بِقَلَم: مُورِيس وَدِيع النَجَّار
تَعَلَّقَ بالكُتُبِ مُنذُ نُعُومَةِ أَظفارِه. تَستَرعِي انتِباهَهُ أَنَّى رَآها.
مِن سِنِّ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِن عُمرِه ابتَدَأَ بِاقتِنائِها، وكان، كُلَّما تَيَسَّرَت له دَراهِمُ فائِضَةٌ عن احتِياجاتِهِ، يَقصِدُ جَمْلُونَ، البَلدَةَ القَرِيبَةَ مِن قَريَتِهِ، حَيثُ تُوجَدُ مَكتَبَةٌ مُتَواضِعَةٌ يَشتَرِي مِنها الكُتُبَ الَّتي تَتَلاءَمُ مع حَجمِ مِيزانِيَّتِه. وحين يَتَوَفَّرُ له مَبلغٌ يَعتَبِرُهُ كَبِيرًا يَتَوَجَّهُ إِلى مَدِينَةِ طَرابُلُسَ، يَغمُرُهُ الفَرَحُ، فَيَعُودُ مِنها بِما يُتاحُ له مِن كُتُبٍ سَبَت تَفكِيرَه، سِندَبادًا يَحمِلُ كُنُوزَ الجُزُرِ البَعِيدَة…
وكان أَخُوهُ الَّذي يَكبُرُهُ بِسَنَواتٍ، كُلَّما يَمَّمَ المَدِينَةَ، يَسأَلُهُ عن شَيءٍ يُرِيدُهُ لِيَأتِيَهُ به، فما كان يَتَرَدَّدُ أَن يَطلُبَ كِتابًا لِجُبران خَلِيل جُبران، أَو أَيِّ أَديبٍ أَو شاعِر آخَر. وكانت هذه الكُتُبُ صَغِيرَةَ الحَجمِ، سَيِّئَةَ الطِّباعَةِ، رَخِيصَةَ الثَّمَن.
تَرَكَتِ القِراءَةُ في نَفسِهِ شَغَفًا بِالأَدَبِ والأُدباءِ، حَتَّى باتَ هؤُلاء مَثَلَهُ الأَعلَى، يَطرَبُ لِسَماعِ أَو قِراءَةِ أَيِّ شَيءٍ عَنهُم، أَو مِنهُم، مَهما دَقَّ أَو كان مِن أُمُورِ الحَياةِ اليَومِيَّة.
ولِفَرطِ تَأَثُّرِه بِالقِراءَاتِ المُختَلِفَةِ، راحَ يُقَلِّدُ أَربابَ القَلَمِ بِتَدبِيجِ إِنشائِيَّاتٍ مُفَخَّمَةِ الأَلفاظِ، أَو أَقاصِيصَ تَطغَى عليها السَّذاجَةُ والإِطنابُ اللُّغَوِيّ. وأَكسَبَهُ هَوَسُهُ بِالمُطالَعَةِ مُرُونَةً في التَّعاطِي مع اللُّغَةِ، وغِنًى بِالمُفرَداتِ، وخَيالًا لَطِيفًا، فَتَجاوَزَت مَهارَتُهُ عُمرَهُ الطَّرِيَّ بِأَشواطٍ، فَاستَحَقَّ الإِطراءَ المُتَكَرِّرَ مِن أَساتِذَتِهِ في اللُّغَةِ العربيَّة في الصُّفُوفِ الَّتي مَرَّ بها. حتَّى كان أَحَدُهُم يَدعُوه «جُبران المَدرَسَة»، فَيَختالُ ويُحِسُّ بِنَشوَةٍ عارِمَةٍ تَشُدُّهُ أَكثَرَ فَأَكثَرَ إِلى الكُتُبِ والقِراءَة.
ورُبَّما كان لِشَغَفِهِ هذا بَعضُ الأَثَرِ على فَقْدِهِ الكَثِيرَ مِن نَكهَةِ الطُّفُولَةِ، ولَذَّاتِ الصِّبا المُبَكِّرِ، ونَزَقَ الطَّيشِ، إِذ كانت قَلَّما تَستَهوِيهِ خُطَطٌ يَرسُمُها رِفاقُهُ، مِن رِحلَةٍ أَو اقتِناصِ فُرصَةٍ لِلهَرَبِ مِن ساعَةِ دِراسَةٍ، أَو إِضاعَةِ الوقتِ في تَسرِيَةٍ لا طائِلَ فيها، وغَيرِها مِن اهتِماماتِ الفُتُوَّةِ ومَشاغِلِها.
