أبعادٌ ثقافِيَّةٌ مِنَ المَسْجِد الأَقصى
احتفالاً بالعُهدًةِ العُمَرِيَّة
الصَّادرة يوم الأحد 20 ربيـع الأول 15 هــ. 5 أيَّار (مايو) 636 م.
في ذكراها السَّنويَّة 1427 هجريَّة و1385 ميلادية
الدكتور وجيه فانوس
(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)
يتردَّد بعضُ كلام، في المرحلة الراهنة، وقد سبق تناقل نُتَفٍ من مثلهِ، في مراحل ومحطَّات سابقة من التَّاريخ، يُشكِّكُ في صحَّة موقع “المسجد الأقصى”؛ وإن كان، مطرحُ هذا المسجد، حقَّا في مدينة القدس من فلسطين، أو إنَّهُ في مكانٍ ما في بلاد الحجاز، أو حتَّى في مقامٍ من منازلِ السَّموات السَّبع، بل ثمَّة من قد يذهب به الظَّنُّ إلى أنَّ المسجد الأقصى ليس سوى مَنْزِلَة مِن عرشِ الله، سبحانه وتعالى.
يتركَّز المسعى، في هذه الدِّراسة، على نقطتين أساسين؛ إحدهما تعيين موقع المسجد الأقصى، وثانيتهما، استخلاص ما يمكن من الأبعاد الثقافيَّة والدِّينية من هذا الموقع؛ على أن يكون كلَّ هذا منبثقاً من وقائع وأحداثٍ تاريخيَّة وليس ممَّا يمكن أن يعتبر مجرَّد تراثٍ معرِفِيٍّ منقول بالتَّواتر أو ميراثٍ ثقافيٍّ غيبيٍّ غير مؤكَّدٍ موضوعيَّاً.
الانطلاق، ههنا، من واقعة تاريخيَّةٌ موثَّقة، بزمانِها وأحداثها وأشخاصها وموضوعاتِها وأمكنتها؛ هي حضور خليفة المسلمين، وكان عمر بن الخطَّاب، في السنة الخامسة عشرة للهجرة، الموافقة سنة 636 للميلاد، خصِّيصاً من عاصمة الخلافة الإسلاميَّة، المدينة المنوَّرة، إلى “إيلياء”، وهي مدينة “القدس”، لعقد عهد بينه، بصفته خليفة المسلمين، وبين صفرونيوس Σωφρόνιος: الذي شغلَ كرسي بطريرك الكنيسة الأرثوذكسيَّة في القدس، من سنة 634 للميلاد، وحتَّى وفاته سنة 638 للميلاد.
كانت “إيلياء” هذه، في الأصل، مستعمرة رومانيَّة، أسسها الإمبراطور PVBLIVS ÆLIVS HADRIANVS AVGVSTVS هادريان في القدس؛ وتعرف في المراجع التاريخية اللاتينية باسم ˈiːliə ˌkæpɪtəˈlaɪnə، أيليا كابيتولينا؛ ورغم أنَّها دُمِّرت، بالكامل تقريبًا سنة 70 للميلاد، غير أنها ظلَّت تعرف بهذا الإسم رسميّا، ردحاً من الزَّمن، بما في ذلك العصر الأموي.
وجَّهَ الخليفةُ “عمر بن الخطَّاب”، أبا عُبَيْدَة الجرَّاح، على رأس جيشٍ، لفتح مدن بلاد الشَّام، دعوةً لِمَن فيها من ناسٍ إلى الإسلام؛ ومن بين هذه المُدن “بيت المَقْدِس”، التي من أسمائها المشهورةِ، آنَئِذٍ، “إيليَّاء”. استعصت “إيلياء” على جيش الجرَّاح؛ إلى أنْ تمَّ التَّوافق، بينه وبين أهلها، بقيادة بطريرك المدينة صفرونيوس، على أن يحضر خليفة المسلمين، بشخصه، إلى المدينة؛ وتكون معاهدة بين الفريقين، ينال فيها السكَّان المسيحيون ضمانةَ أمانٍ لهم، ويحصل المسلمون، بموجب هذه المعاهدة، على مقاليد الحكم في المدينة. انتقل خليفة المسلمين، فور معرفته بهذا التَّوافق، بين الجرَّاح وصفرونيوس، من مقرِّه في المدينة المنوَّرة إلى “إيلياء”، في بيت المقدس.
عقد الخليفة عمر بن الخطَّاب مع البطريرك صفرونيوس، اتِّفاقاً عُرِفَ بـ”العهدة العمريَّة”؛ وفد تمَّ هذا الأمر، وفاقاً للنسخة التي نشـرتـها “بطـريركيـة الرُّوم الأرثوذكس في القدس”، سنة 1953، وهي النَّصُّ المعتمـد حاليَّاً لدى كنيسة القدس الأرثوذكسية؛ بشهادة جمعٍ من المسلمين، من بينهم رهط من صحابة رسول الله، هم خالـد بن الـوليد وعثمان بن عفَّان وسعد بن زيد وعبد الرَّحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان؛ وحصل هذا،
يوم الأحد الواقع فيه العشـرين من شهر ربيـع الأول من السنة 15 للهجـرة النبـويـة، الموافق للخامس من شهر أيَّار لسنة 636 للميلاد.
