سِحْرُ البَدْعِ في يراعَةِ سَحَر!  بِقَلَم: مُورِيس وَدِيع النَجَّار

 

 

(قِراءَةٌ في كِتابِ «أَكتُبُنِي… حِينَ أَحبَبْتَنِي!!»، لِلشَّاعِرَةِ سَحَر حَيْدَر)

 

سَحَر حَيْدَر…

كاتِبَةٌ يَمتَزِجُ مِدادُها بِلُهاثِ الضُّلُوعِ، ونُسْغِ العُرُوق.

نَأخُذُ «أَكتُبُنِي… حِينَ أَحبَبْتَنِي!!»، آخِرَ سِفْرٍ صَدَرَ لَها، نَرُودُهُ بِاللِّحاظِ السَّرِيعَةِ، ونَلتَقِطُ مِن مَتْنِهِ عِباراتٍ مُتَفَرِّقَةً، فَإِذا البَيانُ ناصِعٌ، والشَّفافِيَةُ أُنثَوِيَّةٌ دافِئَة. فَنَشُدُّ لِلأَمرِ حَزِيمَهُ، ونَرُوحُ نَجُوبُ وِهادَهُ بِتَأَنٍّ وتَمحِيص.

نُصُوصُهُ حِكاياتٌ لِكَثِيراتٍ، والمَدارُ الأَعَمُّ هو عَلاقَةُ الأُنثَى بِالذَّكَرِ، فَالبَوْحُ تَرَجُّحُ المَرأَةِ المُرهَفَةِ الحِسِّ أَمامَ هُبُوبِ الرَّغَباتِ في الرَّجُلِ، وضِيقِ صَدرِهِ مِنَ الالتِزامِ الَّذِي يَراهُ خانِقًا يَحِدُّ مِن تَوْقِهِ الجارِفِ، وجِماحِهِ المُتَمادِي.

ونَحنُ نُقَدِّرُ مَوهِبَتَها في تَدبِيجِ كِتابٍ، نُصُوصُهُ مُتَشابِهَةٌ، مَحدُودَةُ المَوضُوعاتِ، بِإِنشاءٍ راقٍ لا يَشُوبُهُ تَرَهُّلٌ أَو تَكرارٌ، ولا يَفتَقِرُ إِلى الخَيالِ، والرَّصْفِ المُحْكَمِ، والعِباراتِ الرَّقِيقَةِ كَكَمائِمِ الوَرْد. فَنَراها، أَحيانًا، بِمَقدِرَةٍ أَدَبِيَّةٍ فَنِّيَّةٍ مُمَيَّزَةٍ، تَبنِي، على فِكرَةٍ واهِيَةٍ، وَوَمضَةِ خاطِرٍ خاطِفَةٍ، مَقطُوعَةً سَدِيدَةَ الجَدْلِ، مُتَراصَّةَ الدِّيباجَةِ، ذاتَ بُؤْرَةٍ شَدِيدَةِ الجَذْبِ تَتَّصِلُ بِها المَفاصِلُ كافَّةً، فَإِذا وَحْدَةُ المُفَلَّذَةِ مُحَقَّقَةٌ، فَالعَينُ على ارتِياحٍ، والقَلبُ على طُمَأنِينَةٍ، والفِكْرُ على يَقَظَةٍ واهتِمام.

وهو، في جُلِّهِ، مُذَكِّراتٌ لِعَواطِفِ امرَأَةٍ، تَتَقَلَّبُ بَينَ جَمْرِ وِصالٍ، وصَقِيعِ غِيابٍ، مَكتُوبَةٌ بِأُسلُوبٍ عَرَبِيٍّ رَشِيقٍ، في خَيالٍ رَقِيقٍ، وَوَشْيٍ أَنِيقٍ، ونَسْقِ زَبَرْجَدٍ وجُمانٍ وعَقِيق…

