د. مارِيلِين مَنَسَّى
مارِيلِين مَنَسَّى، والعَمَلُ الشاقُّ الشَّيِّق! بِقَلَم: مُورِيس وَدِيع النَجَّار
(قِراءَةٌ في كِتابِ «Le voyage et l’errance, dans l’Œuvre de Majdalani»)
خَبَرناها في مُناسَباتٍ مِنبَرِيَّةٍ بِاللُّغَةِ الفَرَنسِيَّةِ، فَإِذا هي مِلْءُ المَقامِ، نَبْرَةً، مَخارِجَ حُرُوفٍ، إِلقاءً، وعُمْقَ مَقُول. هي جادَّةٌ، وقَلَمُها مُرهَفٌ، ولُغَتُها مُنَزَّهَةٌ عَن اللَّحْنِ، راقِيَةٌ، بَعِيدَةٌ عَن لِسانِ الدَّهْماء.
هي الأَدِيبَةُ الفرَنكُوفُونِيَّةُ، الدّكتُورَة مارِيلِين منَسَّى، صاحِبَةُ المَسِيرَةِ الأَكادِيمِيَّةِ النَّاصِعَةِ، والصِّيتِ العَطِرِ الذَّائِعِ في أَوساطِ طُلَّابِها وزُمَلائِها والمَحافِلِ الأَدَبِيَّة.
… وقَدَّمَت لَنا كِتابَها «السَّفَرُ والتِّيهُ في مُؤَلَّفاتِ شَرِيف مَجدَلانِي»
«Le voyage et l’errance, dans l’Œuvre de Majdalani»
فَأَزِفَت ساعَةُ الحَسْمِ إِذ بِتْنا أَمامَ أَمرَين: قِراءَةٍ عابِرَةٍ، وإِطراءٍ مِنَ الشِّفاهِ، أَو تَبَحُّرٍ فِيهِ، وكَشْفِ مَواطِنِ جَمالِهِ وإِبداعِهِ، والتَّعبِيرِ عَمَّا تَرَكَ في نَفسِنا مِن أَثَر.
فَأَمَّا الأَمرُ الأَوَّلُ، فَتَعافُهُ نَفسُنا، فَما مَرَرْنا يَومًا على كِتابٍ وازِنٍ مُرُورَ نَسِيمٍ على مُنبَسَطٍ أَفْيَحَ، ونحنُ مع قَوْلِ الرِّوائِيِّ البَرِيطانِيِّ إي إم فورستر (E.M. Forster): «إِنَّ على القارِئِ أَن يَجلِسَ وَحِيدًا ويُصارِعَ الكاتِبَ»(1).
والأَمرُ الثَّانِي هو الرِّهانُ الدَّقِيق…
حَيثُ إِنَّنا لا نَدَّعِي مَعرِفَةً واسِعَةً بِالفَرَنسِيَّةِ تُتِيحُ لَنا اقتِحامَ كِتابَةٍ عالِيَةِ المَنافِ، وبُلُوغَ ما تَطمَحُ إِلَيهِ نَفسُنا، وما اعتادَت عَلَيهِ في مَسِيرَتِها الأَدَبِيَّة الطَّوِيلَة. فَهَل نَكُونُ، بِتَجوالِنا المُتَمَعِّنِ في هذا الكِتابِ ذِي اللُّغَةِ الرَّاقِيَةِ «كَمَنْ يَبحَثُ عَن قِطَّةٍ سَوداءَ في غُرفَةٍ مُظلِمَة»، بِحَسَبِ التَّعبِيرِ الَّذِي كانَ يُرَدِّدُهُ الرِّوائِيُّ المِصرِيُّ يَحْيَى حَقِّي؟!
ثُمَّ إِنَّنا نَربَأُ بِمَقالَتِنا أَن تَجُرَّ وَصْفًا لَها بِلُغَةِ مُوليِير:
»C’est comme un cheveu sur la soupe«.
والَّذِي شَرَحَ لَنا صَدرَنا، ويَسَّرَ لَنا أَمرَنا(2)، نَهَمٌ على القِراءَةِ والنَّقْدِ قَلَّ أَنْ يُشْبَعَ، وجُرأَةٌ لا تَخشَى عاقِبَة.
