ردُ أميركا على تنصل إسرائيل من “الاتفاق” يكاد يكون غائباً!

“أمام حماس عرض سخي جداً مقدم من إسرائيل، الآن هي التي تحول بين إبرام وقف إطلاق النار ووصول المساعدات للشعب الفلسطيني”، هكذا كان يصرح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن عندما سلم الوسيط المصري مقترح صفقة الأسرى الأخير نهاية شهر نيسان الماضي، بينما كانت إسرائيل تقول إنها تنتظر موافقة الحركة الفلسطينية.

وظل الكل ينتظر موافقة حماس على أساس أن موقف الحركة هو العقبة الأخيرة أمام وقف إطلاق النار، وقال مسؤول موقع “the Times of israel” في 30 نيسان 2024 بعد تسليم مصر المقترح لحماس إن حكومة اسرائيل تتوقع سماع رد من الحركة على العرض الأخير مساء الأربعاء 1 أيار الجاري، ثم جددت المهلة لأيام أخرى، وسط تفاؤل غير مسبوق منذ بداية الحرب بشأن قرب التوصل لوقف إطلاق نار شاع في ذلك الوقت لدرجة دفعت نازحي رفح وأهالي الأسرى الإسرائيليبن لبدء احتفالات خجولة بقرب انتهاء محنتهم قبل أن تبدد إسرائيل آمالهم برفضها لصفقة الأسرى.

وذكرت صحيفة “Wall Street Journal” الأميركية أن إسرائيل شاركت في صياغة مقترح صفقة الأسرى، وإن لم توافق عليه، حسبما نقلت الصحيفة عن مسؤولين مصريين، في تقرير نشر قبل إعلان حماس موافقتها على الصفقة، كما أكدت تصريحات إسرائيلية رسمية ذلك.


ولكن فوجئ الجميع بعد أن جاءت موافقة حماس بأسرع من المتوقع أن إسرائيل تتنصل من الصفقة وتقول إنه تم تغيير بعض بنودها، بينما الوسيط الأميركي الذي ملأ الدنيا ضجيجاً بأن الصفقة سخية وجيدة، التزم الصمت عن التنصل الإسرائيلي، وتخلت واشنطن عن الحد الأدنى من مقومات أي وسيط وهو أن يعاقب الطرف الذي يتنصل من مقترحاته.

وتأتي موافقة حماس على هذه الصفقة رغم أنها تحوي بنوداً أقل من شروطها السابقة، خاصة ما يتعلق بطلب الحركة بأن تنص الصفقة بشكل واضح على وقف إطلاق نار دائم، حيث نص مقترح الصفقة على مصطلح أقل وضوحاً، وهو إبرام وقف إطلاق نار مستدام، كما خلت من شرط الحركة السابق بالحصول على ضمانات من دولة مؤثرة مثل تركيا وروسيا.

وتضمنت الصفقة وفقاً لإطلاق النار على ثلاث مراحل تستمر كل منها 42 يوماً، تبدأ بإطلاق 33 أسيراً ما يعرف بالحالات الإنسانية أي المرضى وكبار السن، والأطفال والنساء على أن تهدف هذه المراحل للوصول لما يعرف باسم وقف إطلاق النار المستدام، وسيتم تقسيم الصفقة إلى ثلاث مراحل، تستمر كل منها 42 يومًا. وسيشمل ذلك انسحابا إسرائيليا نهائيا من غزة في المرحلة الثانية، وفقاً لوثيقة اطلعت عليها شبكة “CNN” الأميركية.

وكان الرئيس الأميركي جو بايدن منخرطاً بشكل شخصي في المفاوضات حول الصفقة، حسبما نقل موقع “أكسيوس” الأميركي عن مسؤولين أميركيين قولهم، حيث قالوا إن بايدن يعتبر الصفقة عنصرا حاسما ضمن استراتيجية أوسع داخليا وخارجيا.

