عدنان برجي| مدير المركز الوطني للدراسات| لبنان
الطبقة الحاكمة: رهانات عقيمة متكررة وفشل متنامي في بناء الدولة .
عدنان برجي/ مدير المركز الوطني للدراسات/ لبنان
يستمر أغلب القادة السياسيّون في لبنان في لعبة الاستقواء بالخارج، وفي محاولات توظيف هذا الخارج خدمة لمصالحهم الفئوية والضيّقة، وحين يساعدهم هذا الخارج، حيث المساعدة لا تكون مجانيّة، فإنهم يهدرون فرص محاولة بناء دولة تستطيع مواجهة الحد الأدنى من العواصف التي تهب عند منعطفات المتغيّرات، وما أكثرها إقليميًا ودوليًا.
تلك كانت حالتهم، بعد استقلالهم عام 1943، فبدل ان يبادروا الى بناء دولة تحكمها المؤسسات ويسودها القانون وتعم العدالة بين أبنائها ، تمسك كل طرف منهم برهاناته الخارجيّة، وبامتيازاته الطائفية التي هي غطاء سميك للمصالح الخاصة، فكانت أحداث العام 1958، التي انتهت بوصول اللواء فؤاد شهاب الى سدّة الرئاسة، والذي حاول استثمار فترة الهدوء لوضع مداميك دولة المؤسسات والقانون، غير ان اصحاب المصالح الضيّقة كانوا أقوى منه، فما ان انتهت ولايته حتى بدأت مساميرهم تدق في نعش المؤسّسات الوليدة، حتى اذا ما انطلقت شرارة الحرب الأهلية عام 1975 فقدت هذه المؤسسات زخمها وقدرتها على تطوير ذاتها.
ويوم رسم اتفاق الطائف مخرجًا لإنهاء الحرب الأهليّة عام 1989، حاسمًا عروبة لبنان ونظامه الديمقراطي البرلماني، وواضعًا أسسًا لبناء دولة المؤسسات والقانون، ومحدّدًا سبلًا للإنماء المتوازن واللامركزية الإدارية، وراسمًا برنامجًا لقيام مجلس نيابي لا طائفي، ومجلس شيوخ طوائفي، وإصلاحات أخرى كثيرة ومهمة، تبارت الطبقة الحاكمة في تطويع هذا الاتفاق والالتفاف على نصوصه، فأخذت منه ما يخدم مصالحها ويؤبّد بقاءها ودفنت ما يخدم بناء الدولة التي ينشدها غالبية الّلبنانيّين.
هكذا ضاع من عمر لبنان والّلبنانيّين ستة عشر عامًا، بين العام 1989 و2005، دون اي تقدم في بناء المؤسّسات او تدعيم المؤسّسات المتهالكة أصلًا. بل راحت هذه الطبقة تُمعن في ضرب المؤسّسات الرقابية، فكانت النتيجة انهاء الإدارة العامّة المستقلة، وانشاء ادارة عامة تابعة، ومنقسمة، ومشتتة الولاءات،وضعيفة الأداء، وقليلة الأمكانيات، حتى ان الجامعة الوطنيّة والمدرسة الرسميّة ومجمل قطاعات التربية والتعليم والصحة والسكن لم تسلم من أياديهم” البيضاء”.
اما بعد العام 2005، فيمكن وصف حالة البلد وبكل ثقة انه ” سارحة والرب راعيها”. نعم ان الله يحمي لبنان ويرعاه، فعلى مدى ستة عشر عامًا، جرت مراهنات، ودُفعت أموال، ووُظّفت وسائل اعلام وامكانيّات، وعُمِّقت جروح، ونُبشت عصبيّات ، وتم تضليل اقسام لا بأس بها من المواطنين، واستُحضرت حصارات خارجيّة وداخليّة، وكلّها تهدف لإشعال فتن لا تبقي ولا تذر بين هذا المكوّن اللبناني وذاك، لكنها فشلت والحمد لله. انها رعاية ربانيّة، ووعي شعبي ، وأيمان راسخ من مختلف الّلبنانيّين بجوهر الرسالات السماويّة الخالدة، وان ظهر للعيان بعض عصبيات من هنا وبعض تطرّف من هناك.
اليوم ، وفي ظل الأزمة الخانقة سياسيًّا واقتصاديًا واجتماعيًّا، يحاول البعض تجديد مراهنات فاشلة. فاشلة لأكثر من سبب، فهي تتعارض وتوجّه غالبية اللبنانيّين، وفاشلة لأن الجهات الداعمة لها هي عاجزة عن تنفيذ وعودها ان صدقت بهذه الوعود ، وفاشلة لأن المتغيرات الدوليّة والإقليميّة واضحة وجليّة ولا تحتاج الى كبير عناء حتى يدرك المرء اتجاهات الرياح القادمة.
ان المراهنة الوحيدة اليوم التي يجب ان تحكم كل اللبنانيّين، هي بناء دولة المؤسّسات والقانون والعدالة والرعاية الاجتماعية. وذلك يبدأ من المجلس النيابي الذي يجب ان يحكم تكوينه القادم قانون انتخابي يُترجم ما جاء في الدستور وفق تعديلات اتفاق الطائف، فلبنان لا يحتمل، ولا يتحمّل، محاولات تغيير الدستور او تعديله، او العودة بالزمن خمسين سنة الى الوراء، ولا تنجح فيه دعوات الحياد لأن لا حياد تجاه العدو الصهيوني الغاشم الذي لا يزال يحتل جزءًا من ارضنا ولا يخفي طمعه بثرواتنا البحريّة والنهريّة والطبيعيّة.
فهل يسمع من هم في موقع القرار؟ أم ان بهم صمم مقيم ودائم ومتوارث، فيستمرون في “تناتش” حصص وزارية أصبحت مٌهلكة لمن يقوم بها؟.
ان المجلس النيابي أمام فرصة تصحيح أخطاء تاريخية وإعطاء أمل لأجيال تبحث عن الرحيل الدائم عن لبنان، فهل يبادر؟.
بيروت في 31/8/2021