جرى توثيق هذه العهدة وتحليلها، في عديد من المصادر والأعمال التاريخية الإسلاميَّة والمسيحيَّة، كما في عديد من المؤلفات والدراسات المعاصرة؛ كما وردت، على سبيل المثال، في كتب التاريخ بأكثر من صيغة ونص؛ وتتراوح هذه النصوص، بين قصيرة ومقتضبه؛ ومنها نص اليعقوبي ونص ابن البطريق، أو تأتي مفصلة، كما في نص ابن عساكر ونص الطبري ومجير الدين العليمي المقدسيِ، وكذلك في نص بطريركيـة الروم الأرثوذكس؛ وقام بدراستها وتحليلها كثر من المعاصرين العرب والأجانب، منهم عارف العارف، في كتابه المفصل في تاريخ القدس، الصادر عن مطبعة المعارف في القدس، سنة 1999؛ وكذلكHava Lazarus-Yafeh في Religious Aspects of Islam مناحٍ دينية من الإسلام، 1981 و Chaim Raphael شايم رافايل، في The Sephardi Story قصة السَّفارديم، سنة 1991. وبغضِّ النَّظرِ عن كلِّ ما يمكن أن يكون، من أقوال واجتهادات وآراء متفاوتة في ما بينها في موضوع العهدة، فثمَّة توافقٌ كلِّي على أمورٍ فيها؛ لعلَّ من أبرزها، حضور الخليفة عمر بن الخطاب، شخصيَّاً إلى القدس؛ وتوافقه، مع البطريرك صفرانيوس، على الحفاظ على ما للنصارى في المدينة من كنائس وبِيَعٍ ودُور عبادة؛ وأنَّ لهم أن يسيروا في شوارعها بمواكبهم حاملين صلبانهم. ولقد بيَّن النَّصُ، الذي نشرته “بطـريركيـة الرُّوم الأرثوذكس في القدس، سنة 1953، للعهدة، ما حرفيَّته، “وليكن الأمان عليهم وعلى كنائسهم وديارهم وكافة زياراتهم التي بيدهم داخلا وخارجاً وهي القيامة وبيت لحم مولد عيسى عليه السلام كنيسة الكبراء، والمغارة ذي الثلاثة أبواب، قبلي وشـمالي وغربي، وبقيـة أجنـاس النصارى الموجودين هناك”.
يمكن استخلاصُ عدَّة أمورٍ، تدخل في البعدين الثقافي والتَّثقيفي، لهذا الحدث الذي حصل بين أمَّتين، ودينين وحضارتين وثقافتين وشخصين؛ متمثَّلاً بـ”العهدة العُمَرِيَّة”:
أوَّلاُ: أنَّ “إيلياء”، زمنذاك، أو “بيت المقدس”، في المصطلح الثقافي العربيِّ والإسلامي، أو “القدس”، في المصطلح المتعارف عليه راهناً، ما كانت مدينة مفتوحةً حربِيَّاً، على الإطلاق؛ بل كل ما حصَّل، بين الخليفة المسلم والبطريرك النَّصراني، تَمَّ في نقلٍ سِلْمِيٍّ حضاريٍّ للسُلطةِ الإدارِيَّةِ السِّياسيَّةِ فيها، مِن يدِ إلى أخرى. فالقدسُ، بهذه الممارسة العمليَّة، تعني، عند طرفي “العهدة”، المسلم منهما، كما المسيحي، مفهوماً قدسيَّاً لا يرتضي الحرب، ولا يُجيز سفك الدِّماء؛ بل لا يعرف سوى التَّفاعل الثَّقافيِّ المبني على الاعتراف بالآخر واحترامه.
ثانياً: أنَّها مكانٌ أو مدينةٌ، على صِغَرِ مساحتها الأرضيَّةِ وقلة عديد سكانها، تبقى عظيمة القدر جليلة المكانة؛ والدَّليل، على هذا، انتقالُ خليفة المسلمين إليها بشخصهِ، من عاصمة خلافته، التي كانت سلطتها تشمل مساحة الأرض الممتدة من بلاد فارس إلى بلاد الرُّوم، مروراً بأرض الكنانة، لِمُجرَّد تقديمه عُهدةً بتسلُّمها، وهو أمرٌ كان بمستطاعِ قائده العسكري، الجرَّاح، القيام به بصورة مباشرة؛ الأمر الذي لم يحصل أبداً، ولم يتكرَّر البتَّة، مع أي مدينة أو منطقةٍ أو دولةٍ سعى المسلمون إلى فتحها.
