المرأة في الأدب اللبناني

مقابلة مع  أ. د. لويس صليبا،

“المرأة موقعها ومساهمتها في الأدب اللبناني” عنوان يطرح تساؤلات وإشكاليات عديدة. هل لا تزال مجرّد ملهِمة؟! أم أنها غدت فعلاً ملهَمة ولها في هذا الأدب موقع الفاعل والمنتِج؟ وفي أية مجالات وأنواع أدبية استطاعت أن تنافس الرجل وتكون ندّاً له في الخلق والإبداع؟

في هذا التحقيق شئنا لمرّة أن نكسر الحلقة الروتينية والتقليدية في مقاربة الموضوع، لذا لم نكتفِ بمقابلة مع متخصّص، بل نظّمنا ندوة أثرنا فيها نقاشاً شارك فيه عدة باحثين. وفي ما يلي نص حوارنا مع البروفسور لويس صليبا، مدير أبحاث في جامعة القديس يوسف USJ بيروت، وله في الأدب اللبناني مؤلفات عديدة منها “الاغتراب اللبناني ملحمة أم مأساة”، “أديان الهند وأثرها في جبران”، و “من خبايا التراث اللبناني: صفحات مطوية في الزجل والتاريخ وأدب المهجر”.

س: د. صليبا، نبدأ معك الحوار، ونسألك كيف تقيّم عموماً مساهمة المرأة في الأدب اللبناني؟

تصعب الإجابة عن هذا السؤال إجابة عادلة ومنصفة من دون قراءة نقدية لتاريخنا الاجتماعي والتربوي الحديث والمعاصر.

ماذا أعطينا المرأة تنشئة وتربية كي نسألها ماذا أنتجت وأعطت في الأدب. فقبل أن نسأل الشجرة ماذا أثمرت علينا أن نسأل أنفسنا عن مدى عنايتنا بها لتثمر. والمثل اللبناني يقول: «متل ما بتحطّ بالقدرة بتشيل بالمغرفة.» وفي الإنجيل من أعطي وزنتان يُسأل عن وزنتين أخريين، ومن أعطي خمسة يُسأل عن خمسة.

س: هل لك أن تضرب لنا مثلاً عملياً على ما تقول؟

أول من يخطر لنا عندما نتحدّث عن المرأة ودورها في الأدب اللبناني مي زيادة (1886-1941)، وتجربتها الرائدة. وقد درستُها في كتابي “أديان الهند وأثرها في جبران”. فلنتوقّف قليلاً عندها ونستخلص العِبر. نحن دوماً نفتخر بميّ زيادة، وهي تستحقّ ذلك، ولكن ماذا أعطيناها؟ قال لها جبران: «أنتِ يا ميّ صوت صارخ في البرّية.»

وبالفعل كانت ميّ زيادة كذلك. وعلى مثال يوحنا المعمدان/النبيّ السابق أعدّت الطريق للمرأة اللبنانية، والعربية عموماً، للدخول في عالم الأدب، وليكون لها موقعها المميّز فيه. ولكن ميّ انطلقت في مصر، كانت لها هناك مقالاتها في كبريات الصحف ومؤلّفاتها وصالونها الأدبي الذي ارتاده كبار أدباء عصرها أمثال طه حسين والعقّاد وخليل مطران وغيرهم. وبالمقابل، فعندما جاءت إلى وطنها لبنان وُضعت في العصفورية. تقول في مذكّراتها: «سبعة أشهر قضيتها في العصفورية في لبنان على هذه الحال وفي تلك الغمرة من الألم واليأس والعذاب دون أن يهتزّ عرق بالشفقة، أو لسان بالسؤال. ولهذا اسمحوا لي أن أقول بكلّ ألم وبكلّ أسف وخجل…نعم لقد كنتُ ألعن وطني، وعندما يلعن المرء من يحبّ، يكون الألم واليأس قد برّحا به.»

مي زيادة التي نفتخر بريادتها اليوم، وضعناها في مستشفى المجانين. كان المصريون يتسابقون على نسبتها إلى بلدهم، وكانت تجيب: «لبنان هي كلمة واحدة، هي لفظة صغيرة، ولكن كلّ الحبّ وكلّ الرجاء فيها، لأنها اسم الوطن الغالي.»

ومن المؤسف والمخذي أن يكون مكان هذه الأديبة في وطنها الغالي العصفورية.

