الخَيْبَةُ جَرَّاءَ الوَضْعِ الحُكُومِيِّ الرَّاهِنِ وَنَظْرةٌ فِي حَقِيقَةِ “الخَيْبَاتِ الوَطَنِيَّةِ” فِي لُبنان

الدكتور وجيه فانوس

(رئيس ندوة العمل الوطني) 

يؤكد المشهد الراهن للشأن السياسي في لبنان، تعاظم التنافر في البعد السياسي بين اللبنانيين، والطغيان التغييبي للبعد الوطني المفترض أن يكون جامعاً في ما بينهم؛ الأمر الذي أوصل كثيرا من اللبنانيين إلى عيش خيبة أمل وطنية كبرى. واقع الحال، إن في ما بدأ يشار إليه من شعور عارم بخيبة وطنية جراء ما تؤول إليه أوضاع الحكومة اللبنانية الحالية؛ والتي بدأ اللبنانيون يشهدون بدايات عصف لهيبها الإقليمي، ليست بالخيبة الوحيدة على الإطلاق؛ فاللبنانيون يعانون، ومنذ وقت طويل، من خيبات أمل وطنية عامة كثيرة، تستبد بعديد من شؤونهم وأحوالهم. تتجاوز القضية، تالياً، صوابية أي تصرف إفرادي يقوم به وزير ما أو مسؤول بعينه؛ لتقع ضمن خطأ مفهوم التعامل المنهجي مع السلطة الوطنية ومسؤولياتها. ومن هنا، فلا مندوحة، أمام أي بحث موضوعي، في شؤون الخيبة الوطنية الراهنة، من إن يسعى إلى نظر محدد في منهج حصولها.

    باشرت هذه الحكومة أعمالها، قبل أقل من شهرين؛ ولكن، بعد معاناة مآس وطنية مهلكة، استمرت إلى وقت تجاوز السنة. وها أن الواقع المعيش، يشير إلى فتور سقيم وبؤس ماكث، تعاينهما الحكومة، حتى في مجالات في الأوضاع الداخلية والمعيشية والأمنية والقضائية المتفاقمة. ومما زاد في الطين بلة، في اليومين المنصرمين، هذا التتويج المخجل والمستهجن، بالأزمة الدبلوماسية، التي لا نظير لها في تاريخ العلاقات بين لبنان ودول “مجلس التعاون الخليجي”. وهذا ما أدى إلى توسع رقعة مشهد العسر الحكومي؛ منتقلاً به، من كونه شأناً داخلياً، إلى أن يصبح شأنا له أبعاده الإقليمية الكبيرة والخطير، بل وشديدة الأذى. وثمة من يرى أن الأمر بات، برمته، في وضع يؤهله لينقلب إلى بقعة زيت عملاقة، ذات أبعاد دولية وأممية، قد يستحيل الحد من توسعاتها وانتشارها. 

    حقيقة الأمر، أن كل فريق سياسي، في هذا البلد، يجهد، عبر تنافس له مع الأفرقاء الآخرين، إلى تحقيق مكاسب سياسية خاصة به؛ وهذا ما يقود، بصورة عملية، إلى تغليب تعطيلي ماحق، لكل ما هو وطني. ويتأكد من هذا، أن انتصار السياسي، ليس سوى انتصارا لفريق على سواه؛ في حين أن الظفر الوطني، لا يكون إلا بما يجمع بين اللبنانيين ويعزز وحدتهم الوطنية. ولا يخفى على أحد، أن هذا الواقع المرهق والموجع والمنذر بمخاطر مرعبة، يقود اللبنانيين، وبجلاء لا لبس فيه، إلى معاناة خيبات وطنية شديدة البأس والبؤس في آن.     

ما من فريق سياسي في لبنان، مقتنع، فعلاً، بالنهج السياسي لأي فريق آخر سواه، وهذا حق سياسي مشروع؛ غير أن جميع هؤلاء الأفرقاء، ومن جهة أخرى، لا يتفقون في ما بينهم، على استحسان مشترك بينهم، لكثير مما قد يؤول إليه الوضع الوطني العام، وهم يشتركون، من ثم، في عيش الخيبة الوطنية، التي ما زالت ترخي بسدولها على الوطن من أقصاه إلى أقصاه. وإذا ما كان الوضع الوطني العام، من الناحية النظرية في علم السياسة، هو النتيجة القائمة جراء ممارسات أهل القرار في البلد؛ فثمة مشكلة، تكاد تكون كـأداء في لبنان، بين ما هو قرار سياسي، وما هو قرار وطني. يمكن، من هنا، الولوج إلى بحث في صعوبة التوفيق، عند اللبنانيين، بين خيبتهم الوطنية، على المستوى الشعبي برمَّته، ورضىاهم السياسي، على المستوى الفريقي. 