وآنذاك، أكد كبار مستشاري الرئيس الأميركي، أن الاتفاق المطروح هو السبيل الوحيد لوقف إطلاق النار في غزة، وربما إنهاء الحرب التي أثارت انتقادات حادة لبايدن بين بعض مؤيديه الرئيسيين قبيل الانتخابات الرئاسية، كما جاء خلال فترة صياغة الصفقة وتسليمها من قبل الوسيط المصري لحماس حسب نقل موقع “أكسيوس” عن ثلاثة مصادر.

واللافت أنه لا يكاد يكون هناك رد من قبل الإدارة الأميركية على إفساد إسرائيل للصفقة التي سبق أن روجت لها هذه الإدارة الأميركية وتبدو الاستجابة الأميركية حتى الآن أضعف كثيراً حتى من رد فعل قادة المعارضة الإسرائيلية التي انتقدت بشدة مواقف نتنياهو.

وخرج الرئيس الأميركي جو بايدن، السبت الماضي، بتصريح مثير للجدل، إذ قال “إنه سيكون هناك وقف لإطلاق النار غداً الأحد إذا أطلقت حماس سراح الأسرى، فيما يبدو نكوصاً عن مسار التفاوض حول صفقة الأسرى التي وافقت عليها حماس والتي أبرمت بإشراف أميركي كامل.

صحيح أن إدارة بايدن اتخذت بعض مواقف رداً على بدء إسرائيل عملية رفح منها تعليق صفقات أسلحة لتل أبيب، إلا أنها على الجانب الآخر لم تقم بأي دور في الدفاع عن صفقتها كما يبدو أنها سوف تمد إسرائيل بصفقات أسلحة أخرى، كما أنها تلمح أحياناً إلى أن قوات الجيش الاسرائيلي لم تخترق الخطوط الحمر في عملية رفح.

ويمثل رفض نتنياهو لصفقة الأسرى مع شن هجوم رفح أداة للبقاء في الحكم، حيث يهدد المتشددون في ائتلافه بإسقاط الحكومة وإجراء انتخابات جديدة، إذا توصل إلى اتفاق للأسرى بدون السيطرة على رفح، حسبما ورد في تقرير لصحيفة “Richmond sentinel” الأميركية.

ولذا يحتاج نتنياهو إلى إبقاء أسطورة “النصر الكامل” حية – وهذا ممكن فقط من خلال “زعمه أنه تجنب التوصل إلى اتفاق مع حماس”، حسبما يقول أنشيل فيفر، وهو كاتب عمود ومؤلف سيرة ذاتية لنتنياهو، في صحيفة هآرتس الإسرائيلية.

وأشار تقرير باللغة الإنجليزية لمجلة “جدلية” للدراسات السياسية التابعة لمعهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية أنه رغم أن مشروع الصفقة التي وافقت عليها حماس صيغ بمعرفة الأميركيين، ويعني هذا أنه كان من المفترض أن توافق إسرائيل عليه، ولكن نتنياهو واثق من قدرته على تجاوز خطوط واشنطن الحمراء متى شاء، لأنها ستستمر في الامتناع عن فرض أي عواقب عليه جراء قيامه بذلك.

وفي الواقع، فإن واشنطن تراجعت بالفعل، وبعد رفض إسرائيل للاتفاق تكتفي بالقول أنها تعارض فقط عملية برية إسرائيلية “كبيرة” في رفح، (دون إشارة للاتفاق الذي كانت تصفه بالسخي).

ولفت التقرير إلى أن الاتفاق لم يرفض فقط من قبل نتنياهو، بل صدر من قبل حكومة الحرب رفض بالإجماع للاقتراح المطروح على الطاولة وغزو رفح، في مؤشر على موقف واعتبر التقرير أن ما يحدث في غزة، وفي فلسطين عموماً، يتجاوز كثيراً إصرار أي سياسي على التشبث بالسلطة من قبل نتنياهو.