س: د. صليبا، ولكن مشكلة ميّ أليست حالة استثنائية؟

إنها بالحري مثل معبّر Exemple significatif. وثمّة أمثال وحالات أخرى مشابهة. ليلى البعلبكي (جنوبية ولدت في بيروت 1934). قال عنها أكثر النقّاد أنها أسّست الرواية النسائية الحديثة. الناقدة يمنى العيد قالت إن روايتها “أنا أحيا” 1958 شكّلت علامة بارزة في تطوّر الكتابة الروائية العربية. وميخائيل نعيمه اعتبرها استثنائية في الأدب العربي قديمه وحديثه.

ورغم كلّ ذلك أثارت الرواية الكثير من الضجّة بسبب جرأتها مضموناً وألفاظاً. وتفاقمت الضجّة والاعتراضات عندما أصدرت ليلى البعلبكي مجموعتها القصصية “سفينة حنان إلى القمر”، 1963. فاتُهمت القصة التي حملت المجموعة عنوانها بالإباحية، وحوكمت الكاتبة وأوقفت، ومُنع الكتاب. ثمّ تراجعت المحكمة عن قرار المنع وبرّأت الكاتبة والقصّة على مضض.

وليلى بعلبكي الروائية الجريئة والمبدعة وحفيدة الفقيه الشيعي التي تزوّجت زواجاً مدنياً من مسيحي وفي الستينات من القرن الماضي لهي جديرة بالتنويه والإعجاب. فقد كانت حقاً رائدة أدبياً واجتماعياً في آن.

كاتبة في العصفورية، وأخرى في المحكمة. هذه نماذج بالغة الدلالة من معاناة المرأة/الأديبة في لبنان.

س: ولكن، د. صليبا، هل تُختصر مشاكل المرأة الأديبة في هذه المآسي الاجتماعية؟

هناك أيضاً الجانب التربوي. والحديث عنه يطول. وما يُتاح للمرأة اليوم من تعليم ودراسة لم يُتح من قبل. وللدلالة على ذلك أكتفي بما قالته أديبتنا والروائية إملي نصرالله (ولدت في كوكبا/الجنوب 1931) في سيرتها: «الصفّ الثالث ابتدائي أعدْتُه خمس مرّات، مع أني كنتُ من المتفوّقات، لأنه لم يكن هناك للبنات صفّ أعلى منه انتقل إليه.»

س: د. صليبا، قبل أن نتناول تجربة إملي نصرالله الرائدة في الرواية، هل لك أن تحدّثنا باختصار عن بدايات الرواية النسائية اللبنانية، ومن برز من الكاتبات في هذا المجال؟

أول اسم يحضرني هو زينب فوّاز صاحبة الرواية العربية الأولى: “حسن العواقب أو الغادة الزاهرة” 1895. أما أبرز الأسماء في عالم الرواية فهي عفيفة كرم (عمشيت 1883- نيويورك1924). فرغم حياتها القصيرة والمليئة بالمشاكل، فقد كتبت ثمان روايات، وهي حقّاً رائدة في مجال الرواية وكذلك في الدعوة إلى تحرير المرأة.

س: ما هي رواياتها، وأين صدرت؟

عفيفة كرم كاتبة مهجرية، تولّت رئاسة تحرير مجلّة الهدى المهجرية الشهيرة لفترة، وعنها صدرت روايتها الأولى “بديعة وفؤاد” 1906. وتعتبر الرواية الثانية في الأدب العربي الحديث، بعد رواية مواطنتها زينب فواز. وأبرز روايات عفيفة كرم الأخرى: “غادة عمشيت”، “فاطمة البدوية”، “ملكة اليوم” وقد تُرجمت إلى الإنكليزية.

س: د. صليبا، بماذا تميّزت روايات عفيفة كرم؟

“بديعة وفؤاد” 1906،رواية من 44 فصلاً. وهي قصة حبّ تدور أحداثها على ظهر سفينة متّجهة إلى الولايات المتّحدة، وتحمل مهاجرين لبنانيين. وتعرض الكاتبة فيها مسائل التخوّف من الحياة في البلاد الجديدة، وموقف المرأة من العصرنة وتحدّي الهويّة. وعلاقة الشرق بالغرب. وهذه الرواية الرائدة والتي بقيت منسية زمناً طويلاً، أعادت منشورات الزمن في المغرب نشرها 2008 ضمن سلسلة “رائدات الرواية العربية”. تصوّري سبقتنا المغرب، وذكّرتنا بكاتبة رائدة من عندنا!