ومِمَّا لا رَيبَ فِيهِ أَنَّ الفَهمَ الوافِيَ العَمِيقَ لا يَتِمُّ بِفَهمٍ أُفُقِيٍّ لِلنُّصُوصِ، أَو فَهْمٍ إِفرادِيٍّ لِلمُفرَداتِ، فَاللَّفظَةُ، في كُلِّ لُغَةٍ لَها خَصائِصُها ودَلالاتُها في مَظِنَّتِها، وقد لا تَتَوَفَّرُ في رَصِيفَتِها مِن لُغَةٍ أُخرَى، وهُنا قد يَعجَزُ المُعجَمُ عن سَبْرِ الرَّمْزِ وكَشْفِ المَرمُوز. ولَنا مِن لَفظَةِ «القَمَر» ومُقابِلَتِها الفَرَنسِيَّةِ «Lune» مِثالٌ، فَالأُولَى مُذَكَّرَةٌ تُعَبِّرُ عن التَّذكِيرِ في كُلِّ مَناحِيهِ وصِفاتِهِ، حِينَ الثَّانِيَةُ مُؤَنَّثَةٌ تَرفَلُ في مَطارِفِ التَّأنِيث.
هذا
وشَدَدنا لِلأَمرِ حَزِيمَهُ، مُرَدِّدِين مع بَدَوِي الجَبَل:
يُعْذَرُ الحُرُّ حِينَ لا يُخْطِئُ العَزْمَ وإِنْ كانَ أَخطَأَ التَّوفِيقا!
***
كاتِبَتُنا تَعرِفُ جَيِّدًا كَيفَ تَنتَقِي الأَلفاظَ الَّتِي تُطابِقُ الفِكَرَ، وتَحمِلُ تَلاوِينَها والأَبعاد.
أَمَّا مَوضُوعَةُ السَّفَرِ والهِجرَةِ، فَما خامَرَت عَقلًا إِلَّا بَعدَ مُعاناةٍ مع مُحِيطِهِ، الصَّغِيرِ أَو الكَبِيرِ، في صُوَرِهِ السِّياسِيَّةِ والاجتِماعِيَّةِ، أَو صِراعٍ فاشِلٍ مع قَدَرٍ صُلْبٍ عات…
وحَياةُ الإِنسانِ، في بِيئَةٍ قَضَى فِيها شَطْرًا وَسِيعًا مِن حَياتِهِ، شَجَرَةٌ، جُذُورُها في الأَرضِ، تَماسَكَت مع تُرابِها، واستَقَت مِنها نُسْغَها وخُضْرَتَها والنُّضُور؛ فَالتَّرحالُ اقتِلاعٌ قد يَؤُولُ إِلى ضُمُورٍ، أَو يَباس. وقالَت الأَدِيبَةُ غادَة أَحمَد السَّمَّان: «لا تُحاوِلْ أَن تَأخُذَ شَجَرَتَكَ مَعَكَ إِلى الغُربَةِ كَي تَحظَى بِظِلِّها، فَالأَشجارُ لا تُهاجِر»…
مِنَ المَجدَلانِيِّ تَناوَلَتِ المُؤَلِّفَةُ الأَربَعَةَ الكُتُبَ: (الخانُ أَو النَّزْلُ، فِيلَّا النِّساء، الإِمبراطُور المُتَرَجِّل، حَيَواتٌ مُمكِنَة)،
(Caravansérail, Villa des femmes, L’Empereur à pied, Des Vies possibles).
ولَقَد أَمسَكَت، بِالدَّرسِ المُعَمَّقِ، طَرَفَ الخَيطِ اللَّامَرئِيِّ الَّذِي يُوصِلُ أَنسِجَةَ الرِّواياتِ مادَّةِ الدِّراسَة. وهذا الخَيطُ هو تِيمَةُ السَّفَرِ والتِّيهِ (Le voyage et l’errance)، حَيثُ يَتَكَشَّفُ العالَمُ الجَوَّانِيُّ، والتِباسُ الماهِيَّةِ، وتَوْقُ الأَبطالِ إِلى خَلاصٍ أَبَدِيّ:
(Un fil invisible semble relier ces Œuvres: le thème du voyage et de l’identité qui permet d’explorer l’univers intérieur; le cheminement identitaire et le salut éternel auquel aspirent les personnages) (P. 31).