ثالثاً: أنَّ هذه “العهدة”، التي وضعها عمر بن الخطَّاب، وهو الذي اشتُهِرَ بدقَّته المتشدِّدةِ في الحرصِ على التَّمسُّك بالقِيم الدِّينيَّة الإسلاميَّةِ ومفاهيمها، كما عُرَفَ بِصرامَتِه في تطبيق الأحكامِ؛ فإنَّها ما قامت إلاَّ على مفاهيم الاعتراف الإسلامي الواضح بالآخر، والتَّأكيدِ الفعليِّ العمليِّ لِقِيَمِ احترام ما في عقيدة الآخرِ وثقافته من اختلافات؛ حتَّى وإن كانت العقيدة الإسلاميَّة قد لا تُقِرُّها ولا تتَّفق معها في مفاهيمها الثقافية. ولعلَّ في هذا الموقف من الخليفة عمر بن الخطَّاب، ما يؤكِّد، وبجلاء ظاهر، وسطوعٍ باهرٍ، أنَّهُ ما كان في سلوكِهِ هذا المنحى الإنسانيِّ الدِّينيِّ والتَّصَرُّفِ الحضاريِّ الرَّاقي، إلاَّ مُتَّبِعاً لما ورد في الآية 99 من سورة “يونس”، من قول اللهِ، الرحمن الرَّحيم، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، وما وافى بيانه في الآية 256 من سورة “البقرة”، من كتاب الله العظيم، {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
رغم أنَّ الدِّين الإسلامي لا يعترف، أساساً، بِصَلْبِ السيد المسيح على الإطلاق، إذ ورد في الآية 157 من سورة “النِّساء”، {قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ}؛ كما لا يعترف بموته، وفاقاً لما يرد في الآية 55 من سورة “آل عمران” {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ فإنَّ “العهدة العُمَرِيَّةَ”، أكَّدت حقَّ الآخرَ المختلف في احترام عقيدته الدِّينية والأمكان المرتبطة بهذه العقيدة. لم تكتفِ “العهدة” بأن أقرَّتَ للنَّصارى في “إيلياء” أن يحتفظوا بصلبانهم، بل تركت لهم أن يجولوا بها علانيةً في شوارع المدينة. وكذلك، فإنَّ الخليفة عمر بن الخطَّاب، الذي لا يُجِيزُ أن يكون السيِّد المسيح قد مات، إتِّباعاً من الخليفةِ لما جاء في الآية 158 من سورة “النِّساء” عن نبيُّ الله عسيى، { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}؛ فإنَّ عمر بن الخطَّاب لم يمسَّ الموقع المعروف بـ”القَبْرِ المُقَدَّس”، في “كنيسة القيامة” في “إيلياء”؛ وهو المكان الذي يؤمن النَّصارى قاطبةً، أنَّ السيِّد المسيح قد دُفِنَ فيهِ بعد حادثة الصَّلب، بأي آذى أو سوء، لا من قريب ولا من بعيد؛ ولم يصل به الحال، أبداً، إلى أن يهدم موقع القبر، أو يُغْلِقْهُ، أو حتَّى أن يسعى إلى أيِّ تشويهِ له.
إذا ما كان من تقَصٍّ لما وراء هذه المعاملة الشَّديدة الخصوصيَّةِ، وخلفَ ذلك الانمياز الحضاري والثقافي لِتَصَرُّفِ خليفة المسلمين، عمر بن الخطَّاب، تجاه “إيلياء”؛ فإنَّ الفحص يقود إلى عددٍ من التَّسويغات التي من أبرزها، بل في أساسها، أنَّ “إيلياء” تقع في بيت المقدس؛ حيث “المسجد الأقصى”. والأصل، في هذا، ما يَرِدُ في الآية الأولى من سورة “الإسراء”، من النَّصِّ القرآني، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
تعارف النَّاسُ، منذ أن أُنْزِلَت آية الإسراء، على أنَّ إسراء النَّبيِّ محمَّدr كان في سنة 621 للميلاد، أي قبل زهاء خمس عشرة سنة فقط، من هذا حضور للخليفة عمر بن الخطاب إلى “إيلياء” لوضع “العهدة”؛ فليس ثمَّة تقادمٍ زمنيٍّ قد يكون معه ضياع للمعالم الرَّئيسة لحدث الإسراء، وتحديداً للأمكنة التي كان حصوله فيها. تُجْمِعُ الأقوالُ، ههنا، على أنَّ الإسراءَ كان بانتقالٍ ليلي من “البيت الحرام”، في مكَّة”، إلى مكان هو “المسجد الأقصى”؛ وهذا ما يرد في الآية الأولى من سورة “الإسراء”، من النَّصِّ القرآني، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. ويذكر أحد كبار علماء المسلمين، وهو جلال الدين السُّيوطي (المتوفَّى سنة 911 هـ/1505 م)، في مؤلَّفهِ “الآية الكبرى في شرح قصة الإسراء”، الصَّادر عن “دار الحديث”، في القاهرة، طبعة سنة 1988″، والحافظ ابن حجر العسقلاني، (المتوفي سنة 852 هـ/1449م)، في الصفحات من 196 إلى 218، من الجزء السابع من كتابه “فتح الباري بشرح صحيح البخاري”، أنَّ الرسُّول صلّى في بيت المقدس بجميع الأنبياء إمامًا، وقد بعثهم الله من رقادهم ليجتمعوا إليه.