كَما إِنَّهُ مَعْرِضٌ لِهَواجِسِ الأُنثَى، وصِراعِها المَكبُوتِ مع مُجتَمَعٍ مُكَبَّلٍ بِتَقالِيدَ انتَهَت إِلَيهِ عَبْرَ عُصُورٍ، مَطِيَّتُها أَعرافٌ مُتَرَسِّخَةٌ، وائتِمامٌ أَعمَى. تَقُول: «حَمَلَتها الأَقدارُ صَوْبَ المَجهُولِ، ضَحِيَّةَ مُجتَمَعٍ ما زالَ يَتَزَيَّا بِصُوَرِ الماضِي ويَكتَحِلُ بِسَوادِ أَمسٍ آفِلٍ غابَت مَعالِمُه. ضَحِيَّةَ تَربِيَةٍ صارِمَةٍ أَلغَت فِيها الأُنُوثَةَ، وأَدَتْها، حَتَّى باتَت صُورَةُ المَرأَةِ في عَينَيها، أُنمُوذَجًا لِلفِتنَةِ وأَمرًا مُشِينًا…» (ص 74). أَيضًا: «إِنَّها امرَأَةٌ […]، وُجُودٌ مَنسِيٌّ خَلفَ سَتائِرَ شَرقِيَّةٍ مُهتَرِئَة» (ص 83).

وقد هاجَمَت، ولَو بِلُغَةٍ مُؤْنِقَةٍ، تَزوِيجَ الفَتاةِ في عَمَلِيَّةٍ هي أَقرَبُ إِلى التِّجارَةِ مِنها إِلى الاختِيارِ الحُرِّ لِشَرِيكِ الحَياةِ في سَرَّائِها وضَرائِها. هي آفَةٌ ابتُلِيَ بِها الشَّرقُ مُنذُ أَقدَمِ العُصُورِ، ولَمَّا تَزَلْ سارِيَةً، مَرْعِيَّةً في عُقُولٍ كَثِيرَةٍ عَصِيَّةٍ على النُّمُوِّ، والرُّقِيِّ في مَعارِجِ الحَضارَة. الشَّرقُ الَّذِي «صارَتِ المَرأَةُ (فِيهِ) أَداةَ إِنتاجٍ، والرَّجُلُ “مِفتاحَ الخَزْنَة”» (ص 141).

تَقُول: «نَعَمْ، وافَقَ (الوالِدُ) مِن دُونِ قَيْدٍ أَو شَرْط. نَسِيَ أَنْ يَسأَلَ عَن “حالِ” مَنْ سَيُسَلِّمُهُ أَثمَنَ “عَطِيَّةٍ” (ابنَتِهِ). مِن دُونِ أَنْ يُدرِكَ أَنَّ مَنْ “وَهَبَهُ” فِلْذَةَ كَبِدِهِ، سَوفَ يَغتَصِبُ أَمانَها وسَكِينَتَها، وسَوفَ تَمُوتُ عَينُها بَدَلَ أَنْ تَحيا…» (ص 87).

وكاتِبَتُنا، الَّتِي تَحمِلُ لِواءَ المَرأَةِ، وتُصَوِّرُها فَرِيقًا ضَعِيفًا في جُلِّ مَقطُوعاتِها، هي مُنصِفَةٌ، وتَحمِلُ، بِالأَحرَى، لِواءَ الإِنسانِ الصَّادِقِ الوَفِيِّ، فَنَراها، في «زائِفَة» (ص 93)، تَتَلَبَّسُ بِها الخِيانَةُ الزَّوجِيَّةُ، وتَنتَهِي بِها إِلى أَلَمِ النَّدَمِ، فَتَعُودُ إِلى صَوابِها، وتَعزِمُ على الوَفاء…

في رَأسِ اهتِماماتِ هذه الأَدِيبَةِ قَضِيَّةُ المَرأَةِ الشَّرقِيَّةِ المَسحُوقَةِ بِاحتِذاءَاتٍ بالِيَةٍ رَذَلَها التَّارِيخُ، وعافَتها الفِطرَةُ البَشَرِيَّةُ، وسُنَّةُ التَّطَوُّرِ والارتِقاء. وكَيفَ لا، وهي النَّاشِطَةُ الفاعِلَةُ في مَجالِ حُقُوقِ المَرأَة.