وهِيَ أَحسَنَت قِراءَتَها لِلمَجدَلانِيِّ، لَيسَ في سُطُورِهِ فَقَط، بَل في انزِياحاتِها، ورُمُوزِها العَمِيقَةِ، وفي بَراعَتِهِ البَيِّنَةِ في امتِلاكِ لُبِّ القارِئِ، وإِيهامِهِ بِصِدْقِ المَرْوِيِّ، حَتَّى باتَ الصِّدْقُ الفَنِّيُّ في أَعمالِهِ صِدْقًا في الواقِع. تَقُول:
)Le voyage intérieur, le plus réel de tous les voyages, et la quête de soi mettent l’éclairage sur les aspects particuliers de l’univers symbolique dans les romans de Majdalani. Le voyage géographique n’a pour intention qu’annoncer, précipiter, ou même symboliser le voyage intérieur. Et nous voici devant une succession bien structurée d’images de ces romans qui font écho à des lignes de forces qui dévoilent la quintessence de l’Œuvre et sa signification fondamentale) (P. 41).
كَما إِنَّها عَزَّزَت دِراسَتَها بِاعتِمادِ الكَثِيرِ مِنَ المَصادِرِ المَوثُوقِ بِها، ما جَعَلَها وافِيَةً بِالغَرَضِ، ورافِدَةً القارِئَ بِثَقافَةٍ ضافِيَةٍ، وواضِعَةً الحَجَرَ الأَساسَ لِدِراساتٍ تُتحِفُنا بِها الأَقلامُ السَّيَّالَةُ عَن رِوائِيِّنا وعَن غَيرِهِ مِنَ المَرمُوقِين.
والمَجدَلانِيُّ لا يَكتُبُ مِن خَيالٍ صِرْفٍ، إِذ يَقُولُ، في إِحدَى مَقالاتِهِ إِنَّهُ يَروِي الأَحداثَ انطِلاقًا مِن تَجرِبَةٍ ذاتِيَّةٍ، عائِلِيَّةٍ، ومِنَ اليَومِيَّات:
(Les évènements sont racontés à partir d’une experience individuelle, familiale et du quotidian) (Majdalani, 30 avril 2018), (P. 31).
وهو يَقُول:
(Chaque chapitre fonctionne comme une fenêtre que le lecteur ouvrirait sur la société de l’époque, ses grands personnages, ses peintres, sa pauvreté, ses paysages) (Majdalani, 19 aoÛt 2019) (P. 45).
ونَسأَلُ: هل يُفِيدُ هذا الاندِياحُ، في القَصِّ، تَركِيزَ القارِئِ على الحَدَثِ الأَساسِ، أَم يُشَتِّتُهُ، ورُبَّما يَدفَعُهُ إِلى التَّخَلِّي عن الرِّوايَةِ وتَشَعُّباتِها؟! وهل تَبقَى بُؤْرَةُ القَصِّ سَلِيمَةً مع هذا؟! فَإِذا كانَ تَشتِيتٌ لِلقارِئِ، فهو مِن ضَعَفاتِ القَصِّ، وإِن كانَ مُؤَشِّرًا يَجذِبُ القارِئَ ويُرَغِّبُهُ، فَإِنَّهُ مِن بَراعَةِ الرِّوائِيِّ، تُحسَبُ لَهُ، وتَدفَعُ بِعَمَلِهِ إِلى صَدارَةٍ في مَحفِلِ الرِّوايَة…
***
السَّفَرُ، إِذا طالَ، – الهِجْرَةُ – قد يُحدِثُ تَمَزُّقًا في الشَّخصِيَّةِ، وتَحَوُّلًا خَطِيرًا، يَنتُجانِ مِن اكتِسابِ ثَقافاتٍ جَدِيدَةٍ، إِثْرَ تَجارِبَ مُعاشَةٍ تُبَدِّلُ الحالَةَ النَّفسِيَّةَ بِأُخرَى:
(Cette pratique viatique suppose un bouleversement des vecteurs de l’espace et du temps, implique un déplacement physique, suppose l’acquisition de nouvelles cultures et instructions suite aux multiples expériences vécues qui opèrent un passage d’un tel état psycologique à un autre) (P. 35).