تتوافق الأقوال، تالياً، على أنَّ هذا الإسراء، قد اتُّبَعَ بالمِعراجُ النَّبويُّ إلى السَّماء، حيث “سدرة المنتهى”. وثمَّة تلاقٍ، بين غالبيَّةِ المفسِّرين ومعظمِ الدَّارسين، على أنَّه ما تَرِدُ الإشارةُ إليهِ في سورة “النَّجم”، مِن القرآن، بكامِلِ آياتِها؛ {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى*عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى*ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى*وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى*ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى*فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى* فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى* مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى* أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى* وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى* عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى*عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى*إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى* مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى* لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}.
يعتقد كثيرون أن “المسجد الأقصى”، هو هذا الجامع المبني جنوبي “قبَّة الصَّخرة”، والذي يُعرف حاليَّاً باسم “المصلى القبلي”. وواقع الحال، فإنَّ هذا المبنى لم يكن قائماً، على الإطلاق، آن حضر الخلية عمر بن الخطَّاب، إلى “إيلياء”، في “بيت المقدس”. واقع الأمر، أنه لو كان المبنى قائماً، لاختار الخليفة أن يقضي فيه الصلاة، وقد أدركته وهو في الكنيسة؛ ولم يكن ليصلِّي على أرض في العراء؛ وذلك وفاقاً للمتواتَر من قوله “ما
كان لعمر أن يصلِّي في كنيسة القيامة فيأتي المسلمون من بعدي ويقولون هنا صلى عمر ويبنون عليه مسجدا”. ومن الثَّابتِ أنَّ “أوثوشيوس الإسكندري” Eutychius of Alexandria، المعروف في الثقافة العربيَّة باسم “ابن البطريق”، وكان طبيباً ومؤرخاً مسيحيَّاً وصار، تالياً، بطريرك الرُّوم الملكيين بالإسكندرية، ولد في الفسطاط في 263 هـ. 877 م.؛ وقد وضعَ عدداً من المُصَنَّفات، أشهرها كتابه في التَّاريخ “نَظْمُ الجَوْهَرِ”، المعروف أيضًا بـ”تاريخ ابن البطريق”؛ قد ذَكَرَ حادثة صلاة الخليفة عمر بن الخطاب هذه؛ وعنه، نقلها ابن خلدون. ولعلَّ من أبرز من عرض لها من المعاصرين، الأستاذ نصري سلهب، في الصفحة 330 من كتابه “لقاء المسيحية والإسلام”، الصَّادر عن “دار الكتاب العربي”، سنة 1969؛ وكذلك الأستاذ معين أحمد محمود، في الصفحة 62، من كتابه “تاريخ مدينة القدس”، الصادر عن “دار الأندلس”، سنة 1979.
المسجد الأقصى، إذاً، هو مجموعُ ما على هذه الهضبة الكبيرة، التي تتوِّجُها “الصَّخرة”، التي يعتقد المسلمون بأنها المنطلق الذي عُرِجَ منه بالنَّبيِّ محمَّد r إلى السَّماء، في “بيت المقدس”؛ والتي كانت، زمن أداء الخليفة عمر بن الخطَّاب الصلاتِهِ فيها، خاليةً من البناء. وكان أن بنى الخليفة عمر بن الخطاب المسجد سنة 15 للهجرة، في عين الموقع الذي أقام صلاته تلك فيه. أمَّا موقع هذا البناء، وكما يشير الأستاذ عبد الله
معروف في الصفحات 90 إلى 96، من كتابه “المدخل إلى دراسة المسجد الأقصى المبارك”، الصادر عن “دار العلم للملايين” في بيروت سنة 2009، فهو “الجامع القبلي” الحالي في الجنوب من جهة القبلة.
بالإمكان، بناء على ما سبق آنفاً، استخلاص ثلاثةَ أمورٍ أساسٍ، في ما يتعلَّق بموقع “المسجد الأقصى”، وحقيقته:
- إنَّ “بيت المقدس”، بدلالة حقائق الأحداث التاريخيَّة وتَمَاسُك الوقائع الحاصلة والمُجمع عليها في المؤلَّفات والكتب والدِّراسات، القدِّيمة منها والمعاصرة، والتي وضعها ثُقاة من المسلمين والمسيحيين، على حدٍّ سواء، وبعضهم لم يكن في بعد زمني كبير عن تلك الأحداث والوقائع، تشير، ومن دونِ أيِّ اخْتِلاطٍ أو اشْتِبَاهٍ أو إِشْكالٍ أو اِلْتِبَاسٍ، وبوضوحٍ بيِّنٍ وصفاء صَرِيح، هو المكان الذي أُسْرِيَ بالنَّبي محمَّد r إليه، وفيهِ يَقَعُ “المسجد الأقصى” الذي جمع اللهُ، سبحانه وتعالى، له فيه الأنبياء والرُّسُلَ ليصلِّبهم إماماً، ثمَّ عُرِجَ بهِ إلى “سدرة المنتهى”، إنطلاقاً من تلك الصَّخرةِ القائمةِ غلى تلك الهضبة؛ حيث كانت “إيلياء”، في “فلسطين”؛ وليس في أي موقعٍ آخر سواها.