خُلاصَةً

هذا الكِتابُ هو قِصَّةُ امرَأَةٍ ورَجُلٍ – أَيِّ امرَأَةٍ وأَيِّ رَجُلٍ – بِما في عَلاقَتِهِما مِن مَدٍّ وجَزْرٍ، مِنِ انقِشاعٍ وضَبابِيَّةٍ، مِن فَرَحٍ وتَرَحٍ وضَياع. ونَحنُ، لَو وَسَمناهُ بِالعُنوانِ «المَرأَةُ في مَهَبِّ الرَّجُلِ»، لَرُبَّما ما شَطَطْنا، أَو أَضَعْنا القِبْلَة…

***

رُؤيَةُ الكاتِبَةِ، في جانِبٍ مِنَ الحَياةِ، تَنضَحُ مِن خَلَلِ الأَلفاظِ، فَإِذا الرَّفضُ مُحَرِّكُها،الرَّفضُ لِما يُكَبِّلُ إِرادَةَ الإِنسانِ، ويَحجُزُها ضِمْنَ أَسوارٍ صَعبَةٍ على التَّجاوُزِ أَو الاقتِحام. تَقُول: «تُخاطِبُ ضَجِيجَ سَكِينَتِهِ المُشتَعِلَةِ خَلفَ الحُدُودِ المَرسُومَةِ عَنْوَةً بَينَهُما» (ص 23). فَتَعْسًا لَها مِن حَياةٍ أُفقُها «حُلْمٌ مُستَحِيل» (ص 23)، ويا قَساوَةَ الأَحلامِ المَهِيضَةِ، ويا خِذْلانًا يَكوِي مِن فارِسٍ رَسَمَتهُ المُنَى فَاختَفَى «خَلفَ البُعْدِ، مُستَلقِيًا عِندَ حافَّةِ الرِّضَى، يَسأَلُ، بَعدَ أَن نَهِلَ طَوِيلًا مِن نَبعِها… وكَأَنَّهُ نَسِيَ ما سَكَبَتهُ عِندَ أَعتابِه» (ص 24). وهذا الجَحْدُ يَضرِبُ في ضَعْفِ الأُنثَى، وهو لَوْنٌ مِن لَوحَةِ أُنُوثَتِها المُحَبَّبَةِ، يَأخُذُها إِلى جَنَّةِ الأَحلامِ الوَردِيَّةِ، فَيُحيِي مَواتَها أَمَلُ اللِّقاءِ المَوعُودِ «فَاللِّقاءُ، مَهما كانَ أَمَلٌ يُحيِي مَوتَها…» (ص 30).

كِتاباتُها – وإِنِ استَطالَت، أَحيانًا، في بَسْطَةِ الوَرَقِ – كَثَّفَت فِيها المُؤَلِّفَةُ سَدِيمَ الأَحاسِيسِ المُتَخَبِّطَةِ، وأَنارَت، في حَلَكِها المُقِيمِ، دَرْبًا تَنفُذُ إِلى القَلبِ، كُلِّ قَلبٍ، لِأَنَّها مِن شَغافِ قَلبٍ مَلَأَهُ الإِحساسُ المُرهَفُ، وحَبَتهُ المَوهِبَةُ السَّاطِعَةُ رَشاقَةً تَطِيرُ بِالحُرُوفِ، تُجَلِّلُ المَقُولَ، وتُسكِرُ القارِئ. ونَرَى أَنَّها لا تَعنِي امرَأَةً بِذاتِها، بَل كُلَّ أُنثَى، ويَقِينًا هي هُناكَ في كُلٍّ مِنهُنّ. نَقُولُ هذا، وقد دَمَجْنا شَخصِيَّةَ الكاتِبَةِ بِالمَرأَةِ الرَّاوِيَةِ، لِقَناعَةٍ شَخصِيَّةٍ، ومُستَنِيرِينَ بِما قالَهُ الأَدِيبُ الفَرَنسِيُّ جُوستاف فلُوبِير مُتَحَدِّثًا عن «إِيمَّا» بَطَلَةِ رِوايَتِهِ «مَدام بُوفارِي»: «إِنَّ إِيمَّا هِيَ أَنا». وأَيضًا بِمَقُولَةِ فرَانسوَاز فن رُوسِيم: «إِنَّ مَا يُحْكَى لَنَا أَوْ يُرْوَى فِي أَيَّةِ رِوَايَةٍ هُوَ دَائِمًا عَمَلُ أَحَدٍ مَا يَقُصُّ عَلَينَا وَيُخبِرُنا بِقَدْرِ ما يُخبِرُ عَن نَفسِهِ أَو يَحكِيها».