لِذا، فَالسَّفَرُ لَيسَ انتِقالًا جَسَدانِيًّا فَقَط، بَل هو انقِلابٌ في الرُّوحِ، واعتِكارٌ في المِزاج.
والتِّيهُ لَيسَ بِالضَّرُورَةِ عُقْبَى سَفَرٍ أَو هِجْرَة. والهِجْرَةُ قد تَكُونُ مِن أَرضٍ إِلى أُخرَى في حِضْنِ الوَطَنِ، أَو مِن حالَةٍ إِلى حالَةٍ في مَتاهَةِ النَّفْسِ، أَو تَكُونُ استِبدالًا لِلهَيكَلِيَّةِ العائِلِيَّةِ (Le triangle Œdipien familial) (P. 20).
والسَّفَرُ-التِّيهُ، بِنَظَرِ المُؤَلِّفَةِ، قد يَكُونُ طُمُوحًا وتَعَطُّشًا إِلى اكتِشافِ عالَمٍ وحَياةٍ إِنسانِيَّةٍ جَدِيدَين، أَو حَصِيلَةَ عَلاقاتٍ اجتِماعِيَّةٍ تَسَلُّطِيَّةٍ طاغِيَةٍ، أَو اضطِراباتٍ نَفسِيَّةٍ تُفضِي إِلى شُعُورٍ مُؤْلِمٍ بِتَهمِيشٍ وعَدَمِ انتِماءٍ.
(Les rapports sociaux de domination poussent les personnages à fuire la société d’origine [et] visant une nouvelle connaissance du monde, les personnages s’engagent dans un parcours qui vise surtout une recherche de soi et une tentative de connaissance humaine de l’absolu) (P. 22, 23).
وهو، (السَّفَرُ-التِّيهُ)، في مُحِيطِنا، مُحِيطِ أَبطالِ المَجدَلانِيِّ، في مُعظَمِهِ، نِشدانٌ لِمُقَوِّماتِ عَيْشٍ مَفقُودَةٍ في البِيئَةِ الضَّاغِطَةِ، ومِنهُ، أَيضًا، نُفُورٌ مِن امتِهانٍ تُغَذِّيهِ تَقالِيدُ وأَعرافٌ وشَعائِرُ، أَو فَرْضٌ سِياسِيٌّ لا يُمكِنُ تَحَمُّلُهُ، وتَعْسُرُ مُقاوَمَتُهُ، في مُجتَمَعٍ مُبَرمَج:
(Société codée et planifiée, P. 49), (C’est ainsi que les voyageurs chez Majdalani, conscients de la nécessité de remettre en ordre leur moi, cherchent une issue pour échapper à leurs troubles, à la mort psychique, bref, pour survivre. C’est ainsi qu’ils luttent pour le biais d’un processus de défense assez paradoxal: le voyage) (P. 206).
ونَذكُرُ، لِلمُناسَبَةِ، هِجرَةَ العُقُولِ اللُّبنانِيَّةِ الثَّقافِيَّةِ المُتَنَوِّرَةِ إِلى مِصْرَ هَرَبًا مِن طُغيانِ الحُكْمِ التُّركِيِّ الرَّازِح. ونَقرَأ:
(Dans cet espace ambivalent et complexe d’ouverture et de fermeture, d’isolation et de liaison, se trouvent des individus en crise, des marginaux et des marginalisés en décalage permanent avec un refus définitif de s’adapter, qui aspirent à la transcendance et à la purification. Occupant un statut nécessairement provisoire au regard de la société, leur position figure donc un compte à rebours aboutissant à un dilemme ontologique: la soumission aux codes établis ou la disparition de leur identité, repliée sur elle-même dans le refus de respecter les norms. Face à ce choix vital, leur réponse est alors unanime: ils voyagent, se laissent aller à la mort plutÔt qu’à l’oubli progressif d’eux-mêmes dans des norms qu’ils rejettent farouchement) (P. 47).