- إنَّ هذه القدسيَّة الخاصَّة، بهذا المكان تحديداً، هي ما حفَّز الخليفة عمر بن الخطَّاب، للحضور بشخصه إلى “إيلياء”؛ ودفعه إلى تقديمهِ “العهدة العمريَّة” إلى النَّصارى الذين فيها، عبر شخص البطريرك صفرانيوس؛ وعدم متابعة السَّعي إلى السيطرة على المدينة عبر الغلبة العسكريَّة.
- إنَّ “المسجد الأقصى”، اسم لجميع هذه الهضبة؛ وقد أصبح يتضمَّنُ، تالياً، “الجامع القبلي” و”قبَّة الصَّخرة” و”المصلَّى المرواني” و”مصلَّى باب الرَّحمة”، وسائر ما على “الهضبة” من الأروقة والقِباب والمصاطِب وأسبلة الماء، وما أنشئَ من الحدائق، فضلاً عن كلِّ ما هو تحت الأرضِ أو فوقها وسوى ذلك، مِمَّا هو ملحوظ أو ما برح مجهولاً.
المسلمون والقدس:
لَئِن ذَكَرَ الحافظ ابن حجر العسقلاني، (المتوفي سنة 852 هـ/1449م)، وهو من عُرَفَ بشيخ الإسلام وأمير المؤمنين في الحديث، وكان من كبار ناشري الثقافة الإسلاميَّة في حياتِهِ، في الصَّفحات من 196 إلى 218، من الجزء السَّابع من كتابه “فتح الباري بشرح صحيح البخاري”، أنَّ الرسُّول صلّى في بيت المقدس بجميع الأنبياء إمامًا، وقد بعثهم الله من رقادهم ليجتمعوا إليه؛ وتابعه في هذا، آخرٌ من كبار علماء المسلمين، هو جلال الدين السُّيوطي (المتوفَّى سنة 911 هـ/1505 م)، في مؤلَّفهِ “الآية الكبرى في شرح قصة الإسراء”، الصَّادر عن “دار
الحديث”، في القاهرة، طبعة سنة 1988″، فذكر اجتماع الأنبياء والرُّسل كافَّة، ليلةَ الإسراءِ بالنَّبي محمَّد r، من “المسجد الحرام”، في “مكَّة”، إلى “المسجد الأقصى”، في “بيت المقدِس”، وصلاتهم جميعاً بإمامته؛ فإنَّ في الإجماع الثَّقافيِّ الإسلاميِّ على هذا الموضوع، عبر تعدُّدِ الحقب ومَرِّ العقود وتوالي السِّنين، بل والقرون، ما يساهِمُ في حضورٍ لدلالةٍ رمزيَّةِ مفهوميَّة، لهذه الصَّلاةِ، ذاتُ أبعادٍ متنوِّعة.
لعلَّ من أوَّل الدَّلالات الثَّقافيَّةِ للرَّمزِيَّةِ المَفهُومِيَّةِ، لصلاةِ النَّبيّ محمَّد r، بالأنبياء والرُّسُلِ، في “المسجد الأقصى”، أنَّ هذا المسجد موقعٌ حدَّده اللهُ لتلاقي الدَّعوات التي أوحى بها، سبحانه وتعالى، إلى رُسُلِهِ وأنبيائِهِ قاطبةً؛ وفي هذا ما يُدَلَّلَ ما دفع بالخليفة عمر بن الخطَّاب إلى أن يَخُصَّ “بيت المقدِس” (إيلياء) بامتياز عدم خضوعها للفتح العسكري، وأنَّ النَّصارى من ساكينيها لا يرتبطون بالسلطة الإسلاميَّة بشروطِ صُلحٍ، بل إنَّ عهداً هو ما يجمع بينهما. ومن المعلوم، ووفاقاً لما تشير إليهِ معاجم اللغة العربية، والمعاجم الفقهيَّة خاصَةً، فإنَّ الصُّلح، إنهاء الخصومة والاتفاق بعد النِّزاع، بما في ذلك تبيان ما لكلٍّ من الغالب والمغلوب من حقوقٍ وواجبات؛ في حين إنَّ العهد، ووفاقاً للمراجع عينها، يعني الصَّون والرِّعايةَ والتَّفقُّدَ والحِفِظ، وفي هذا ما يؤكِّدُ جانب المودَّةِ والاحترام والابتعاد عن مقولة الغالب والمغلوب.
