القرى الأولى. الحجري الحديث (10,000 – 4,500 ق. م.)

يطلق تعبير العصر الحجري الحديث (Neolithic) على فترة بدأ فيها الإنسان عملية تغيير هائلة في حياته، نقلته من الإعتماد على مصادر الطبيعة البرية إلى استغلال وتطويع العالم من حوله. إن ذلك التغيير قد وضع الأساس لمجمل الحضارة البشرية اللاحقة. كان الأردن أحد الأماكن الرئيسية الأولى التي حصل فيها هذا التغيير. وقد كان من أهم تجلياته ما حصل في طبيعة المستوطنات ومواقعها في المنطقة.

2بدأ الإنسان في مطلع العصر الحجري الحديث (ما قبل المرحلة الفخارية أ، 10000-8550 ق.م.) بالعيش في مستوطنات أكثر ديمومة. اختار الناس مواقع مستوطناتهم تلك على ملتقى بيئات مختلفة وفرت لهم محاصيل متباينة دون الحاجة للإنتقال بعيداً. يشكل موقع وادي فينان 16 مثالاً جيداً على ذلك. فمكانه على منبع وادي الغوير أتاح لساكنيه وصولاً سهلاً للنهر وموارده، وطريقاً صاعداً إلى الجبل، وإطلالة كاشفة على وادي عربة (صورة II.6).

اللوحة 6.II: موقع وادي فينان 16، بين الجبال والبادية (فنليسن)

Image 100000000000055100000404EEB0876E.jpg

3علاوة على ذلك سهل بذر النباتات البرية وحصادها استقرار الناس في مكان واحد. وفي منطقة غور الذراع، الواقعة على سفح الجبال المؤدية إلى الكرك، بدأ الناس ببناء أهراء لتخزين غلة الحصاد، لإستهلاكها بعد ذلك على مدار العام (شكل II.9).

الشكل 7.II: توزيع مواقع العصر الحجري الحديث

Image 10000000000004B0000006250B40A53A.jpg

4في الفترة التالية من العصر الحجري الحديث (ما قبل المرحلة الفخارية ب،8550-6300 ق.م.) تمت السيطرة على حيوانات ونباتات برية بعد تدجينها التدريجي. لم تعد هناك حاجة للبقاء في المواقع السكنية السابقة. لقد انتشرت المستوطنات البشرية في معظم مساحة الأردن (شكل II.7) نتيجة لإزدياد عدد السكان مع تزايد مصادر الغذاء.

5واصل الناس في بداية هذه الحقبة سكنهم في مستوطنات صغيرة ذات معمار دائري، كما في آثار البيضا وشقارة المسيعيد ، وإن كان هذا المعمارقد أصبح أكثر متانة وتطوراً (شكل II.8).

الشكل 8.II: شقارة المسيعيد PPNB (العصر الحجري السابق للخزف/ب) مستوطنة صغيرة ذات معمار دائري (رسم مورِتز كِنسِل)

Image 10000000000002BC000001DA0C60C14D.jpg

Drawing Moritz Kinsel

6في نهاية الحقبة أصبحت المستوطنات أوسع، وبيوتها أكثر تراصا،ً وهو أمر يتضح في الموقعين الكبيرين: عين غزال والبسطة،إذ أصبحت البيوت مستطيلة الشكل ومتراصة تقريبا (شكل II.10). ومع ازدياد أهمية الزراعة في حياتهم نشر الناس مستوطناتهم الكبيرة على امتداد حافة الهضبة الأردنية، في مواقع مشابهة لتلك التي يجري فيها النشاط الزراعي الحديث. بالإضافة إلى ذلك ظهرت مستوطنات صغيرة في أماكن جافة مثل حوض الجفر، حيث كانت المحاصيل تزرع في مواقع مؤقتة على الأرجح، لتنقل نحو المستوطنات الكبيرة التي تزايد عدد سكانها باضطراد (شكل II.11). في نهاية هذه الفترة بدأ الإقتصاد الرعوي بالتطور،حيث تجوّل بعض السكان بقطعانهم في الأماكن الجافة، دون أن يعودوا إلى المستوطنات الدائمة إلا في أوقات معينة من العام. ولا شك أن لهذا الأمر، الذي يوضح أصول العلاقة ما بين الرعاة البدو والمزارعين المستقرين، أهمية خاصة في التاريخ الأردني.

الشكل 9.II: مخزن حبوب PPNA في الذراع، رسم إرِك كاسون

Image 10000000000002BC0000028C445FEE12.jpg

Drawing Moritz Kinsel

7ثم انهار نظام المستوطنات الكبيرة. حدث ذلك على الأرجح بسبب تغيرات مناخية أثرت على البيئة المحيطة بهذه المواقع السكنية الكبيرة التي كانت تعاني من الإستغلال الجائر للبيئة، والمتمثل ًبقطع الأشجار(لإستخدام خشبها وقوداً في المنازل أو لأعمال البناء)، وتزايد قطعان الماعز لتوفير الطعام للأعداد المتزايدة من السكان، مع ضعف المعرفة بالتعاطي مع التربة وصيانتها.

الشكل 10.II: الباعجة PPNB مستوطنة كبيرة ذات معمار مستطيل، رسم مورتز كنسل

Image 10000000000001F4000001EFD684DE48.jpg

Drawing Moritz Kinsel

8هنا بدأت حقبة جديدة (العصر الحجري المتأخر أو العصر الحجري الفخاري من 6300-4500 ق.م.) وفيها تغير نمط الإستيطان مرة أخرى. فبدلاًمن التمركز في المواقع الكبيرة توجه الناس للعيش في مستوطنات صغيرة، يمكننا تسميتها بالقرى الزراعية. كذلك خرجوا إلى الأرض المفتوحة كما يظهر في موقع تل وادي فينان الذي يتوسط منطقة ما زالت حتى الآن حقولاً زراعية. في هذه المرحلة أيضاً تغير المشهد، فبدأت تظهر المعالم الأولى لما يمكن وصفه حقاً بالزراعة، فجرى تشكيل الأرض على هيئة مصاطب لحفظ التربة، ونثرت المخلفات المنزلية في الحقول لتسميدها. ولعل موقع بيلا الشهير هو أحد المواقع التي نشأت في هذه الفترة.

الشكل 11.II: مخطط يوضح العلاقة بين مواقع مؤقتة ومستوطنات كبيرة

Image 100000000000043C0000062F8524BB12.jpg