ولا يُمكِنُ أَنْ نَغفُلَ عن قَولِ المَجدَلانِيِّ نَفسِه:
(Le voyage a été pour les personnages de mes romans, un rêve d’omnipotence, un réflexe pour dominer le temps. Habités par une puissance qui traverse le temps et le lieu, assouvis par leur soif d’aventure, ils partent, réincarnant ainsi leur désir d’espace) (Gisèle Kayata Eid, 2017 (P. 48)
الَّذِي يَسرِي على بَعضِ أَبطالِهِ، وقد لا يَسرِي على آخَرِينَ مِنهُم…
وقد يُختَصَرُ هَدَفُ البَطَلِ-المُسافِرِ بِتَفتِيشِهِ عَنِ العَمَلِ أَو المَجْدِ أَو الثَّروَةِ
(Pour cela, il décide d’aller »par le monde chercher l’action, la gloire ou la richesse«) (Majdalani, 2019, p. 12) (P. 119).
وإِلَيهِ، فَأَبطالُ المَجدَلانِيِّ في بَحْثٍ عَن بِلادٍ تُنقِذُهُم مِن حِرمانِهِم المُقِيمِ (Ils franchissent ainsi les seuils de l’ailleurs, à la recherche d’un pays qui puisse les sauver de la frustration) (P. 131).
وتُبرِزُ المُؤَلِّفَةُ ضَياعَهُم وتِيهَهُم بِشَكلٍ سافِرٍ:
(C’est que ces héros, […], dépourvus de toute puissance, impuissants à conformer la réalité à leur vouloir, ils traversent des itinéraires imprécis et s’arrêtent d’une façon imprévisible) (P. 132).
والشَّيءُ بِالشَّيءِ يُذكَرُ، لِذا فَقَد طَفَرَت إِلى ذاكِرَتِنا قَوْلَةُ جُبران خَلِيل جُبران لِمَيّ زِيادَة، في رِسالَةٍ إِلَيها: «كانَ بِقَصدِيَ الرُّجُوعُ إِلى الشَّرقِ في الخَرِيفِ الآتِي، ولكِنْ، بَعدَ قَلِيلٍ مِن التَّفكِيرِ، وَجَدتُ أَنَّ الغُربَةَ بَينَ الغُرباءِ أَهوَنُ مِن الغُربَةِ بَينَ أَبناءِ وبَناتِ أُمِّي»…
ولِلمُناسَبَةِ أَيضًا نَطرَحُ لِلتَّساؤُلِ قَولَ الشَّاعِرِ عَمْرُو بْنُ الأَهتَم السَّعدِي:
لَعَمرُكَ ما ضاقَت بِلادٌ بِأَهلِها ولكِنَّ أَخلاقَ الرِّجالُ تَضِيقُ!
***
نَقرَأ:
(L’errance […] est quête d’un double lieu: le premier pour vivre et le second pour s’affirmer) (P. 37, 38).
ونَقُول: قد تَصِحُّ هذهِ المَقُولَةُ في حالاتٍ، ولكِنَّها – في مُعظَمِ ما نَراهُ مِن هِجْراتٍ تَطالُ مُواطِنِينا، في الوَطَنِ الحَبِيبِ لُبنانَ، ماضِيًا وحاضِرًا، – تَبدُو مُبالَغًا فِيها، وأَحيانًا مَغلُوطَةً، لا تُوائِمُ المَوضُوعَ والحَدَث. وهذا ما يَظهَرُ في القَول:
(Les sujets errants […] sont comme condamnés à être déboussolés, et leur errance n’est que le résultat de leur soumission aux règles tribales patriarcales) (P.38).