قد يكون من غير المستساغ، لدى كثيرين، التفكير في أن “خيبة الأمل”، من الحياة الوطنية العامة في لبنان، ليست سوى نتيجة التناقض الممكن بين ما هو تضارب بين سير الأمور، عبر الفاعلية السياسية، ومفهوم “الصالح الوطني العام”، كما تراه كل مجموعة أو فرد من اللبنانيين. يخرج “الصالح العام”، ههنا، من رحابه الوطنية، إلى نطاق الخصوصية السياسية. وجوهر هذا التفكير، أن كثيرين من اللبنانيين يواجهون صعوبة قصوى في فك ارتباط ما هو وطني عن ما هو سياسي في وجودهم. 

قد لا يتمكن معظم الناس في لبنان، كما حال آخرين في بلدان عديدة، من تقديم تحديد واضح وعملي لما يريدونه، أو يرتضونه، من الأمور التي تتطلب، بحكم كونها صالحا وطنيا عاما، مشاركة في أبعادها الاستراتيجية. وقد ينهض من يتساءل، بناء على هذا، إن كان لدى اللبنانيين، ولو تشارك استراتيجي، في حده الأدنى، في الرؤية إلى ما يمكن القول إنه التسيير الصحيح للشأن المالي الوطني، أو التطبيق العملي للوحدة الوطنية، ناهيك بالتصور الموضوعي للعلاقات مع الدول والمجتمعات الشقيقة منها والصديقة أو حتى تلك العدوة. 

إن مثل هذه المشاركة، ومن منطق علم الاجتماع السياسي، لا يمكن أن يتم إنجازها إلا من خلال مفهوم المواطنة الحقة وحدها؛ ومن دون ما أي إلحاق لفاعليَّة هذا المفهوم بلواصق طائفيَّة دينية وتوابع مذهبيَّة، أو حتَّى بتخصصات مناطقية أو جغرافية. لعل من أفضل ما يمكن أن يمثل هذا التوجه إلى المواطنة وحدها، ما ينشده اللبنانيون رسمياً منذ سنة 1927، في محافلهم الرسمية ومؤسساتهم الوطنية والتربوية، عبر مطلع نشيدهم الوطني، الذي يهتفون في بدايته “كلُّنا للوطن”؛ فهل تراهم كانوا طيلة هذه السنوات الأربعة والتسعين، مجرد منشدين، أم ثمَّة إدراك وطني بمفهوم المواطنة الحقَّة وحدها قد تحصل لدى وعيهم السياسي الوطني؟

ينهض الفيصل العملي، في كل هذا، عبر سؤال مفاده “هل لدى هؤلاء المحبطين والمترعين خيبة، أي إحساس حقيقي بالتصور الواقعي أو البناء العملي الملموس، الذي يتمنون أن يكون حالهم في بلدهم عليه؟ إن غالبية الناس، وإن كانت قادرة على الحديث بطلاقة، في مثل هذه الأمور و القضايا، فإن عديدا من أفرادها كما جماعاتها، ما انفك يواجه تشوشا معرفيا في الوصول إلى وضوح رؤيوي موضوعي حول الشأن المراد التبصر بمشاكله، وكذلك المحتمل من العقبات في مجالات تطور أحواله. ومن هنا، فهؤلاء يشعرون، حكما، بخيبة أمل، عندما يجدون أن وضع بلدهم وصل إلى ما هو عليه حاليا. 

من المفيد، التوقف مليا، في هذا المجال، عند إمكانية دلالة مقولة “الصالح الوطني العام”، بحكم عموميتها، على ما هو وطني. إن هذه المقولة، رغم شيوعها بين الناس، واحتلالها ما يشكل نقاط الارتكاز في معظم الأدبيات السياسية، تبقى موضوعاً خلافيا يصعب التوافق الفعلي على تحديده بين أهل السياسة. واقع الحال، لكل سياسي، أو مجموعة متضامنة فيما بينها من السياسيين، في لبنان، مفهوما خاصا لما يمكن التعارف عليه، فيما بينهم، بـ”الصالح الوطني العام”؛ وكأن الحال ههنا، خلط، استنسابي مصلحي مرعب مفهوميا، بين ما هو “وطني”، لا مندوحة من التوافق عليه بين جميع ناس الوطن، وما هو “سياسي”، ينحصر الاختلاف فيه، ضمن مفاهيم اجتهاد كل فريق في خدمة ما هو وطني وطرق تحقيقه. يقع، ههنا، مكمن مأساة السياسة، في لبنان؛ ومن هنا، تنمو بذرة أزمة خيبة الأمل الوطنية من الحياة السياسية العامة لدى المجتمع في لبنان. 

