في البدء كان الطين، ثم أتت القناطر لتزيّن الواجهات، وأعقبها القرميد لتصبح السطوح حمراء مزهوة بلونها وجلالها، وبالعصافير تأوي إليها… فهندسة البيت اللبناني هي نتاج تفاعل حضاري بين سكان المنطقة الأصليين، وبين حضارات الشعوب التي كان لها دور فيه خلال مراحل متعاقبة من التاريخ.
الموروث يتناغم مع المقتبس في خصوصية رشيقة ومتوازنة
المستطيل من أيام الفينيقيين
تناولت الدراسة التي أعدتها المعمارية اللبنانية سمر مكي حيدر (أستاذة في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية)، أبرز المراحل التي مرّ بها البيت اللبناني، فأشارت أولًا، إلى البيت الكنعاني الفينيقي ما قبل الألف الثالث قبل الميلاد، الذي كان مستطيلًا قليل العرض، جدرانه مبنية من حجارة جمعت عشوائيًا، قليلة الارتفاع منعًا للالتواء، يرتكز عليها سقف مؤلف من شرائح صخرية كبيرة.
في مرحلة لاحقة، ازداد ارتفاع الجدران، وأصبحت مبنية بحجارة منتقاة بأشكال منتظمة إجمالًا. وكانت واجهاتها الداخلية والخارجية تغطى أحيانًا بالطين، واقتصر دورها على تحديد الفراغ الداخلي الذي بقي مستطيلًا وازدادت أبعاده. وزرع داخل هذا الفراغ عمود خشبي (أو أكثر) يحمل جسرًا خشبيًا رئيسًا تتعامد عليه جسور فرعية صغيرة، فطبقة من قصب مرصوف تعلوها أخرى من البلان (نبات بري شائك صلب)، تشكّل مهدًا لطبقة من الطين المرصوص. والنتيجة المهمة المستخلصة من هذا الإنشاء هو التوصل إلى مبدأ «المسطح الحر» باللغة المعمارية الحديثة، إذ ان السقف بات محمولًا على الأعمدة والجسور الخشبية بمعزل عن الجدران التي بات ممكنًا تحريكها في الداخل بحسب الرغبة والحاجة.
في مرحلة ثالثة، حافظ المسطح على شكله المستطيل، لكن مساحته اتسعت، وأصبح يضم بهوًا مركزيًا يحيط به عدد من الغرف المتصلة بالخارج عبر نوافذ تتيح الاستفادة من اعتدال المناخ وجمال الطبيعة. واعتدال المناخ هو ما جعل اللبنانيين يبتعدون عن اعتماد نموذج بيت الفناء الداخلي والمتميز بإطلالته على الداخل، والمنتشر في تلك المرحلة بين بلاد ما بين النهرين وبلاد الإغريق. وقد استعملت الصخور المقصبة لبناء الجدران، ووضعت في الزوايا الحجارة الكبيرة الصلبة التي حملت السقف، ومن هنا لاحت في أفق البيت اللبناني فكرة العمود الحجري.
البيت العباسي
مع إطلالة القرن الثامن الميلادي، جاء العباسيون وشجعوا القبائل العربية على الهجرة إلى لبنان، بعدما كان الأمويون قد اتخذوا من مدينة عنجر في البقاع عاصمة صيفية لهم، فأعادوا استعمال الصحن الداخلي المكشوف، وادخلوا نظام القناطر ليحل مكان الأعمدة والجسور الخشبيّة الحاملة. وقد تأثر البيت العربي العباسي أساسًا بالتقليد الفارسي المتحدّر من البيت الحيري (نسبة إلى الحيرة في العراق)، من حيث احتوائه على الإيوان الذي أصبح يعرف بالليوان، وهو عبارة عن غرفة مفتوحة على الخارج بشكل قبوة مهدية تتوسط غرفتين سكنيتين.
في الصيف يؤمّن الليوان فسحة منعشة لطيفة لسكان البيت، وفي الشتاء يتحول إلى مدخل مسقوف يفضي إلى الغرفتين السكنيتين. وقد حافظ البيت العباسي على الشكل المستطيل، غير أن فخامته وأهميته اختلفتا باختلاف حال أصحابه. فالبيت المتواضع ذو السقف الطيني للفقراء، والبيت الكبير المؤلف من تقاطع مستطيلين متعامدين أمامهما صحن وسطي للميسورين. والتطور النوعي البارز الذي شهده هذا البيت هو دخول القبوات المهدية والعقود المصلّبة التي حلّت محل الجسور والأعمدة الخشبية في البيت القديم أو مكان القناطر في البيت الأموي.
الخان
ثمة تطور آخر حصل في البيت اللبناني، تمثل بالتأثير المملوكي، حيث عاد الصحن الداخلي ليجد مكانه ضمن إطار ما يسمى بـ«الخان».
والخان هو أكثر من مساحة سكنية فهو مجموعة من خلايا سكنية ومحال تطل على صحن داخلي، ويستدل من حجمه أنه ليس معدًا لعائلة واحدة.