***
نَحنُ نُكبِرُ إِعجابَ المُؤَلِّفَةِ بِالمَجدَلانِيِّ الرِّوائِيِّ، وهو يَستَحِقُّهُ، فَهيِ تَمَثَّلَت خَفايا مَقُولِهِ، وما تَرَكَت «وَراءَ الأَكَمَةِ» شَيئًا مَكنُونًا. فَالرِّحلَةُ مَعَهُ تَأخُذُنا مِن واقِعِنا إِلى عالَمٍ مَعرِفِيٍّ نَسِيجٍ لِحِكايَةٍ جَدِيرَةٍ بِالقِراءَةِ المُتَبَصِّرَة. تَقُول:
(Un voyage moral, intellectuel; qui transporte le lecteur bien au-delà de sa chambre, dans cet abyme de connaissance et lui promet un récit digne des Mille et une nuits) (P. 50).
وإِلَيهِ، فَإِنَّها تَرَى في رِوايَةِ المَجدَلانِيِّ غِنًى، وتَنَوُّعًا، وفَيْضَ صُوَرٍ، وتَداخُلَ مَوضُوعاتٍ، في رَصْفٍ مُحْكَمٍ، تَهدُفُ إِلى سَبْرِ أَغوارِ الفُنُونِ، والزَّمَكانِ، وَوَوَ…:
(C’est l’Œuvre elle-même qui répond à la question. D’abord, par sa richesse, sa diversité et le flot de ses images,puis par l’emboîtement, l’association ou la superposition des thèmes dans le but d’explorer les arts, la littérature, l’espace et le temps, et surtout de mettre à nu à travers les thématiques abordées, les aberrations sociales, politiques et économiques qui traversent les sociétés décrites) (P. 51).
تُظهِرُ المُؤَلِّفَةُ، بِالأَمثِلَةِ السَّاطِعَةِ، كَيفَ يَستَلُّ رِوائِيُّها مَوضُوعاتِهِ مِن قَناعاتٍ طَبَعَتِ النَّاسَ، وتَناهَت إِلَيهِم في أَصلابِهِم، وتَربِيَتِهِمِ العائِلِيَّةِ المُتَوارَثَة. فَإِذا أَدَبُهُ واقِعِيٌّ يَغتَذِي مِن رَوافِدِ المُجتَمَعِ مادَّةَ رِواياتِهِ، ويُضِيفُ إِلَيها مِن خَيالِهِ الرِّوائِيِّ ما يُقَرِّبُها مِن أَذواقِ المُتَأَدِّبِينَ، ويُبعِدُها عَنِ المَلالَةِ والرَّتابَة.
وهو يَستَقِي مِنَ التَّارِيخِ ما يَخدُمُ هَدَفَهُ، ثُمَّ يُضفِي عَلَيهِ مِن قَلَمِهِ المُجَنَّحِ ما يُخرِجُهُ مِنَ الواقِعِ الجافِّ إِلى الفَنِّ الأَنِيق. لَكَأَنِّي بِهِ على سَمْتِ الرِّوائِيِّ الفَرَنسِيِّ أَلَكسَندَر دُومَاس القائِل: «إِنِّي أَغتَصِبُ التَّارِيخَ، غَيرَ أَنِّي بِذَلِكَ أَستَولِدُهُ ذُرِّيَّةً حَسَنَة»…
ومِن هُنا نَفهَمُ قَولَهُ خِلالَ حَدِيثٍ صِحافِيٍّ مع الكاتِبَةِ فاطِمَة عَبدَالله: «بَعضُ الكِتاباتِ تُرغِمُ الكاتِبَ على الاتِّجاهِ مُباشَرَةً نَحوَ وَصْفِ الواقِعِ، لكِنْ يَستَحِيلُ العَيشُ بِلا خَيال. هو جَوْهَرُ الرِّوايَةِ، ولا يُمكِنُ فَهْمُ الواقِعِ مِن دُونِ فَهْمِ تَشَعُّباتِهِ عن طَرِيقِ التَّخَيُّل. في أَدَبِي، أَكتُبُ الواقِعَ مِن خِلالِ المُخَيِّلَةِ لِأُعطِيهِ مَعْنًى»…