***

في الكِتابِ وَحدَةُ رُوْحٍ، وتَشابُهُ سُلُوكِيَّاتٍ، ولِسانٌ أُنثَوِيٌّ يَروِي بِنَفَسٍ واحِدٍ، هَوًى يَكادُ لا يَتَغَيَّرُ، يَنداحُ مَدَى الرِّقاعِ، بِحَرِّهِ وصَقِيعِهِ، بِنَزَقِهِ وتَرَوِّيهِ، بِأَنَفَتِهِ وصَغارِهِ، ما يَحُضُّ على افتِراضِ وَحْدَةِ المَرأَةِ في هذا السِّفْرِ الأَدَبِيِّ اللَّطِيف. فَلْنَسِرْ بِهذا الظَّنِّ، ولَنا غُفرانُ الأَدَب…

مِن سِماتِ راوِيَتِنا المَيْلُ إِلى الوَحدَةِ، وهي صِفَةٌ غالِبَةٌ في الأُدَباءِ والشُّعَراءِ الأَصِيلِين. تَقُولُ عن بَطَلَتِها (هِيَ): «وَحدَتُها سَكِينَتُها، أَمنُها وأَمانُها» (ص 31).

نَثْرُها شِعْرٌ، ولَو غابَ عَنهُ الإِيقاعُ المُرَنِّمُ في الأُذُنِ، فَمُوسِيقاهُ في أَلفاظِهِ المُنتَقاةِ بِعِنايَةٍ دَقِيقَة؛ فهو إِلى الجَنانِ بِسَلاسَتِهِ، وإِلى الأَغوارِ بِعُمقِه. وصَدِيقَتُنا نَرجِسِيَّةٌ – إِنْ أَخَذناها بِبَطَلَةِ الحِكاياتِ –، وكُلُّ شاعِرٍ نَرجِسِيٌّ، فهي تَرَى في بَثِّ الحَبِيبِ «وَشْمَ اسمِها، ورَسمَها […] تَلمَحُهُ عِندَ التِقاءِ السَّاكِنَين» (ص 11). وكَم هو جَمِيلٌ التِقاءُ السَّاكِنَينِ عِندَها، ولَو غَضِبَ النُّحاةُ، فَالحُبُّ لا يَحتَمِلُ السُّكُونَ، ولَو ظَهَرَ هذا لِلعُيُونِ الَّتِي يَتَوَهَّجُ في سَوادِها لَهَبُ القُلُوبِ والجَوارِح…

وفي أَسطُرِها يَتَكَشَّفُ صِراعٌ خَفِيٌّ في نَفْسِ المَرأَةِ، وتَشابُكٌ في أَحاسِيسِها. وهي تَتُوقُ إِلى فارِسِها، بَعدَ غِيابٍ، وتُبحِرُ في ذِكرَياتِها، «تُفَتِّشُ، بَينَ أَوراقِها المُشَتَّتَةِ، بَعدَ انقِضاءِ الدَّهرِ، عن أَنفاسٍ فَلَشَها يَومًا فَوقَ جَسَدِها البارِد…» (ص 20). ويَغلِبُها الأَسَى، فَتَتَأَوَّه: «لَيتَ الخَفَّاقَ تَخمُدُ نِيرانُهُ، فَتَنزاحَ رِياحُ بَحرِها الَّذِي ما فَتِئَ يُقَلِّبُ المَراكِبَ بَحثًا عَن طِيْبِه» (ص 20).

لِلذِّكرَياتِ صَدارَةٌ عند هذه المُرهَفَةِ، وهذا مِنْ قِسمَةِ الأُدَباءِ المُفلِحِين. يَمُرُّ الزَّمَنُ، ويَترُكُ بَصَماتِهِ على شَغافِهِم، يَعُودُونَ إِلَيهِ كُلَّما أَغَذَّوْا في السِّنِينَ، قُلُوبٌ واجِفَةٌ، وحَنايا تَفِيضُ بِالحَنِينِ، وعُيُونٌ مُغرَوْرِقَة. تَقُول: «أَحِنُّ إِلَيكِ مَدرَسَتِي، وأَشتاقُ مَقاعِدَكِ الخَشَبِيَّةَ القَدِيمَةَ، الَّتِي حَمَلَت فَوقَ خُدُودِها أَحرُفَ أَسامِينا. أَحِنُّ إِلى قَرْعِ الجَرَسِ الصَّغِيرِ […] أَشتاقُ أَصواتَ المُعَلِّمات. كانَت مَدرَسَتِي مِنهاجًا زَرعَ بُذُورَ الحُبِّ والمَعرِفَةِ فَوقَ أَثلامِ عُمْرِي» (ص 139).