تتجسد الفاعلية التكوينية لـ”الخيبة الوطنية”، إذ ينظر إلى ما هو “سياسي”، على أنه “وطني”؛ فتصبح حقيقة ما هو “وطني”، واقعة تحت ضغط ما هو “سياسي”؛ ولعل ما يؤدي إلى هذا التعارض المأساوي، أن مفاهيم معظم الناس، في لبنان، عن الكيفية التي يجب أن تكون عليها المفاهيم والقضايا الوطنية، من جهة، وتلك السياسية، من جهة أخرى، غالبا ما تكون غامضة أو غير كاملة؛ فتصبح تاليا، مفاهيما غير قابلة للتماسك في ما بينها. يعود الأمر، برمته، إلى انحياز كثير من أهل السياسة إلى الجانب العملاني، أو التنفيذي المباشر، من فاعلية وجودهم؛ متغاضين، بذلك، عن أساسية التعمق في إدراك الجوهر الوطني للمفاهيم والقيم السياسية. تصبح السياسة، في هذا الحال من جموح سيطرتها، شأنا غير ذي صلة عملية بالرؤية الوطنية، ويتحول الشأن الوطني، ضمن هذا السياق، إلى أمر مجرد موضوع نظري، يستحسن الحديث فيه،ولكن من دون بذل أي جهد عملي في سبيل تحقيقه.

من الأساس التفريق، ههنا، بين من يتعاطى الشأن السياسي، من اللبنانيين، بعملانية مباشرة، عبر ما يمتلكه من سلطات تقريرية وتنفيذية، من جهة؛ وبين الأكاديميين والمنظرين السياسين وعلماء السياسة، من جهة أخرى. إن ما يجب أن يميز أصحاب المجموعة الثانية، هؤلاء، من “السياسيين العملانيين”، أن الأكاديميين والمنظرين السياسين وعلماء السياسة، يجدون أنفسهم، بحكم الانحصار الأساس لفاعليتهم في المجال التنظيري، في وضع أفضل نسبيا، وأكثر استعدادا، لصرف الوقت في التفكير في تصورهم للمثل الأعلى السياسي، كما يكونون، عادة، أكثر ميلا إلى القلق بشأن ضمان أن ما يرون فيه “الصالح الوطني العام”، سيكون أشد تماسكا وأقرب إلى الخلو من الزيغ؛ مما قد يأخذ به من يتعاطون الشأن السياسي، بعملانية مباشرة. ومع هذا، فإنه من ضرورات الموضوعية البحثية، تبيان أنه قد لا يكون من الواضح، حقا، أن أهل التنظير هؤلاء، هم أفضل حالا بكثير، في هذا المسعى، من سواهم. إن في ما يواجه، بعض المنظرين السياسيين، في لبنان، من مشاكل الغموض وعدم الاتساق ووهن الاكتمال في المجالات المعرفية أو المفهومية، التي قد تكتنف ما يشتغلون عليه من “المثل الأعلى السياسيّ”، لخير دليل على هذا التخبط والغموض؛ وما هذا سوى نتيجة حتميَّة للقيود المعرفية التنظيرية، التي لا مفر منها، والتي تواجه جميع البشر، خاصة في مجالات الأسئلة المعيارية التأسيسية المركبة.

إن الناس، فيما يرى إليه، عالم الاجتماع والخبير الاقتصادي والسياسي الألماني، ماكس وِبِرْ Max Weber، بحاجة إلى إدراك جلي بأن ما قد يقومون به، أو يسعون إلى تحقيقه، هو ضمن ما يسمى بـ”التوجه القيمي”؛ وهذا التوجه، في جوهره، هو توجه اجتهادي بطبيعته. ولذا، فإن كان قيامهم بهذا الشأن، سينهض على قيادة مشتركة يتقاسمونها، فإن عليهم، أساسا، أن يتبصروا أن طبيعة وجود هذا الاشتراك، فيما بينهم، لن تكون إلا على مبادئ ورؤى، ترتبط في ما بينها بمدى تعددهم، وتتباين مع بعضها وفاق أطوار تباينهم؛ إلى درجة قد يستحيل معها إيجاد تجانس بين ما فيها من مفارقات. وهذه المفارقات، بحد ذاتها، مصدر بروز المفاهيم غير المتوافقة والآراء المتفاوتة والاجتهادات، التي قد تصل جميعها إلى حد التعارض والتناقض الجذريين فيما بينها. 