وكان إِذا أَعار كِتابًا لِسائِلٍ، مُرغَمًا، وتحت ضَغطِ الحَياءِ، يَظَلُّ يَتَقَلَّبُ على قَلَقٍ حَتَّى يَستَعِيدَهُ، خَشيَةَ أَن يَتَمَزَّقَ أَو يَضِيعَ. وحِينَ استِرجاعِه يَحتَفِي به، ويَفرَحُ لِرُؤيَتِه فَرَحَ الأَبِ الإِنجِيلِيِّ بِلِقاءِ ابنِهِ الضالّ*.
لقد كان إِيمانُهُ عَمِيقًا بما قاله الجَاحِظُ فِي مُجَلَّدِهِ الأَوَّلِ عَنِ «الحَيَوَان»: «أَلكِتَابُ هُوَ الجَلِيسُ الَّذِي لا يُطرِيكَ، وَالصَّدِيقُ الَّذِي لا يُغرِيكَ، وَالرَّفِيقُ الَّذِي لا يُمِلُّكَ، وَالمُستَمزِجُ الَّذِي لا يَستَزِيدُكَ، وَالجَارُ الَّذِي لا يَستَبطِنُكَ، وَالصَّاحِبُ الَّذِي لا يُرِيدُ استِخراجَ ما عِندكَ بِالمَلَقِ، وَلا يُعَامِلُكَ بِالمَكْرِ، وَلا يَخدَعُكَ بِالنِّفَاقِ، وَلا يَحتَالُ عَلَيكَ بِالكَذِب».
ويَومًا، وبَعدَ مُداهَنَةٍ وتَخجِيلٍ، أَعارَ قَرِيبًا له، يَكبُرُهُ بِسَنَواتٍ عَدِيدَةٍ، مَجمُوعَةَ كُتُبٍ لِأَدِيبٍ لُبنانِيٍّ مَشهُورٍ، كان يَحرِصُ عليها حِرصًا شَدِيدًا، هي الَّتي جَمَعَها كِتابًا كِتابًا، بِشَقِّ النَّفَسِ، والتَّقتِير. وتَأَخَّرَت إِعادَتُها إِلى كَنَفِهِ طَوِيلًا، فَراحَ يَسأَلُ قَرِيبَهُ عنها فَيُماطِلُهُ هذا بِأَعذارٍ واهِيَةٍ، حتَّى أَتَى يَومٌ صارَحَهُ هذا القَرِيبُ المُستَهتِرُ بِحَقِيقَةِ الأَمرِ قائِلًا: أَدفَعُ لَكَ ثَمَنَها كامِلًا. فَأَنكَرَ ذلك بِشِدَّةٍ، وأَصَرَّ على استِرجاعِ كُتُبِهِ، ولكنْ… تَبَيَّنَ أَنَّ المُستَعِيرَ الأَمِينَ قد أَهداها لِرَبِّ عَمَلِهِ في الشَّرِكَةِ الَّتي يَعمَلُ فيها.
وإِذ أَبدَى غَضَبَهُ لِخَسارَتِهِ كُتُبًا عَزِيزَةً عليه، استَنكَرَ صاحِبُهُ رَدَّةَ فِعلِهِ الشَّنعاءَ، وقال وهو يَنفَتِلُ مُنصَرِفًا: «لا تُؤاخِذْنا. غَدًا نُعَوِّضُكَ مِنها كُدْسًا مِن الأَوراقِ المَملُوءَة طَقَّ حَنَكٍ، فَلا تَحزَن»!
فَخَطَرَ بِبالِه، حِينَئِذٍ، ما رَواهُ عَمِيدُ الأَدَبِ العَرَبِيِّ طَهَ حُسَين فِي كِتَابِهِ «الأَيَّام»: «بَائِعُ الكُتُبِ أَوِ الكُتُبِيُّ كانَ يَسعَى إِلى الرِّيفِ مُمتَطِيًا حِمارَهُ، وحامِلًا كُتُبَهُ في صُندُوقٍ، حَتَّى عُرِفَ هذا النَّوعُ مِنَ الدَّوابِّ بِحَمِيرِ الكُتُبِ أَوِ الثَّقافَةِ، تَميِيزًا لها عن غَيرِها مِنَ الحَمِيرِ الَّتي تُستَخدَمُ لِأَغراضٍ أُخرَى».