وفي هذا الإِطارِ نَستَذكِرُ قَولَ جُبران خَلِيل جُبران: «الذِّكرَياتُ حَياةٌ، فَلا تَدَعْها تَنسابُ مِن بَينِ حَياتِكَ؛ الذِّكرَياتُ هي العُمرُ الباقِي لِلعُشَّاقِ والمَحرُومِين»…

وهي لَم تُقَصِّرْ في كَشْفِ خَبايا النَّفْسِ، والتَّعبِيرِ عن طَواياها الخَفِيَّةِ، بِأُسلُوبٍ سَهْلٍ شِعرِيٍّ أَنِيقٍ، وكَيفَ لا وهي الشَّاعِرَةُ الَّتِي يَعنُو َلها اليَراعُ، وتَزِينُها الثَّقافَةُ الضَّافِيَةُ، ويَحدُوها الحِسُّ المُفْرِط.

وبَراعَتُها بَيِّنَةٌ، فَمِن لِقاءٍ صامِتٍ بَينَ أُنثَى ورَجُلٍ، لا يَتَعَدَّى لَحَظاتٍ، تُدَبِّجُ مَقطُوعَةً تَرسُمُ فِيها خَلايا الوَقتِ، وأَمواجَ الأَفكارِ، وشُرُودَ الخَيالِ، واستِعادَةَ الماضِي قَرِيبِهِ وبَعِيدِهِ، وهذا مِمَّا يُمَيِّزُ كِبارَ المُنشِئِين.

قَلَمُها خَفِرٌ حِينَ تَتَناوَلُ العَلاقَةَ الحِسِّيَّةَ. تَقُولُ ولا تَقُولُ، تُوحِي، وتَبرَعُ في ما يَأخُذُ المُخَيِّلَةَ إِلى بَعِيدٍ بَعِيدٍ، وذلك بِاللَّفْظِ الأَقَلّ. تَقُول: «كانَت يَداهُ تَقرَأُها في كُلِّ مَرَّةٍ تَأذَنُ لَهُما الصِّدفَةُ، فَتَتَراقَصُ على وَقْعِ اللِّقاءِ الآهاتُ وتُهَلِّلُ القُلُوبُ ويَسكَرُ مِن بَرِيقِ عَينَيها النَّاعِسَتَين» (ص 62). أَيضًا: «جُلُّ طُمُوحِها مُلَمِّعٌ لِلشِّفاهِ، حُمْرَةٌ لِخُدُودِها الغَضَّةِ، سِروالٌ قَصِيرٌ وسَرِيرٌ مُبَعثَر» (ص 81).

هي جُرأَةٌ تُحسَبُ لَها، في تَعبِيرِها الصَّرِيحِ عَن عاطِفَةٍ مُتَفَلِّتَةٍ إِلى حَدٍّ، في شَرْقٍ يَحظُرُ على المَرأَةِ الكَثِيرَ مِمَّا أُتِيحَ لِلرَّجُلِ، ويُحصِي عَلَيها أَنفاسَها، ويُحَدِّدُ دُرُوبَها والخَطَوات.

على أَنَّ الرَّجُلَ والمَرأَةَ يَتَساوَيانِ، عِندَها، بِالــ «حُلْمِ المُستَحِيل» (ص ص 38، 40)، الَّذِي يَبدُو مَألُوفًا في رَحَى العَلاقاتِ بَينَ الرَّجُلِ والمَرأَة «تُراهُ كانَ حُلْمًا مُستِحِيلًا؟» (ص56).

والحُلْمُ يَتَرَدَّدُ كَثِيرًا في نُصُوصِها، أَحيانًا بِلَونٍ زَهْرِيٍّ وَوَعْدٍ مَعْسُولِ، وأَحيانًا، أَكثَرَ، بِرِداءِ خَيْبَةٍ مُرَّةٍ تَقتُلُ وَعْدَ الحَرِيرِ في الشَّرنَقَةِ المُوصَدَة. وقد يَكُونُ الإِحباطُ، تارَةً، مِن نِعَمِ الدَّهْرِ على الكِتابَةِ الَّتِي، إِنْ غُمِّسَت بِالأَلَمِ تَلِدُ الإِبداع.