س: ماذا عن رواياتها الأخرى؟

أتوقّف عند روايتها “غادة عمشيت” ولعلّها الثانية أهمّيةً بين رواياتها. وفيها عالجت الكثير من المشاكل والعيوب الاجتماعية مثل زواج الفتاة المبكر. تصوّري: آفة اجتماعية تناولتها عفيفة كرم منذ أكثر من قرن من الزمن، ولا نزال نتخبّط فيها إلى اليوم. وعالجت في روايتها هذه كذلك مسألة الوصاية على المرأة وعدم ترك الخيار لها في اتّخاذ قراراتها. أما أسلوب عفيفة فيها فجاء واقعياً وبعيداً عن الوصف والزخارف.

س: د. صليبا، هل ترى أن الطابع الأنثوي وقضية المرأة كانا العنصر الطاغي في روايات عفيفة كرم؟

أكتفي جواباً عن سؤالك، بكلمات لها كتبتها في مجلّتها “العالم الجديد” 1912، تقول: «أختي المرأة نحن في المهاجر نواجه مدنيّتين متناقضتين إحداهما شرقية بحتة، والأخرى أمركية محضة. ونحن في الاثنتين مقصّرات عن بلوغ الدرجة التي نريدها لأسباب عديدة اختيارية أو اضطرارية.»

كلمة تختصر حال المرأة الشرقية الممزّقة بين شرق وغرب.

س: إملي نصرالله أليست وجهاً مشرقاً من الأدب اللبناني؟

بالطبع. وقد درستُ هذه الروائية في كتابي “الاغتراب اللبناني ملحمة أم مأساة”. وتناولت خصوصاً مسألة الهجرة، وهي واضحة في أدبها، بل إن إملي نصرالله من أهمّ من صوّرها، ولا سيما في اثنتين من رواياتها “طيور أيلول” 1962 وهو أول كتبها، و “الإقلاع عكس الزمن” 1981.

س: د. صليبا،هل لك أن توجز لنا تجربتها الروائية بكلمات؟

رهافة حسّ فائقة، ومعرفة اختبارية. عاشت إملي نصرالله الهجرة ومأساتها. رضوان بطل روايتها الإقلاع عكس الزمن” يتماهى مع والدها الذي هاجر معظم أبنائه إلى كندا. لذا فهي تحكي عن واقع عاشته وجرحها.

س: إملي نصرالله: أين أثّرت هويّتها كأنثى في رواياتها؟

العنصر الأنثوي واضح في دقّة ما تصوّر من مشاعر، وتربط من أحداث. هذه الرهافة في التصوير ما كانت لتظهر لو لم تكن الكاتبة إمرأة. هي تشدّنا إلى نصّها لا لأنه يعبّر عن تجربة وحسب، بل لأن الكاتبة عمدت إلى التأمّل والتبصّر في هذه التجربة. عاشت تجربتها، ثمّ قرأتها وأعادت عيشها وقراءتها بأحاسيسها المرهفة، ونقلتها إلينا كتابةً بهذه المشاعر التي تحرّكنا في العمق. وهنا يكمن سرّ جاذبيّة نصّها.

تسأليني هنا هل كان لرجل أن يصوّر كل ذلك برهافة الحسّ هذه، فأجيب: لا أظن!

س: د. صليبا، هل تريد أن تقول لنا هنا أن رهافة الحسّ هي ميزة أدب النساء عموماً؟

أجيبكِ ببعض ما قالته ميّ زيادة، وعساه يوضح مقولتي. أَصغي إليها تهتف: «كيف أتخلّص من شعوري؟ كيف أفنيه؟ كيف أصير صخرة؟! حدّثيني أيتها الحجارة العسيرة كيف صرتِ حجارة.»

هل لرجل أن يعبّر بهذه الطريقة  المؤثرة والعميقة والبسيطة في آن؟!

المرأة أمّاً وحبيبة …وكاتبة تتخطّى الرجل عموماً بمراحل في مجالات القلب. ولنا من مي زيادة عينها جواباً آخر على ميزة المرأة في الأدب: «شيء واحد تامّ الجمال في تقديري، وهو ما يشترك في تركيبه قسم كبير من الفكر، وقسم أكبر من القلب.»