ثمَّة حديث نبوي أخرجه النسائي (693)، وابن ماجه (1408) واللفظ له، وأحمد (6644)، يُخْبِرُ فيه عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو، أنَّ النَّبيَّ r، قال إنَّ سُليمانُ بنُ داودَ، سأَلَ اللهَ، فيما سأله،”ألَّا يأتِيَ هذا المسجِدَ أحدٌ”، أي: المسجِدَ الأقصى، “لا يُريدُ إلَّا الصَّلاةَ فيه، إلَّا خرَجَ مِن ذُنوبِه كيومِ ولدَتْه أُمُّه”. ولعلَّ في هذا، ما يُلقي بعض جلاء على ما ينتشرُ في فضاءات الثَّقافة الإسلاميَّةِ، قديماً وحديثاً، من حديثٍ مُتَّفَقٍ عليهِ، رَواهُ البُخاري ومُسلم وغيرهُما، يُنْسَبُ إلى الرَّسول r، جاء فيهِ “لَا تُشَدُّ اَلرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى”؛ وفي هذا ما فيهِ من إجلال الثقافة الإسلاميَّةِ وتعظيمها للمسجِد الأقصى، خاصَّة، وبطبيعة الحالِ لموقِع هذا المسجد في “بيت المقدِس”، والذي أمَّ فيهِ النَّبي محمَّد r رُسُلَ اللهِ وأنبيائهِ في الصَّلاةِ؛ وهو “إيلياء”، في الزَمن الغابرِ، كما هو “القُدْسُ”، في زماننا الحاضر. ومن التَّأكيد العالمي على هذا، أنْ اتَّخذت “لجنة البرامج والعلاقات الخارجيَّة”، في “المجلس التَّنفيذي” في “منظَّمة اليونيسكو”، في شهر تشرين الأوَّل (أكتوبر) سنة 2016، قرارًا وردَ فيه “إنَّ المنظمة تَعتبِرُ المسجد الأقصى أحد المُقدَّسات الإسلاميَّة”؛ وذلكَ من دون أيِّ ذِكرٍ لِوجودِ أيِّ رابطٍ تاريخيٍّ بين اليَهود والمَسجد، ومستنكرة اقتحامه المتكرر من قبل بعض المتطرفين الإسرائيليين ومن قبل الجيش الإسرائيلي. والجدير ذكره، ههنا، أنَّ هذا القرار جاء استجابةً لمشروع تمَّ تقديمه من قبل الجزائر ومصر ولبنان والمغرب وعُمان وقطر والسُّودان؛ كما
رحَّبت عدَّة منظمات وهيئات إسلامية بهِ، وفي مقدمتها “منظَّمة التَّعاون الإسلامي” و”مرصد الجامع الأزهر”، و”هيئة علماء المسلمين في العراق”، فضلاً عن السُّلطة الوطنيَّة الفلسطينيَّة والفصائل الفلسطينيَّة.
المسيحيون والقدس:
تتخذ “القدس” موقعاً محوريًا في حياة السيِّد المسيح؛ وذلك في انطلاقته، وفي ثورته، وكذلك في المرحلة الأخيرة من حياته الأرضيَّة، قبل أن يَرفعه اللهُ. يرد، من الآية 41 إلى الآية 52 من الفصل الثاني في “إنجيل لوقا”، أنَّ المسيح طالما كان يحضر إلى القدسِ في طفولته؛ ولقد كان في الثَّانية عشرة من عمره، عندما لفت إليهِ أنظار من كانوا في الهيكل من أحبار وسواهم. ويذكر التاريخ المسيحي، وفاقاً لما يذكر في إناجيل متَّى 21: 12-17، ومرقس 11: 15-19 ولوقا 19:/ 45-48، وكذلك في يوحنَّا 2: 13-22، أنَّ السيِّد المسيح أعلن ثورتهُ، بتطهير هيكل حيرود في “أورشليم” (القدس).
كان “العشاء الأخير”، للسيد المسيح مع تلاميذه، في “العلِيَّة” في “القُدس”؛ وكان هذا آخر ما احتفل به معهم. وفاقاً لما يرد في أناجيل “العهد الجديد”، متى 26: 17-30 ؛ مرقس 14: 12-25 ؛ لوقا 22: 7ـ20 ؛ يوحنا 13: 1-30، فإنَّ لهذا المكان، تحديداً، أهميَّة أساس في الوجدان اللاهوتي المسيحي؛ إذ قام المسيح، خلال هذا العشاء في العلِّيَّةِ، بِتبيان كثيرٍ من رموز المسيحيَّة وتعاليمها ومفاهيمها لتلاميذه هؤلاء. لقد غسل أرجل التَّلاميذ، والقى فيهم عِظةً تُعتبر من أهم عظاته وأكثرها طولاً وأشدها أهميَّةً في تأسيس الوعيِّ المسيحي. وكان أن أخذ السيد المسيح، بعد العشاء، كما يرد في إنجيل لوقا 22-19، رغيفًا من الخبز وباركه؛ ثمَّ أعطاه للتَّلاميذ، معلنًا أنَّه جسده، وكذلك فعل على كأس الخمر، معلنًا أنه دمه؛ طالباً منهم تكرار هذا الحدث استذكارًا له. ويعتبر الحدث شديد الأهمية، إذ تأسس به سِرُّ القُربان المُقَدِّسِ، وقدّم فيه يسوع خلاصة تعاليمه؛ وهذا الحدث يمثِّل المقابل الإنجيلي لمناسبة “خميس الأسرار”. ويؤمن كثير من المسيحيين، اليوم، أن “العليّة”، هذه، تقع على “جبل صهيون”، في المبنى عينه حيث ضريح الملك داود.