لا يَخلُو أُسلُوبُها مِن طَرافَةِ التَّعبِيرِ، وذَكاءِ الإِشارَة. تَقُول: «أَطبَقتُ جُفُونِي على عُشْبِ صَدرِك» (ص36). أَوَلَيسَ هذا مِنَ البَلاغَةِ الَّتِي تَدُلُّ على الكَثِيرِ بِالقَلِيلِ في حُسْنِ إِشارَةِ واقتِضاب؟!

كَما أَنَّ فِيهِ رَمزِيَّةً شِعرِيَّةً مَضبُوطَةً، لا يَستَعصِي اختِراقُها على القارِئِ. وأَدِيبَتُنا أَتَت خَيرًا أَنْ لَم تَجرُفْها الحَداثَةُ المُنفَلِتَةُ إِلى الطَّلاسِمِ، ومَعامِي اللَّاوَعْيِ، حَيثُ الحَيْرَةُ تَلُفُّ الكاتِبَ والمَكتُوبَ والمُبْتَلَى بِهِما…

والأُسلُوبُ عِمادُ الكِتابَةِ الرَّئِيسُ، وهو المِحَكُّ النَّقدِيُّ الفاصِل. أَلَم يَقُلْ مارُون عَبُّود: «إِنَّ الجَمالَ الفَنِّيَّ هو في الأُسلُوبِ لا في الأَفكارِ الَّتي قَلَّما نَظفَرُ مِنها بِشَيءٍ جَدِيد»(1)؟!

***

جَمِيلَةٌ لِقاءَاتُ الصِّبا، وجَمِيلٌ الحُبُّ في بَواكِيرِه. ومِنَ الإِبداعِ كَيفَ استَطاعَت كاتِبَتُنا أَن تَلتَقِطَ بَعضَ لَحَظاتِ الهُيامِ، تَختَطِفُها مِن فَكِّ الزَّمَنِ الهارِبِ، وتَرسُمُها على الوَرَقِ آياتِ جَمالٍ تَأخُذُنا بِالذَّاكِرَةِ إِلى ماضٍ تَناءَى وغَبَرَ، إِلى أَيَّامِ العِشْقِ الأَوَّلِ، وصَدَى النَّبْضِ المُتَسارِعِ، وشَهْدِ اللَّمَساتِ الدَّوافِئِ، وأَرَقِ اللَّيالِي الجَمِيل. تَقُول: «طَرِيقُهُما لا يُشبِهُ أَيَّ طَرِيق. غَيرَ أَنَّهُما اختارا الأَصعَبَ وتَحَدِّي المَمنُوع. الهَوَى ساحَتُها، وعِشقُهُ يَشُدُّها إِلَيهِ فَتَرتَمِي غَيرَ مُمانِعَةٍ […] بَينَ عُمْرٍ وحَنِينٍ تَسرَحُ، تُمَشِّطُ الأَرضَ الخَصِيبَةَ، وتَتَذَوَّقُ طَعْمَ الإِثْمِ الجارِي خَلْفَ اللِّقاء…» (ص ص 34، 35). ولَولا جَمالِيَّةُ الأَلفاظِ، والإِنشاءُ الأَدَبِيُّ المُتقَنُ، والإِيحاءُ الذَّكِيُّ، لَبَدَت صُورَةُ المَشهَدِ باهِتَةً لا تَستَرعِي الانتِباهَ ولا تَشُدُّ القُلُوب.

والحُبُّ دُستُورُ صاحِبَتِنا، وهو أَعلَى ما تَسمُو إِلَيهِ الرُّوْح.

أَلَيسَهُ «دِينَ وإِيمانَ»(2) شَيْخِ المُتَصَوِّفِينَ الإِمامِ مُحْيِي الدِّيْنِ بْنِ العَرَبِي؟!

أَلَيسَهُ نَصِيحَةَ القِدِّيسِ أَغُوسطِينُوسَ الذَّهَبِيَّة: «أَحْبِبْ وَاصْنَعْ ما تَشاء»؟!

تَقُول: «قَلبِي لا يَعرِفُ الأَقفال. يَأبَى إِلَّا أَن يَكُونَ سَكَنًا لا يَقطُنُهُ سِوَى رُعاةِ الحُبِّ ودُعاةِ العَطاءِ غَيرِ المُقتَصَد…أُؤْمِنُ بِأَنَّ الحَياةَ لِباسُ الحُبِّ وأَنَّ المُعطِي لا يَأخُذُ إِلَّا مِن ذاتِهِ […] قَلبِي مِعْجَنُ الحُبِّ غَيرِ المَشرُوط» (ص ص 140، 141).