س: د. صليبا، ماذا عن موقع المرأة اللبنانية في الأدب الروائي الراهن؟

لا تزال تحتفظ بموقع رياديّ. وأكتفي بذكر اثنتين:

حنان الشيخ (ولدت في أرنون/الجنوب1943). رواياتها: “انتحار رجل ميت”، “حكاية زهرة”، “مسك الغزال”، “بريد بيروت” وغيرها، لاقت رواجاً ملحوظاً. وتُرجمت إلى الإنكليزية والفرنسية ولغات غربية أخرى. عشتُ في باريس مدة طويلة. وكنت أتابع جديد الثقافة والأدب فيها. وكانت كلّ رواية تُترجم إلى الفرنسية لها تُستقبل بالترحاب والاهتمام.

وما أقوله عن حنان الشيخ ينسحب كذلك على هدى بركات (ولدت في بشرّي 1952). روايتها “حجر الضحك” 1995 اعتُبرت أفضل رواية كُتبت عن الحرب الأهلية في لبنان. ورواية “حارث المياه” نالت جائزة نجيب محفوظ للأدب. وتُرجمت أكثر رواياتها إلى الفرنسية. ومنحها رئيس الجمهورية الفرنسية وسام الاستحقاق برتبة فارس مرتين 2002 و 2008. وأدرج عدد من رواياتها في برنامج الدراسة في الأستاذية Agrégation.

س: د. صليبا،في كتابك “من خبايا التراث اللبناني” تضع على الغلاف لوحة ملفتة تصّور امرأة تَضرب الدفّ، فأيّ دور للمرأة اللبنانية في الزجل؟

أشكرك على هذا السؤال، لا لأنه يسمح لي أن أسلّط ضوءاً على كتاب لي أحبّه، بل بالحري لأنه يتيح  أن أذكّر بشاعرة زجلية كان لها حضور بارز.

ولوحة الغلاف كانت مقصودة، وأردتُ أن أقول عبرها أن المرأة التي كانت محوراً للزجل هي أيضاً رمز لهذا النوع الأدبي الذي تميّز لبنان به واعتبرته الأونسكو جزءاً أساسياً من التراث الثقافي العالمي (قرار صادر في 27/11/2014). والمرأة حاضرة وفاعلة في الزجل. ففي هذا الكتاب أحكي عن شاعرة زجلية، شاعرة منبر هي حنينة ضاهر من قضاء جزين (1918-2008). وكم كان على المرأة أن تكون جريئة لتقف على المنبر لتساجل الرجال شعراً. لُقّبت حنينة ضاهر بِ”أميرة شاعرات الزجل”. وهي ليست شاعرة زجل وحسب، بل صحافية ومؤرخة للزجل. ففي مقالات عديدة لها في جريدة الأنوار، جُمعت بعدها في كتابها “الديوان” أرّخت للزجل وشعرائه. ودرست شعراء مغمورين مبدعين، وحفظت من الضياع الكثير من أشعارهم.

س: بما امتازت حنينة ضاهر، مقارنة بغيرها من فحول الشعر المنبري أمثال نخلة والشحرور وروكز؟

أصغي إليها تنشد:

مرحب يا عشّاق الحلا اشتقنا

                                يا شعر نحنا هلّق خلقنا

البخّور لو ما احترق ما طاب

                            يا حبّ هات الجمر واحرقنا.

لا أظنّ أن رجلاً كان بمقدوره أن يصوّر عاطفة كهذه بهذه الرقّة والجمالية والإحساس الذي يبلغ حدّ الحساسية.

س: هل هي ميزتها الأساسية؟ أم لها مساهمات أخرى؟

رفَعت حنينة ضاهر قضية المرأة على المنابر. وطالبت بصوت عالٍ بحقّها في الدراسة والعمل وكذلك في المشاركة في القرار السياسي في أن تقترع وتُنتخب. ومن قصائدها الشهيرة في هذا المجال: “أختكم أنصفوها”. وفيها تقول:

فتحوا بِ وجّها بواب الدراسي

                              بأسواق العمل مشّوا خُطاها

أطلقوها في ميادين السياسي

                            دعوها تجاهد وتاخد مداها

البلاد البدّها تنال الرياسي

                              ويحلّق على الجوزا لواها

بدّو يكون فيها العدل راسي

                           وتاخد حقّها الكامل نساها

بتضرب بالرقيّ الرقم القياسي

                            وبتمشي الدول كلّا وراها

س: ماذا عن الشعر الفصيح؟ أو الشعر باللغات الأجنبية؟

علينا أن نقرّ أنّنا لم ننجب شاعرة بالفصحى من عيار نازك الملائكة العراقية مثلاً. وهي رائدة الشعر الحديث.