وتَنَهَّدَ وقال في نَفسِهِ: كَم مِنْ حَمِيرِ كُتُبٍ بَينَنا، ولَيس لَها فَضِيلَةُ حَمِيرِكَ يا عَمِيدَنا الكَرِيم!
وتَأَلَّمَ كَثِيرًا حتَّى كادَ أَن يَكفُرَ بِالمُرُوءَةِ وأَفرادِ عائِلَتِها المَيامِين. وَوَقَعَ بَعدَها، في أَحَدِ المُؤَلَّفاتِ، على بَيتَي الشِّعرِ:
أَلَا يا مُستَعِيرَ الكُتْبِ دَعْنِي فَإِنَّ إِعَارَتِي لِلكُتْبِ عَارُ
فَمَحبُوبِي مِـنَ الدُّنيَا كِتَابٌ وَهَل يا صَاحِ مَحبُوبٌ يُعَارُ؟!
فَكانَت فَرحَتُهُ بِاللُّقيَةِ عَظِيمَةً، وأَحَسَّهُما بَرْدًا وسَلامًا على صَدرِهِ المَشبُوبِ، وتَمَنَّى لو كانت له جُرأَةُ مُواجَهَةِ أَيِّهِم يُرِيدُ استِعارَةَ كِتابٍ مِنه بِهِما، ولكنَّه كان خَجُولًا بِطَبعِهِ، يَصعُبُ عليه رَفْضُ أَيِّ طَلَب.
وكانت تَستَهوِيهِ الكُتُبُ القَدِيمَةُ الَّتي تَبدُو عليها بَصَماتُ الزَّمَنِ جَلِيَّةً في أَوراقِها وحِبرِها. وكم كانت غِبطَتُهُ كَبِيرَةً إِذ وَقَعَ يَومًا، لَدَى «بائِعِ رَصِيفٍ» في طَرابُلُسَ، على «قِصَّة عَنتَرَة بِن شَدَّاد فارِسِ بَنِي عَبْس»، تَألِيف يُوسُف بِن اسماعِيل، في كتابٍ كادَت تَبلَى أَوراقُهُ، ونَصَلَ لَونُ غِلافِهِ، وباتَت الصِّلَةُ بين أَجزائهِ واهِيَةً كَرابِطَةِ الغَمامِ الرَّقِيقِ تَعبَثُ به الرِّيحُ الصَّرْصَر. فَاشتَراهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ، وراحَ في المَنزِلِ يُعالِجُ أَوصالَهُ المُفَكَّكَةَ حتَّى تَأَمَّنَت له بعضُ اللُّحمَة. وقَرَأَ على باطِنِ غِلافِهِ الأَوَّلِ، بِلَفظِه: «هذا الكتاب يخص العبد الفقير فلان من قرية كذا من أخذه بنوع العيارة ولم يرده الرب الإله يحاسبه في الأخير. 22 كانون أول سنة 1916 ميلادية». وأَمَّا الأَوراقُ البِيضُ في آخِرِ الكِتابِ، مع باطِنِ الغِلافِ الأَخِيرِ، فقد حَمَلَت، بِخَطِّ يَدٍ، وبِالحِبرِ السَّائِلِ، ما عُنوانُه: «الملحمة الكبرى لِلتُّبُّعْ حسَّان اليماني»، وتَبدَأُ بِالبَيتَين:
«يقول التُّبّعي الملك اليماني لهيب النّار تشعل في فؤادي
أمير كليب يا فارس ربيعه يا حامي النِّسا يوم الطِّراد»،
وتَمتَدُّ على ما يُقارِبُ الخَمسَةَ وسَبعِينَ بَيتًا، وتَنتَهِي بِالآتِيَة:
«واسمع يا أمير كليب منِّي حقايق قصّتي وافهم مرادي
ولا تفرح على حالي وضعفي أجِرني يا ملك واطلق قيادي
واعلم يا أمير إنّي عتيقك مدى عمري إلى يوم الميعاد»
سُرَّ جِدًّا بهذا الكِتابِ، وتَشَمَّمَ في صَفَحاتِه عَبَقَ الجُدُودِ، ورَحَلَ بِالخَيالِ، وَراءَ الأَجفانِ المُغمَضَةِ، إِلى هاتِيكَ الأَيَّامِ حيث يَتَحَلَّقُ القَومُ، ويقرأُ أَحَدُهُم في سِيرَةِ البَطَلِ العَرَبِيِّ، فإِذا الحَماسُ على أَشُدِّهِ، والتَّأَوُّهاتُ حِينًا، والإِشادَةُ حِينًا آخَرَ، وكان الجَمْعُ يَرفُضُ التَّوَقُّفَ عن التِّلاوَةِ حتَّى يَومٍ آخَرَ إِذا كان عَنتَرَةُ في مَأْزِق.