وقد شاع هذا الطراز في لبنان وتجذّر عميقًا في عمارته، وتحول الصحن الداخلي من فسحة خاصّة في المسكن الروماني القديم إلى فسحة عامة فيه، وانبثق من هذا الطراز البيت الذي يتضمن رواقًا مسقوفًا على واجهته قناطر، فبدا كأنه جزء من خان. وتفاعل هذا البيت مع العوامل المناخيّة اللبنانية، فحجب الشمس ضمن هذا الرواق عن المساحة المخصصة للاستعمال الصيفي، وأمّن الحماية للأبواب والنوافذ من الأمطار.
التأثير الأوروبي
مع قيام الإمارة المعنية في لبنان في القرن السادس عشر، تأثر البيت اللبناني بالفن المعماري التوسكاني كنتيجة للانفتاح على الحضارة الإيطالية. فعاد إلى مسطّح البيت البهو الداخلي الذي ينتهي بثلاث قناطر بدلًا من القنطرة الواحدة الموجودة في مقدمة الليوان. استمر هذا الطراز حتى القرن التاسع عشر، ومع وصول الأمير بشير الثاني الشهابي إلى سدة الحكم، أضيف القرميد المستورد من مرسيليا في فرنسا، وترسخت صورة هذا البيت في مخيلة الناس حتى بات يرمز إلى البيت اللبناني.
في نهاية القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، وعلى خطٍ موازٍ مع بيت القرميد، ظهرت عناصر زخرفية تحت تأثير المرحلة العثمانية المتأخرة من جهة، والكلاسيكية المحدثة على مستوى الواجهة من جهة أخرى، وذلك من دون المساس الفعلي بالتأليف المسطح للبيت. فاتّصال الطبقتين في المنزل الواحد، أصبح بدرج داخلي في البهو المركزي، ولم يعد كما كان سابقًا بدرج خارجي. أما الفسحة الخارجية – الداخلية، إذا صح التعبير، فتحولت إلى مجال مشترك بين عدة كتل أشبه بالحوش.
لم يغب تأثير الانتداب الفرنسي في الربع الثاني من القرن العشرين عن البيت اللبناني، وتفيد دراسة سحر حيدر التي سبق أن أشرنا إليها، إلى أنه مع التطور الاجتماعي البنيوي الذي حصل نتيجة الانفتاح على النظم الاجتماعية الاقتصادية الغربية، تولّدت نزعة الاستقلالية لدى أفراد العائلة الواحدة تحت عنوان الخصوصية، فخف لقاؤهم في البهو، وانعكس هذا الحال تقلصًا في حجمه، فتحول إلى مدخل بسيط يقوم بدور الموزّع لمختلف غرف المنزل.
الموروث والمقتبس في أسلوب لبناني
لقد شكّل البيت اللبناني في مراحل تطوره، مزيجًا رشيقًا من الموروث والمقتبس. وإذا أخذنا بقول المهندس والمعماري الفرنسي الشهير لوكوربوزيه «البيت آلة للمعيشة»، فإن البيت اللبناني، في بداية تكوينه وتشكليه، ومنذ جرى الكلام عنه للمرة الأولى بالمفهوم الشعبي العام البعيد كليًا عن المفهوم العلمي الهندسي المتعارف عليه عالميًا، جسّد أيام حكم الإمبراطورية العثمانية، وصولاً إلى خروج الانتداب الفرنسي. لكن تأثر عمارة البيت اللبناني بما حملته إلى أرضنا الحضارات المتعاقبة لم يكن مجرد استنساخ. وفي هذا السياق يقول نقيب المهندسين اللبنانيين السابق عصام سلام في كتابه «الإعمار والمصلحة العامة في العمارة والمدينة» إن «الأسلوب المعماري اللبناني في الماضي كان واضحًا وصريحًا، فقد أوجدنا مخططًا للبيت أصبح اتّباعه فريضة. واستعملنا الحجر الصلب للبناء فأتقنّاه وأعطيناه روحًا شخصية، واقتبسنا مما دخل علينا بواسطة تجارتنا وعلاقاتنا مع البلدان الغربية من البحر المتوسط، ومزجناه بما ورثناه عن الفن العربي، وأوجدنا بذلك أسلوبًا لبنانيًا صحيحًا انتشر استعماله عند جميع الطبقات، وأسسنا تلك المدرسة اللبنانية التي تمتاز برشاقتها وسعتها وحسن ارتباطها وتوازن أعضائها بعضها ببعض».
وكما في كل بيوت الدنيا، قديمًا وحديثًا، كان الجدار في البيت اللبناني التراثي الخط المعماري الأول، وذلك على مستوى شكله كما في توافقه مع المناخ والظروف ووسائل العمل والخبرة الإنسانية والتطور الاجتماعي والطوبوغرافي والجغرافي. وهذه العوامل حددت خاصية البيت كوحدة سكنية متكاملة ومتلائمة مع الطقوس اللبنانية وأعرافها وقيمها، ومع طبيعة الإنسان اللبناني وإحساسه الروحي والمجتمعي والنفسي والجمالي، وبالتالي حددت المادة التي دخلت في تركيبته.