إنَّ التلّة المعروفة باسم “جلجثة”، من المواقع المسيحية المقدسة في المدينة؛ وهي موقع صلب السيد المسيح، بحسب الإيمان المسيحي، ووفاقاً لما يصفهُ “إنجيل يوحنَّا”، تقع خارج القدس، إلا أن بعض الحفريات أظهرت مؤخرًا أنها تقع على بُعد مسافة قليلة من البلدة القديمة، وتبقى داخل حدود المدينة الحاليّة. ومن المعترف به، على المستويين المسيحي والعالمي المعاصرَين، كما كان الوضع زمن إصدار العهدة العمريَّة، أنَّ أعظم الأمكان المسيحيَّة قداسة، ليس في القدس وحدها، بل في العالم المسيحي قاطبةً، هي “كنيسة القيامة”؛ التي ما انفكَّ يحجُّ
إليها المسيحيون، من مختلف أنحاء العالم، منذ أكثر من ألفيّ سنة؛ وثمَّة من الباحثين والمنقِّبين، من يرى أنها، وعلى الأغلب، قد شُيدت على الجلجثة، حيث يؤمن المسيحيون بأن المسيح علِّق على الصَّليب.
تضمُّ “حارة النَّصارى”، حالِيَّاً، في “القدس”، نحو 40 من الأماكن والمزارت والمواقع المسيحيَّة المقدَّسة؛ ومنها “كنيسة القيامة”، التي ينظر إليها من قبل جميع الطَّوائف المسيحيَّة، على أنها من أقدس الأماكن في المعتقد المسيحي.
اليهود والقدس:
من المتواتر في الثقافة اليهوديَّة، أنَّ مدينة “القدس”، أصبحت مدينة مقدَّسة، في القرن العاشر قبل الميلاد، بعد أن فتحها النَّبي والملك “داود”، وجعل منها عاصمة لمملكة إسرائيل الموحَّدة. و”مملكة إسرائيل الموحَّدة”، هو اسم أطلقه مؤرخو “التَّناخ” תנ״ך (الكتاب المقدس اليهودي)، استنادًا إلى ما ورد فيه؛ على مملكة “شاول שָׁאוּל بن قيس”، من سِبْط “بنيامين” בנימין، أول ملوك إسرائيل، و”داود” דָּוִד, דָּוִיד ابن “يسى” ג‘סי,، وهو ثاني ملك على “مملكة إسرائيل الموحَّدة”، و”سليمان” שְׁלֹמֹה ابن الملك “داود” الذي خلفه على عرش بني إسرائيل؛ وتوصف هذه المملكة في سِفري “صموئيل” الأول والثاني، على أنها اتحاد لأسباط بني إسرائيل. ويفرق مؤرِّخو “العهد القديم”، بين “مملكة إسرائيل الموحدة”، و”مملكة إسرائيل الشَّماليَّة”، أو “مملكة إفرايم” ממלכת אפרים ، التي انفصلت عنها في مرحلةٍ لاحقة. ومن تحليل نصوص السِّفرين، يقدِّر معظم مؤرِّخي “العهد القديم”، وفاق ما يردِ فيهما، وجود “مملكة إسرائيل الموحَّدة” بأكثر من 100 سنة، أي منذ سنة 1050 ق.م. وحتى سنة 930 ق.م. تقريبا.
تذكر الأدبيَّات اليهوديَّة أنَّ “القدس” كانت تحوي الهيكل الذي بناه “سليمان بن داود”؛ ويسمِّيه اليهود “هيكل سليمان” מקדש שלמה؛ وإنَّ هذا الهيكل قد هُدِمَ؛ وبني، في وقت لاحق لهدمه، معبد “حيرود” מקדש הורדוס، وهو عينُ الهيكل الذي تذكر أناجيل “العهد الجديد” أنَّ “السيِّد المسيح” لفت فيه، في صباه، أنظار الأحبار إليه، وأثار اهتمامهم وإعجابهم به. وهذا الهيكل، وفاقاً لما يردُ في أناجيل “العهد الجديد”، “متى 21: 12-17، ومرقس 11: 15-19، ولوقا 19: 45-48″، هو حيث طرد “المسيحُ” اللُّصوصَ والتُجَّار والصَّرافين. تجدر الإشارة، كذلك، أنَّ اليهود يتعبَّدون اليوم عند ما يسمُّونه “الحائط الغربي” הכותל המערבי، وهو ما يعرف، كذلك، باسم “حائط المبكى”، الذي يؤمنون بأنَّه كلّ ما تبقَّى من “هيكل سليمان”؛ كما أنَّه ما تُشيرُ أدبيَّات الثَّقافة الإسلاميَّة، على أنَّهُ “حائط البٌراق”، حيث تذكر روايات “الإسراء والمعراج”، أن النَّبي محمَّد r، ربط دابَّة “البُراق” إليه في ليلة الإسراء والمعراج.