إِنَّها الحِقَبُ الخَوالِي في رُبُوعِنا الهانِئَةِ، مع النَّاسِ الطَّيِّبِينَ ذَوِي المَشاغِلِ المَحدُودَةِ، والبالِ الخَلِيِّ، والأُلفَةِ الحَمِيمَة.
***
وتَمُرُّ الأَيَّامُ سريعًا، فَتَتَراكَمُ السَّنواتُ بِعُمرِه، وتَتَكَدَّسُ الكُتُبُ لا يَعرِفُ أَين يُؤْوِيها، فَيَضِيقُ بها المَنزِلُ، كما يَضِيقُ بها صَدرُ أُمِّهِ أَيضًا. وكان يَحلُمُ أَن يُصبِحَ له مَنزِلُه الخاصُّ لِيُنشِئَ مَكتَبَةً خَشَبِيَّةً ضَخمَةً تَعمُرُ بِكُتُبِه، لِيَأنَسَ بها مَعرُوضَةً، لا مُخَبَّأَةً تحت الأَسِرَّةِ وفي الزَّوايا، ويَتَسَنَّى له ارتِيادُها بِسهُولَةٍ ساعَةَ يَشاء.
وكَبِرَ، وتَزَوَّجَ، وأَنشَأَ عائِلَةً، واكتَرَى مَنزِلًا مُتَواضِعًا، وحالَت حالُ الدَّراهِمِ دُونَ تَحقيقِ حُلمِهِ الدَّائِم بِبِناءِ مَكتَبَةٍ كَبِيرَةٍ، فانتَقَلَ الضِّيقُ مِن تَمَدُّدِ الكُتُبِ في البَيتِ الصَّغِيرِ مِن الأُمِّ إِلى الزَّوجَةِ، أَمَّا هو فكان وَلَعُهُ بِشِرائِها يَزدادُ حِدَّةً، وبِخاصَّةٍ أَنَّهُ باتَ مَعرُوفًا في السَّاحةِ الأَدَبِيَّةِ، وله مُؤَلَّفاتٌ عَدِيدَةٌ في النَّثرِ والشِّعرِ والقِصَّةِ والرِّوايَةِ.
وتَتَفاقَمُ أَعدادُ كُتُبِهِ، وهو يَرفِدُها ما سَنَحَت فُرصَةٌ، فَتَقحَمُ أَركانَ المَنزِلِ كافَّةً، لا حُرمَةَ لِمَوضِعٍ، ولا تَحَرُّجَ مِن تَطَفُّلٍ على مَكان.
ووَقَعَت أَحداثٌ مُؤلِمَةٌ في بِلادِه وَسَمَها الكثيرُونَ حَربًا أَهلِيَّةً، فَأُجبِرَ على التَّنَقُّلِ مِن مكانٍ إِلى آخَرَ مِن حِينٍ إلى حِين، فَإِذا الوَضْعُ مُضْنٍ مع كُتُبٍ بِالمِئات، هُجُوماتُها كَرٌّ لا يَعرِفُ الفَرّ.
ورُبَّ مَرَّةٍ أَحَسَّ فيها بَعضَ التَّبَرُّمِ بِكَثرَتِها، فَجَحَدَ أُنسَها الدَّائِمَ وعِشْرَةَ العُمرِ الطَّوِيلِ، ولكِنَّه سُرعانَ ما يَعُودُ إِلى وَفائِهِ، ويَشعُرُ كَمَن اقتَرَفَ ذَنبًا، أَو خانَ حَبِيبًا وَفِيًّا.
