الرقصة الأخيرة

منذ الطفولة وبومضات العيون من نظرات نوافذ وشرفات بيوت القرية المتلاصقة أحبا بعضهما ،ومن قال بأن الأطفال لا يقعون في الحب كالكبار ؟

مع ابن الجيران لعبت منذ الصغر .قفزت في جنائن الحبق والنعناع .ركضت في الحقول .قطفت الزهور وفرحت بزقزقة الطيور .سهرت معه وغنت تحت عرائش السطوح ونمت كوردة تفتحت على حب حبيب يرسم لها مشاعره بكلمات أغاني العشق والغرام على دفتر ملون بالقلوب والورود لا تزال تحتفظ به حتى الآن … وأحبته ،أحبته بصدق ونقاء ،ببرائة قلبها اليافع ،بنظرات عينيها اللوزيتين.

وفي سن المراهقة انتشرت موضة رقص السلو على إيقاع موسيقى أسطوانات ال٤٥ دائرة تخرج من داخل أغلفة عليها صور المغنين وتوضع على مدورة الإسطوانات (بيك أب) ،تنقل من غرفة إلى غرفة ومن بيت إلى بيت لتحيي حفلات رقص بين الأصدقاء .

في يقظة الأنوثة رقصت معه اول الرقصات .لامسها كالندى بلحن يشابه دقات القلب .بين أحضان حبه الدافئ أشعل شعرها الطويل بالقبلات .وفي ربيع الشوق وعناق الألحان اشتعلت آهات النغمات .كان جارها أحلى حبيب وخير صديق يفعل بقلبها ما يشاء .

كانت تشعر بالخجل عندما تسمع كلمات الغزل وكلما شد العناق وكأنه يريد تخبئتها في أعماقه ،كان يخبرها بأنها جميلة وبأنه يقع في حبها كلما رأها وبداخله حنين يهمس لها كلما راقصها وضمها إليه. فتغوص في بريق عينيه وتذوب في لمسة يديه .

ثم سافر لإكمال دراسته .أما هي ،فكانت تغفو وتصحو على أنغام الأسطوانات، على ذكرى الرقصات .تسافر إليه مع همس الكلمات .ترسم وجهه بريشة الألوان وتحلم بأنه يراقصها كل ليلة ولن يفلتها يوما من ضمة ذراعيه .

وعاد حاملا معه مغامرات سنة يتباهى بها بين الأصدقاء .كنسمة صيفية وبضحكة طفولية هرعت اليه بلهفة العناق وشغف اللقاء .تجاهل نظاراتها وتناسى حبه ولم يبال .راقص رفيقاتها وترك المدعوين يغازلون حبيبة الطفولة ويتغنون بمفاتنها…
بعينيها العاتبة تمنت بداخلها ان يتمسك بها لكنه لم يفعل .بلحظة خيب آمال من كانت تثق به وخان عهد الحب وصداقة الطفولة .

انتزع قلبها وهي تراقبه والتزمت الصمت رغم النيران التي اندلعت في صدرها .لم توجه له اي عتاب وفي الليل بكت كما لم تبك يوما وهي تسمع بداخلها صدى كلماته الكاذبة .ونام الأمل منهكا في أحضان ظلام الانكسار .

وبعد أيام غادر مع الحقائب المليئة بالنسيان حرا طليقا لا يقيده أي ارتباط بحب انطفئ بعد ما كان .

لم تستطع ان تغفر له ما فعل ولم يختف من أمام عينيها ما رأته .عادت إلى بيته يحتضنها حنين يئن ويصرخ .استقبلها أخ الحبيب بالترحاب وشغل أسطوانة زمان فرأت طيف الحبيب في المكان.

وفي أول خطوة على عتبة الخيانة ان اتيحت الفرصة مد أخوه يد الرقص .

لبت الطلب لتودع حلما دام منذ الطفولة وتلاشى في أول امتحان .مشاعرها كانت أقوى من الانتقام ،أقوى من الأخوة ولا أثم في الحب ولا خطيئة .أغمضت عيناها وعانقت شبح الحبيب غير ابهة بسواعد الراقص ونواياه الخفية .عانقت من كان بالأمس يرمي رأسه على عنقها ويستنشق عطرها وسافرت معه في عمق النجوم تسترجع أيام الطفولة مع الرقصة الأخيرة .
فرنسواز الهاشم