ولكنّنا عوّضنا بالشعر الفرنسي. فللبنانيات حضور وازن في الشعر والأدب الفرنكوفوني عموماً. أكثرنا يعرف ناديا التويني (بيروت1935-1981). وأشعارها الفرنسية. وكانت لها مسرحية “فرمان” باللغة اللبنانية الدارجة، عرضت ضمن مهرجانات بعلبك الدولية 1970 وشارك فيها شوشو والمطربة مجدلى، وأخرجها روميو لحود، وعرفت نجاحاً ملحوظاً.

س: من غيرها برز في الكتابة بالفرنسية؟

 قليل منّا يعرف فينوس خوري غاتا (ولدت في بعبدا 1937). إنها الجمال شكلاً ونصّاً. فقد انتخبت ملكة جمال بيروت 1959. وهي شاعرة وروائية لبنانية تعيش في فرنسا، وتكتب بالفرنسية. حصدت حتى اليوم 12 جائزة، ووسامين من الرئيس الفرنسي، وأبرز الجوائز: جائزة الشاعر أبولينيير 1980، وجائزة الشاعر مالارميه 1987،  وجائزة جمعية أهل القلم/فرنسا 1992، جائزة الأكاديمية الفرنسية الكبرى في الشعر 2009، وجائزة ميشلو Michlot السويسرية العريقة في الشعر 2011، وتوّجت أخيراً هذه الجوائز بجائزة غونكور Goncourt، 2012، وهي أهمّ جائزة أدبية في فرنسا والدول الفرنكوفونية والتي سبق لمواطنها أمين معلوف أن نالها 1993. عرفتُ فينوس خوري في باريس.  ولفتتني أناقتها إمرأةً وروائيةً وشاعرة. إمرأة شرقية حتى العظم، تجهر بشرقيتها في زمن يسود فيه تيّار الأنثوية féminisme، تقول في روايتها الأخيرة “المرأة التي لم تعرف أن تحتفظ بالرجال”: «إمراة بلا رجل، بيت بلا سقف، ونافذة بلا مزلاج». ورغم إقامتها الطويلة في فرنسا، وزعم الفرنسيين أنها “شاعرة فرنسية”، تبقى لبنانية في الهوية والانتماء، وهي في ديوانها الأخير “كتاب التوسّلات” تحكي آلام المرأة اللبنانية في الحرب: نسوة فقدن أزواجهن أو أبنائهن في عبث الحرب، وضنّ القتلة عليهن بجثثهم فرُميت في الآبار، وعلى الأرصفة، أو في البحر. ولعلّ في هذا الجانب الشرقي-اللبناني يكمن سحر نص فينوس، وسرّ اهتمام القارئ الفرنسي به. إنها حقّاً وسام على صدر لبنان، وتستحقّ منا اهتماماً لم تلقه حتى الآن.

س: هل من كاتبات غيرها؟

لائحة الكتّاب والكاتبات اللبنانيين الفرنكوفونيين طويلة، لذا أكتفي بالتنويه بنتاج إفلين بسترس (بيروت 1878-1971). روائية ورائدة في الحوار المسيحي- الإسلامي، ولها كتاب في هذا الموضوع 1956.

س: حدّثنا عن المسرح: مساهمة المرأة اللبنانية فيه إلى أي مدى كانت فاعلة؟

التمثيل والإخراج ليسا جزءاً من موضوعنا. وهما يحتاجان إلى بحث مستقل. لذا نقتصر على الكتابة المسرحية. وليس للمرأة في هذا الجانب في الواقع مساهمة كبرى، أقلّه في الأزمنة الأولى وبدايات الحركة المسرحية في لبنان. في كتابه الموسوعي القيّم “المسرح اللبناني في القرن العشرين”، يخصّص المسرحيّ د. نبيل أبو مراد فصلاً للمرأة ودورها في الحركة المسرحية. ولا يجد ممّن كانت لهنّ مساهمة في الكتابة المسرحية سوى امرأتين: زينب فوّاز ولها مسرحية واحدة “الهدى والوفاء”، وحنّة خوري شاهين من بشمزّين/الكورة، ولها مسرحية بعنوان: “جزاء الفضيلة” طُبعت في المطبعة الأميركية في بيروت 1930.