وتَقُول: «الحُبُّ لَيسَ رِوايَةً، نِهايَتُها سَعِيدَة» (ص 56).

فَتَأخُذُنا إِلى نِزار قَبَّانِي مُنشِدًا:

«الحُبُّ لَيسَ رِوايَةً شَرقِيَّةً      بِخِتامِها يَتَزَوَّجُ الأَبطالُ».

مِن جَمِيلِ قَولِها: «نَخافُ النِّهاياتِ السَّعِيدَةَ لِأَنَّها تُقصِي الحُلْم…» (ص 56).

وهي، تُعلِنُ إِيمانَها بِاللَّهِ، ورُؤيَتَها العَمِيقَةَ لِلسَّعادَةِ، وفَهمَها لِلحَياةِ، بِعِبارَةٍ قَصِيرَةٍ مُكَثَّفَة: «السَّعادَةُ لُغَةُ التِقاءٍ بِالذَّاتِ الصَّادِقَةِ، المَملُوءَةِ مِن نِعَمِ اللهِ ورُوحِه» (ص 93).

أَلنُّصُوصُ الَّتِي نَقرَأُ بَوْحٌ صامِتٌ، غَيرُ مُبَرقَعٍ، لِأُنثَى – كُلِّ أُنثَى – يَتَفَطَّرُ قَلبُها في حُبٍّ يَتَناوَبُ عَلَيهِ تَلَظٍّ إِلى وِصالٍ مَلجُومٍ، وانصِياعٌ أَمامَ تَناسٍ وغِياب.

ولكِنْ…

لِلِانصِياعِ حُدُودٌ، يَجرُفُها تَيَّارُ الرَّغبَةِ، حَتَّى في النُّفُوسِ المُستَكِينَةِ. فَثَورَةُ الدِّماءِ، في الشَّرايِينِ الجَوْعَى، تَثُلُّ السُّدُودَ بِفَيضِها الطَّاغِي، ورِيحِها العاصِفَة. فَنَرَى بَطَلَتَنا تَقُول: «الصُّبحُ مَعَكَ، لا يُشبِهُ أَيَّ صَباحٍ عَرَفتُهُ […] واختَفَى الصَّمتُ المُتَأَنِّي، عادَت إِلى دَوالِيها الثَّائِرَةِ دِماءٌ مٌضَرَّجَةٌ بِخَمرَةِ الوَجْدِ، نَضَحَ كَأسُها بِنَبِيذٍ ما حَوَتهُ خَوابٍ مِن قَبْلُ، ولا استَطعَمَتهُ شِفاهُ العَذارَى» (ص 27).

شاعِرَتُنا تُجِيدُ لُعبَةَ التَّعبِيرِ عن أَعقَدِ المَشاعِرِ بَوْحًا، وإِذ تَفعَلُ فَعِفَّةُ اليَراعِ مَصُونَةٌ، والمِدادُ سَوادُهُ صَفاءٌ وَخَفَر. تَقُولُ بِلِسانِ المَرأَةِ تُخاطِبُ الرَّجُل: «إِلعَبْ كَما تَشاءُ، احرِثْ بَيادِرِي، أَدهِشنِي بِوُجُودِكَ الغَضّ. وأَنا، مُنذُ ابتِداءِ الوَقتِ، أَتَلَهَّفُ لاحتِضانِك… إِفعَل ما تَحتاجُهُ “أَناك”» (ص 43).

والمَرأَةُ، عِندَها، تَبرُزُ بِكُلِّ صُوَرِها. لَيسَت مُجَثَّمًا صُمِّمَ على مِنوالِ سَجِيَّةٍ ما. هي نارٌ وثَلْجٌ، هي نُضْجٌ ونَزَقٌ، هي قُوَّةٌ وضَعْفٌ، هي إِباءٌ وإِذعانٌ، هي عِفَّةٌ وتَبَذُّلٌ، هي… إِنسان.

ولَمَّا كانَت هَواجِسُ المَرأَةِ مُتَشابِكَةً مع شُجُونِ الرَّجُلِ، وهو مُحَرِّكُها الرَّئِيسُ، فِإِنَّها، في بَعضِ مَقطُوعاتِها، أَعطَتهُ الصَّدارَةَ، واستَبطَنَت، بِحُنكَةٍ، طَوِيَّتَهُ، وقَرَأَت كَثِيرًا مِن خَفايا «لَوحِهِ المَحفُوظ».