وضاقَ المَنزِلُ حتَّى الاختِناقِ، وغَصَّت الزَّوايا، فَأَوصَى على مَكتَبَةٍ كَبِيرَةٍ رَخِيصَةٍ، حَدِيدِيَّةِ الأَضلاعِ، رَصَفَ على رُفُوفِها الغِلالَ الأَثِيرَةَ، وفَرِحَ بها غيرَ عابِئٍ بِضَعَةِ الهَيكَلِ الَّذِي يُؤْوِيها، قِياسًا بِالمَكتَباتِ الفَخمَةِ في الدُّوْرِ الثَّرِيَّةِ، حيث الكِتابُ أَداةٌ لِلزِّينَةِ فقط.
وأَتَى يَومٌ أَجبَرَتهُ الأَيَّامُ العَصِيبَةُ، ذاتَ فَورَةٍ مِن الحَربِ العَبَثِيَّةِ، على الانتِقالِ مِن مَكانِ سَكَنِهِ، فَاستَقدَمَ بِضعَةَ عُمَّالٍ وشاحِنَةَ نَقلٍ مُتَوَسِّطَةَ الحَجمِ تَعاهَدَ مع صاحِبِها، ابنِ بَلدَتِهِ، على نَقلِ أَثاثِ شِقَّتِهِ إِلى مَسكَنٍ جَدِيدٍ اكتَراه. وراحَ يُنجِزُ المَهَمَّةَ بالتَّعاوُنِ مع العُمَّالِ والسَّائِقِ، كُلٌّ تَلتَمِعُ جَبهَتُهُ بِالقَطَراتِ المُتَسَلِّلَةِ، وتَكتَوِي حَنجَرَتُهُ بِاللُّهاثِ المَحمُومِ، في ظِلِّ كابُوسِ الكَراتِينِ المَملُوءَةِ كُتُبًا، وزَوجَتُهُ تَتَأَفَّفُ وتَتَلَجلَجُ بِالكَلامِ المُرِّ، مُتَحاشِيَةً أَن يَبلُغَ أُذُنَ زَوجِها المَغلُوبِ على أَمرِهِ.
وتَناهَى إِليه صَوتٌ هامِسٌ لِزَوجَتِهِ مُخاطِبَةً السَّائِقَ: أَتَرَى يا أَبا حَمِيدٍ المُصِيبَةَ بهذه الكُتُبِ الرَّازِحَةِ علينا كالهَمِّ، في الحَلِّ وفي التَّرحال؟!
فَهَزَّ أَبُو حَمِيدٍ رَأسَهُ مِرارًا، وقالَ كَمَن يَنطِقُ بِحِكمَةٍ أَزَلِيَّةِ، يُؤاسِي بها مَفجُوعًا بِعَزِيز: «مَعِكْ حَقّ يا مَدام، شِي بِيغَطِّط عا القَلب، ضِيْعان المَصارِي. بَسّ اللِّي بِيعَوِّض هُوِّي إِنُّو الإستاذ آدَمِي»!
فَابتَسَمَ، حِينَئِذٍ، وأَسَرَّ إِلى ذاتِهِ المُكابِدَة: أَللَّهُمَّ اغفِرْ لِي سَيِّئاتِي، وبِخاصَّةٍ هذهِ الكُبرَى، أَنتَ السَّمِيعُ المُجِيب!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* «كانَ لِرَجُلٍ اِبنان. فقالَ أَصغَرُهُما لأَبيهِ: «يا أَبتِ، أَعْطِنِي النَّصِيبَ الَّذي يَعُودُ عَلَيَّ مِنَ المال». فقَسَمَ مالَهُ بينَهُما. وبَعدَ بِضعَةِ أَيَّامٍ جَمَعَ الابنُ الأَصغَرُ كُلَّ شَيءٍ له، وسافَرَ إِلى بَلَدٍ بَعِيدٍ، فَبَدَّدَ مالَهُ هُناكَ في عِيشَةِ التَّبذِير. فَلَمَّا أَنفَقَ كُلَّ شَيءٍ أَصابَتْ ذلك البَلَدَ مَجاعَةٌ شَدِيدَةٌ، فَأَخَذَ يَشكُو العَوَز. [وإِذ ضاقَت بِهِ سُبُلُ العَيشِ] مَضَى إِلى أَبِيهِ، [فَأَكرَمَهُ أَبُوه] وذَبَحَ لَهُ العِجْلِ المُسَمَّنَ» (إِنجِيل لُوقا 15: 11 – 32)