مِن مُنَوَّعاتِهِ الكِتابِيَّةِ، مِثَالًا، حِرْصُ رَبِّ العائِلَةِ، في المُجتَمَعِ البَطرِيَركِيِّ، على حِفْظِ تُراثِ العائِلَةِ، مِن ثَرَواتٍ وأَراضٍ وممتَلَكات؛ حَتَّى لَو تَعارَضَ الهَدَفُ مع المَنظُورِ الإِنسانِيِّ أَحيانًا. ودَوْرُ الأُمِّ مُحَدَّدٌ ضَيِّقٌ، مَرسُومٌ مِن قِبَلِ الرَّجُلِ، والأَولادُ مُطِيعُونَ لِأَوامِرِ سَيِّدِ العائِلَةِ، مَهما كانَت قَساوَتُها، حَتَّى باتُوا مَطمُوسِي الشَّخصِيَّةِ، عاجِزِينَ عن المُبادَرَةِ والبَدْع. نَقرَأ:
([…] Il se servira de ses fils […], ils transporteront les récoltes de feuilles sans faillir, incompréhensiblement portés par la farouche volonté de leur père, ou ensorcelés ou soumis, oui, c’est cela, probablement soumis à sa terrible mais fascinante tutelle, sa magnétique puissance, si magnétique qu’ils ne songeront jamais à se révolter, […], obéisant à une force qui n’est pas en eux mais en lui, qu’il leur a seulement insufflée et qui les meut, presque mécaniquement) (P. 102, 103).
وحَتَّى لَو كانَت نَماذِجُ العائِلاتِ، في مادَّةِ الدِّراسَةِ الَّتِي نَحنُ بِصَدَدِها، على خُصُوصِيَّةٍ لا تَسرِي، قَطْعًا، على كُلِّ عائِلاتِ مُجتَمَعِنا، فَإِنَّ هذا لا يَضِيرُ الرِّوايَةَ، بَل يَجعَلُها مُرَكَّزَةً هادِفَة. ولِلمُؤَلِّفَةِ فَضْلٌ واسِعٌ في أَنَّها، بِصَوابِيَّةِ نُصُوصِها المُختارَةِ، وبِبَراعَتِها الخالِصَةِ، استَطاعَت أَن تُنِيرَ لِلقارِئِ مَعمِيَّاتِ الطَّرِيقِ، والمَفاصِلَ الرَّئِيسَةَ لِلكِتابِ المُتَناوَلِ، وهي، بِذا، قد أَثبَتَت أَنَّها أَدِيبَةٌ تُرفَعُ لَها القَبَّعَةُ، والأَجيالُ الَّتِي تَتَلمَذُ عَلَيها سَتَصِلُ إِلى الشَّاطِئِ الآمِنِ، والمَدَى الرَّحِيب…
وحَسبُنا مِن المَجدَلانِيِّ الرِّوائِيِّ سَفَرُهُ في ثَقافاتِ الآخَرِينَ، في العُصُورِ والحَضاراتِ، طامِحًا إِلى اختِزالِها في مُؤَلَّفاتِهِ، وجَعلِها مُستَساغَةً، سَهلَةَ النَّوال. نَقرَأ:
(Majdalani voyage dans d’autres cultures, d’autres époques et d’autres civilisations, souhaitant les intégrer dans son Œuvre et les rendre accessible à son lecteur) (P. 53).
مِن لُقُياتِ سَفَرِها، في إِبداعاتِ رِوائِيِّها، تَناصٌّ مع حِكايَةِ البَطَلِ الأُسطُورِيِّ أُولِيس (Ulysse)، ولَطالَما كانَتِ الأَساطِيرُ عَبْقَرًا ثَرًّا سَخِيًّا لِلأُدَباءِ والشُّعَراءِ، يَمتَحُونَ مِن رُمُوزِهِ ما يَكسُو مَوضُوعاتِهِم مُطْرَفًا مُوائِمًا، ويُعطِيها وَفْرَةَ إِيحاءٍ وعُمْق. تَقَول:
(Nous mettrons principalement en évidence la présence intertextuelle du mythe d’Ulysse sous les diverses facettes qu’il présente dans les Œuvres de Majdalani. Nous étudierons certains aspects du mythe de l’errance et du retour, à travers une analyse des mythèmes.) (P. 293).