س: كيف تقيّم إذاً المساهمة النسائية في المسرح، ولا سيما مساهمة هاتين الكاتبتين؟

إذا كانت هذه المساهمة محدودة، فذلك يعود إلى الظروف والتقاليد السائدة، والتي لم تكن تسمح للمرأة بمشاركة فعّالة في المسرح كتابةً وإخراجاً، ولا سيما تمثيلاً. والمسرح كلّ لا يتجزّأ. فلن تبرع المرأة وتتفوّق في الكتابة المسرحية إذا لم تكن قد شاركت في الأصل في التمثيل والإخراج. ولا يغربنّ عن بالنا هنا أن كبار المسرحيين العالميين أمثال شكسبير وموليير كانوا في الأصل ممثلين، أو عاملين في المسرح. المساهمة النسائية في المسرح في بداياته جاءت محدودة لأنه لم يتح للمرأة العمل فيه. ولكنّني أودّ أن أتوقّف قليلاً عند زينب فوّاز (تبنين/الجنوب 1846-1914)، ودورها الرائد.

س: رائدة في أيّ مجال؟

في مجالين أساسييّن: الرواية والدعوة إلى تحرير المرأة.

ككلّ مفكّري عصرها هاجرت زينب فوّاز إلى مصر حيث الحرّية الفكرية يومها. وهناك أصدرت روايتها “حسن العواقب” أو غادة الزاهرة” 1899. وفي كتابها “مئة عام من الرواية النسائية العربية” اعتبرتها د. بثينة شعبان الرواية العربية الأولى، فقد نُشرت قبل 15 سنة من نشر رواية “زينب” لحسين هيكل التي تُعتبر عادة الأولى. وتدور أحداث “حسن العواقب” في تبنين وبنت جبيل نحو عام 1862.

وقد سبقت زينب فوّاز قاسم أمين في الدعوة إلى تحرير المرأة ومشاركتها في العمل الاجتماعي والسياسي، فرسائلها الزينبيّة الداعية إلى ذلك نُشرت في الصحافة المصرية قبل سنة 1892، في حين لم ينشر قاسم أمين كتابه “تحرير المرأة” إلا في 1898. ومسرحيّتها “الهدى والوفاء” تندرج في هذا السياق الاجتماعي، إذ تتناول موضوع تدخّل الأهل في زواج بناتهم وأبنائهم.

س: ماذا عن المرأة والكتابة المسرحية راهناً؟

الوضع اليوم اختلف تماماً. فمذ شاركت المرأة في المسرح مشاركة فعلية توالت إسهاماتها فيه. ونجد اليوم ممثلات لبنانيات انتقلن إلى الكتابة المسرحية بعد نجاحهن في التمثيل. أذكر منهن رلى حمادة وعايدة صبرا وجمانة حدّاد.

س: د. صليبا، أسألك في الخلاصة أين حقّقت المرأة اللبنانية اختراقاً؟ وفي أية مجالات نافست الرجل في نتاجها؟

أكثر مجال حقّقت المرأة خرقاً فيه هو الرواية والقصة بلا ريب. ففيه نافست الرجل وكانت ندّاً له، بل تقدّمت أحياناً عليه. وتكفي أسماء إملي نصرالله وحنان الشيخ وهدى بركات دليلاً على ذلك.

ومن حسن حظّ المرأة اللبنانية أنها ركّزت على الرواية. فهي أكثر الأنواع الأدبية رواجاً في أيامنا. أما الشعر، فقد غدا، مع الأسف، بضاعة الكساد، ومثله المقالة الأدبية.

س: كيف تقيّم مساهمة المرأة اللبنانية في الأدب مقارنة مع سائر الدول العربية؟

المقايسة بالمطلق غير عادلة. فلا يصحّ مثلاً أن نقول إن في لبنان عشر روائيات، في حين أن في مصر ضعف هذا العدد. فهنا لا يجب أن يغرب عن بالنا عدد سكّان كل بلد. والمقارنة يجب أن تُجرى بالنسبة إلى عدد السكّان. عندها سيكون لبنان حتماً في طليعة الدول العربية، ومستقبل المرأة اللبنانية في الأدب وموقعها فيه واعدٌ بلا ريب.