ويعلق تقرير مجلة جدلية قائلاً إن هذه ليست أول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي التي تتنصل واشنطن من اتفاقات رعتها أو حتى صاغتها بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بل لقد حدث ذلك مراراً.

ولكن فجأة رفضت إسرائيل الصفقة، وزعمت أنها تضمنت تعديلات لم توافق عليها، رغم أن الصفقة قدمت من قبل الوسيط المصري لحماس خلال وجود مدير المخابرات المركزية الأميركية ويليام بيرنز في المنطقة.

وتزعم تقارير إعلامية نقلاً عن مصادر إسرائيلية أن أحد أسباب رفضها للصفقة هو أنها لا تريد أي شرط من شأنه أن ينهي الحرب كجزء من صفقة إطلاق الأسرى. وبدلاً من ذلك، تصر حكومة اسرائيل على أنها ستستأنف القتال بمجرد تنفيذ أي اتفاق بهدف إعادة أسراها وتدمير قدرات حماس العسكرية والسياسية.

وزعمت إسرائيل أن الصفقة التي عرضتها حماس ليست هي ما ساعدت تل أبيب في صياغته مع مصر، حيث قال عضو مجلس الوزراء الحربي بيني غانتس إن نسخة حماس “لا تتوافق مع الحوار الذي جرى حتى الآن مع الوسطاء وبه ثغرات لها أهمية كبيرة”، حسب تعبيره، علماً بأن قيادياً في حركة حماس كشفت أن رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وليام بيرنز، أدخل بنفسه التعديلات في مقترح الصفقة الذي أعلنت الحركة موافقتها عليه، خلال زيارته للقاهرة مطلع الشهر.

وعكس إدعاءات إسرائيل، فإن مقترح الصفقة يبدو أنه لم يتضمن مصطلح وقف النار الدائم الذي ترفضه حكومة اسرائيل بل تتضمن مصطلح الهدوء المستدام كوسيلة للاتفاق على وقف دائم لإطلاق النار دون تسميته كذلك”، حسبما قال دبلوماسيون مطلعون على المفاوضات لشبكة “CNN”.

وحسب تقرير “CNN” فإن موافقة حماس على الصفقة، فاجأت الكثيرين. ومن الواضح أن إسرائيل لم تكن تتوقع ذلك.

ويؤشر تباين المواقف الإسرائيلية حتى قبل موافقة حماس إلى أن تل أبيب كانت تتلاعب بالمسار التفاوضي رغم حماس الحليف الأميركي، حيث قال وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس خلال مرحلة التفاوض إنّه حال التوصل إلى اتفاق تبادل محتجزين مع حركة حماس، فإن تل أبيب ستُوقف العملية العسكرية المخطط لها في رفح، بينما سارع نتنياهو حينما كان العالم في انتظار رد حماس للقول بالتأكيد على أن إسرائيل ستجتاح رفح “سواء حصل اتفاق هدنة أم لا”.

وبينما تجاهل الراعي الأميركي الرفض الإسرائيلي إلى حد كبير فإن هذا الرفض أغضب الوسيط المصري، الذي كانت مفاجأته مزدوجة باعتباره وسيطاً من ناحية ومعنياً بمعركة رفح أكثر من طرف في ظل خوفه من تدفق اللاجئين من المدينة المكتظة أصلاً من النازحين من مناطق قطاع غزة الأخرى.

ولكن على جانب آخر، فإن حماس رغم انخراطها بنشاط في التفاوض وموافقتها على الصفقة، فإنه يبدو أنها لم تتفاجئ كثيراً من التنصل الإسرائيلي من الصفقة، حيث ردت على الهجوم الإسرائيلي على رفح ليس فقط بالتصدي له في المدينة الجنوبية، بل توسيع نطاق الحرب لشمال غزة الذي كان يقول الجيش الاسرائيلي إنه تم القضاء على حماس به منذ شهر كانون الأول 2023.