***
في المُحَصِّلَةِ إِنَّ المُؤَلِّفَةَ، بِطَوافِها الفالِحِ في الأَربَعَةِ الرِّواياتِ، قد أَنجَزَت عَمَلًا شاقًّا شَيِّقًا، ثِمارُهُ وفَيرَةٌ لِكُلِّ دارِسٍ في أَدَبِ المَجدَلانِيِّ الرِّوائِيِّ، واستَحَقَّت لَقَبَ الدُّكتُورَةِ الَّذي زادَتهُ أَلَقًا في مَسِيرَتِها التَّعلِيمِيَّةِ المُضِيئَةِ، وفي أَبحاثِها الأَكادِيمِيَّةِ الجادَّة. وكانَ كِتابُها مَسْحًا أُفُقِيًّا وعَمُودِيًّا لِنَسِيجٍ مَجدَلانِيٍّ غَنِيِّ المَضمُون. وما هو بِالأَمرِ اليَسِيرِ، فَلَها التَّحِيَّةُ والإِعجابُ، ونَتَمَنَّى لَها التَّقَدُّمَ المُطَّرِدَ في مَسِيرَةٍ تَباشِيرُها فَجْرُ خَيْرٍ، ورَكْبُها هَوادِجُ ومِلاحٌ وحُداء…
مارِيلِين
وَلَجتِ عالَمَ رِوائِيٍّ عَصرِيٍّ واضِحِ الرُّؤْيَةِ، عَمِيقِ الرُّؤْيا، وَقَفَ جَهدَهُ على دِراسَةِ المُجتَمَعِ، بِتَعقِيداتِهِ، وتَناقُضاتِهِ، وسَعيِهِ المُسَيَّرِ أَحيانًا كَثِيرَةً، فَما قَصَّرْتِ عَن بُلُوغِ ما رَسَمَ فِكرُكِ، فَاطِّلاعُكِ وافٍ، ولُغَتُكِ راقِيَةٌ، ومُعجَمُكِ غَنِيٌّ يَستَجِيبُ لِكُلِّ حاجَةٍ، وخَيالُكِ شَفِيفٌ يُضفِي على البَلاغِ وَشْيًا جَمالِيًّا يُلَطِّفُ المَقُولَ، ويَجعَلُ المُعالَجَةَ الأَكادِيمِيَّةَ الرَّصِينَةَ رِحلَةً مُرِيحَةً جَذَّابَةً آسِرَة…
وحَسبُكِ أَنَّكِ بــِ «السَّفَرِ المَجدَلانِيِّ» وَبــِ «الأَدَبِ الخَلَّاقِ» الَّذِي رَصَّعْتِ بِهِ أَفكارَكِ، وبَرَأْتِ سِفْرَكِ السَّمِينَ الثَّمِينَ، قد أَسهَمتِ في تَغذِيَةِ «الوَعْيِ الجَمْعِيِّ»، وكَفَى…
ونَقرَأُ مَعَكِ:
(Du reste, le voyage et la littérature, tous deux, se présentent comme une expérience de conscientisation collective) (P. 330).
أَمَّا نَحنُ…
فَقَد جُلْنا في هذهِ الدِّراسَةِ القَيِّمَةِ، وغامَرنا في كَشْفِ طَواياها، فَما نَدرِي قَدْرَ فَوْزِنا، أَو مَدَى الخَيبَةِ الَّتِي عَلِقَت بِأَذيالِنا إِثْرَ طَيِّ الكِتابِ، ولكِنْ، حَسْبُنا أَنَّا فَعَلْنا…
وأَمَّا أَنتِ…
أَلَا سَلِمَ قَلَمُكِ، وإِلى قابِلٍ مُنِيرٍ واعِدٍ بِالجَمالات!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): (رِوايَةُ د. رِيتَّا عَوَض)
(2): ﴿رَبِّ اشرَحْ لِي صَدرِي وَيَسِّرْ لِي أَمرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾
(القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ طه، الآيات 25، 26، 27، 28)