إنَّ جميع هذه المواقع، التي يعتقد الإسرائيليون بوجودها في “القدس”، قد بُنِيَ القَوْلُ بها، وكما سبقت الإشارة آنِفاً، انطلاقاً من مرويَّات قديمة متوراثة منذ قرون ممعنة في التاريخ، عن مُفَسِّري “التَّناخ”؛ والتي ترى فيه الدِّيانة اليهوديَّةُ وحياً إلهيَّاً مؤكَّداً، معتبرةً ما يُذكرُ فيه، منقولاً مباشرةً من الإله وأنَّه تاريخ صحيح. وكان، في مقابل هذا الأمر، أن شارك البروفيسور “إسرائيل فينكلشتين” Israel Finkelstein ، أستاذ علم الآثار في “جامعة تل أبيب” Tel Aviv University، في تأليف كتاب بعنوان “الكشف عن التَّوراة” (The Bible Unearthed)، جرى نشره في نيويورك، سنة 2001؛ وقد أبدى البروفسور فنكلشتين، في هذا الكتاب شكوكاً كبيرة في مدى تطابق الرِّوايات المحفوظة، فيما ينشر من نصوص للعهد القديم، مع واقع الحفريَّات الأثرِيَّة التي عرفها، وتلك التي أشرف عليها في الأرض المقدَّسة. وأصدر، هذا الباحث في قسم الآثار من جامعة تل أبيب، سنة 2007، مع عالِم الآثار الأميركي، نيل سيلبرمن Neil Asher Silberman، كتاباً نشر، كذلك في نيويورك، بعنوان “البحث عن إسرائيل التَّاريخيَّة” (The Quest for the Historical Israel)؛ وأوردَ فيه، أيضاً، تعليقاً مفاجئاً لكثير من العلماء التَّقلديين في عِلم الآثار والتَّاريخ التَّوراتيين، إضافةً إلى لاهوتيي التَّوراة، مفاده “أنَّ الحكَّام القُدامى، والذين عاشوا قبل ذلك بقرون، ومنهم داود وسليمان، كانوا “زعماء قبليين يحكمون من بلدة صغيرة على تل، مع قصر متواضع وضريح ملكي”.
انطلقت أعمال الحفر الإسرائيلي على أرض فلسطين، بحثاً عن دلائل أثريَّة عن تراث عمراني وحياتي يهودي، منذ النصف الثاني من القرن التَّاسع عشر؛ غير أنَّ ما جرى حفره، في زمن الاحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس، بدءاً من أخريات سنة 1967، وحتَّى اليوم، يقدَّر بما يتجاوز جميع ما حصل على أرض فلسطين بِرُمَّتِها، منذ أول حفرية حصلت في القدس، سنة 1863؛ رغم جميع القرارات التي ما انفكَّت تصدر عن “مجلس الأمن” و”هيئة الأمم المتحدة” ومنظَّمة اليونسكو”، مطالبة بإيقافها. ومع كلِّ هذا، فإنَّ نتائج هذا الحفر، بكافة مناطقهِ وتعدُّدِ أعماقه، لم تُثبت، بصورةٍ علميَّة موضوعيَّة، سوى نتائج نابعة من فرضيَّات خياليَّة غير دقيقة، بل متناقضة فيما بينها؛ إذ منطلق هذه الفرضيَّات لم يكن سوى تفسيرات لبعض ما ورد في التَّناخ תנ״ך (التَّوراة القديمة)، لجمهرةٍ، ما برحت تتزايد، من اللاهوتيين اليهود.
**************************
مكتبة الدِّراسة:
- القرآن الكريم
- الإنجيل المقدَّس (العهد الجديد)
- التَّوراة (العهد القديم – التَّناخ)
- بطريركيـة الروم الأرثوذكس في القدس، نسخة العهدة العمرية التي وزَّعتها الfطريركية سنة 1953.
- جلال الدين السُّيوطي، الآية الكبرى في شرح قصة الإسراء، دار الحديث -القاهرة، طبعة سنة 1988.
- الحافظ ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، المطبعة السلفية ومكتبتها – القاهرة، الطبعة الأولى، الجزء 7.
- عارف العارف، المفصل في تاريخ القدس، مطبعة المعارف في القدس، سنة 1999
- عبد الله معروف، المدخل إلى دراسة المسجد الأقصى المبارك، دار العلم للملايين-بيروت، 2009.
- معين أحمد محمود، تاريخ مدينة القدس، دار الأندلس، 1979
- نصري سلهب، لقاء المسيحية والإسلام، دار الكتاب العربي-بيروت، 1969.
- Chaim Raphael, The Sephardi Story: A Celebration of Jewish History, Published by Vallentine Mitchell, 1991.
- Israel Finkelstein, Amihay Mazar, International Institute for Secular Humanistic Judaism. Colloquium, The Quest for the Historical Israel: Debating Archaeology and the History of Israel, Society of Biblical Literature, Atlanta-U.S.A., 2007, pp. 103, 116-118, 161.
- Israel Finkelstein, Neil Asher Silberman, The Bible Unearthed: Archaeology’s New Vision of Ancient Israel and the Origin of Its Sacred Texts, Free Press, New York-U.S.A.,2001, pp. 196-228.
- Lazarus-Yafeh, Some Religious Aspects of Islam: A Collection of Articles Jerusalem Studies in Arabic and Islam, Leiden: E. J. Brill, 1981.
************************************************