاج إلى توازن في إقحام الأمن في السياسة لأن هناك كثيرين من الشرفاء والغيورين على بلدهم من الخطأ وضعهم في سلة واحدة مع جماعة الإخوان التي كشفت عن وجه أكثر قبحا مع الحرب على غزة في موقفها من القيادة المصرية في هذه الأجواء.

لام البعض، وأنا منهم، التأميم شبه المطلق للإعلام المصري، وإطلاق قناة القاهرة الإخبارية دون استعدادات كافية منذ عام، والآن فمهنا أحد أسباب التضييق، والذي حرفه التشدد أحيانا عن مساره الرئيسي، بينما أثبتت قناة القاهرة بعد انطلاق الحرب حاجة مصر إلى ذراع إعلامية خاصة بها تتبنى روايتها الرسمية، فمهما كان دعم بعض القنوات الفضائية العربية للقاهرة، ففي وقت معين قد يتلاشى هذا الدعم أو يتم تقويضه، عندما يتعارض مع مصالح الدول التي أطلقتها وأنفقت عليها.

أخيرا، لام البعض على صمت القيادة المصرية على ضرب قذيفة من دبابة إسرائيل على إحدى النقاط الأمنية في سيناء وإصابة عدد من الجنود بجروح، باعتبار أن القذيفة مقصودة كرسالة لجس النبض، كأن هؤلاء أرادوا أن تقوم القاهرة بالرد عليها، وتناسوا أن هناك اعتذارا رسميا من جيش الاحتلال لمصر، وأن الرد بقسوة قد يوسع نطاق الحرب، ما يسقط اتفاقية السلام، ويمنح قيادة إسرائيل فرصة للهروب إلى الأمام.

ناهيك عن دخول مصر في معركة يمكن أن تواجه فيها حلف الناتو برمته، وهو خيار تجنبت الانزلاق إليه بالدخول عسكريا في ليبيا، والسودان، وقبلهما قصف سد النهضة الإثيوبي، لكن إذا فرضت عليها الحرب تعلم أن المعركة الحقيقية التي تخوضها هي لأجل الدفاع عن سيناء ومنع مخطط التوطين فيها، الأمر الذي يرفع الغطاء عن جوانب في فهم مغزى الصبر الإستراتيجي على الخصوم والتهديدات غير المباشرة.