***

قَرَأناكِ، سَحَر، ونَشهَدُ لَكِ…

إِنَّكِ، بِحَقٍ، سَيِّدَةُ قَلَمٍ، لا يَعرِفُ حِبْرُهُ إِلَّا بَرْءَ البَهاءِ، والتَّخَطُّرَ في السَّناء…

وَ «إِنَّكِ امرَأَةُ الوَعْدِ المُضِيءِ، والغَدِ المُشرِقِ وشَرَفِ الوَفاءِ، إِمرَأَةٌ تَعرِفُ حَقًّا ما تُرِيدُ، ولا تَعرِفُ الاستِسلامَ، عُصفُورَةُ الشَّوقِ والحُقُولِ المُلَوَّنَةِ، والمُستَقبَلِ النَّاهِضِ عِندَ الغَسَقِ، والأَمَلِ النَّافِرِ عِندَ مَفارِقِ الضَّوءِ، والفَرَحِ المُستَرخِي خَلْفَ الوِهاد…» (ص ص 16، 17).

إِنَّكِ المَرأَةُ الَّتِي نُرِيدُ في مُحِيطِنا الشَّاسِعِ، الهاجِعِ على مَورُوثاتٍ بالِيَةٍ، الضَّارِبِ رُجُوعًا في عُصُورٍ خالِيَةٍ، والخالِي بالًا مِن هَمِّ التَّفَوُّقِ والانتِصارِ على الذَّات…

إِنَّكِ المَرأَةُ الَّتِي «أَلَمُها فَرَحٌ تَمسَحُ بِهِ دَمعَةَ الآخَرِينَ، فَيَطمَئِنُّ قَلبُها وتَبتَسِم» (ص 118)…

مِن مَدِينَةِ الشَّمسِ أَتَيتِ، وسِفْرُكِ، هذا، شَمْسٌ تُضِيءُ مَدارِجَ الكِتابَةِ، وتَخْلُدْ ضِياءً ساطِعًا بَينَ الصَّحائِفِ على رُفُوفِ الإِبداع.

ولِكُلِّ رَجُلٍ، تُراوِدُهُ نَفسُهُ على إِفسادِ الرِّقَّةِ والعُذُوبَةِ والطَّهارَةِ في أُنثَى، نَقُول: «حَسبُكَ اللهُ، وَ “رِفْقًا بِالقَوارِير”»(3).

كاتِبَتَنا المَوهُوبَة

بَرَأتِ الجَمالَ حُرُوفًا تَنطِقُ الشِّعرَ، وشِعْرًا تَعَرَّى مِن أَوزانِهِ وما تَعَرَّى مِن دَهشَتِهِ والبَهار…

مَسِيرَتُكِ الأَدَبِيَّةُ سَمْتُ خَيْرٍ، فَارفِدِيها، مِن قَفِيرِكِ الجَوَّادِ، ما نَبَضَ لَكِ عِرْقٌ، وما تاقَت نَفسُكِ إِلى خَلْق…

سَلِمْتِ، وإِلى لِقاءٍ آخَرَ مع مَولُودٍ جَدِيدٍ في سُبْحَةِ العَطاءِ، وفي قابِلٍ مُبارَك!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1): (مارُون عَبُّود، المَجمُوعَة الكامِلَة، المُجَلَّد 5، «على الطَّائِر»، ص 189)

(2): أَدِينُ بِدِينِ الحُبِّ أَنَّى تَوَجَّهَت       رَكائِبُهُ فَالحُبُّ دِينِي وإِيمانِي     (مُحْيِي الدِّيْنِ بْنِ العَرَبِي)

(3): – ﴿لَّذِينَ قالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَد جَمَعُوا لَكُمْ فَاخشَوْهُم فَزادَهُم إِيمانًا وقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ

الوَكِيلُ﴾       (القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ آل عُمران، الآيَة 173)

– «رِفْقًا بِالقَوارِير»   (حَدِيث شَرِيف)

(شَبَّهَ النِّساءَ بِالقَوارِيرِ لِأَنَّهُنَّ ضَعِيفاتٌ حَسَّاسَاتٌ قَابِلاتٌ لِلعَطَبِ)