لما كانت السياسة، في جوهر وجودها، توجه اجتهادي قيمي؛ فإن العمل من خلالها يفرض، على الناشطين في مجالاتها، ما يمكن الاصطلاح على أنه “أخلاق الاقتناع” (Ethics of Conviction)، وهذه الأخلاق ترتبط بالواقعية الموضوعية، في التعاطي مع شؤون القضية المعتمدة. ويشير ماكس وِبِر، في هذا المجال، أن على الناشط في سبيل قضية ما، ضمن البعد السياسي (القيمي) لها، التمسك بالالتزام العاطفي، بما يمليه عليه الإله أو الشيطان، الذي يلهمه هذه الـقضية (Sache) أو يرشده إليها. 

يمكن الاستخلاص، تالياَ، أن السياسة ميدان للتنافس؛ يناضل فيه الناس، فيما بينهم، وبصورة عملية مباشرة، تحقيقا لمثل لهم وقيم لذواتهم ولوجودهم. وإذا ما كان تعدد المثل السياسية والقيم المرتبطة بها، مجالا مفتوحاً للمنافسة، فإن السياسة ستتسم، آنئذ، وبكل فاعلية حية لها، بأنها مجال للصراع والخلاف والنضال. يتبين، تالياً، أن التأثير البنائي لهذا الأمر، لا يقتصر على تحديد معين لطبيعة السياسة؛ بل يوفر، كذلك، وبشكل أساس، تبيان السياق الذي تنشأ فيه الحاجة إلى فاعلية السياسة. يستفاد، تالياً، من دينامِيَّةِ هذا الصِّراع المستمر في السِّياسةِ، أنَّ انتصار أيِّ مجموعةٍ مِنَ القِيَمِ السِّياسيَّةِ، أو ما يمكن التَّعبيرُ عنهُ بـ”المَثَلِ الأَعلى السِّياسي”، سيكون بالضرورة مؤقتا؛ وفي هذا ما يؤكد، بصورة عملية جلية، أن “خيبة الأمل” ستكون أمرا طبيعيا وعاديا؛ بل لعلها تكون، كذلك، حتمية، في دورانِها بين المجموعات السياسية، المتنافسة، في ما بينها، أو تلك المتخاصم بعضها مع بعضها الآخر.

يمكن، الملاحظة، تالِياً، أن اجتماع التعدديات القيمية والمفهومية، يولد الحاجة إلى السياسة؛ وما النشاط السياسي، تاليا، سوى نتيجة عملية للتلاقي، المثير للجدل الحيوي، بين ناس هذه التعدديات؛ وبالتالي، فلن يكون النظر إلى أي قرار عام سيتخذ، في هذا الشأن، إلا أنه قرار غير مرض أو غير مرغوب فيه، من قبل ناس المجموعة الواحدة، أو المجموعات المتباية، التي لدى ناسها وجهات نظر مختلفة حول ما يجب القيام به. 

تتوضح الفاعلية الإيجابية، للتلاقي حول ما هو وطني، من خلال التأمل الموضوعي في الاستنتاجات التالي ورودها: 

إن العمل، من خلال السياسة، مجرد انتصار لفرد أو لجماعة على سواهم؛ وليس، بأي حال، انتصارا للكل.

لا يكون المرء، جراء نضالاته في دنيا السياسة، إلا على توفيق نسبي وغير كلي، بين ما يسعى إليه، تحقيقا لمثالية رؤياه، والمتحصل العملي، لهذا السعي.

يبقى النجاح، في سياق ما هو سياسي، محدودا ومجتزأ؛ إذا ما قيس بالنجاح ضمن سياق ما هو وطني، وربما متناقضا معه. 

يظل القول، ووفاقاً للمتابعة العملية، بقدرة المحصلات العامة للسياسة العملية، على إنجاز تحقيق فعلي وكامل للرؤية السياسة، خدمة للصالح الوطني العام، أو المثال الأعلى، من الأمور الواقعة خارج واقع المنطق التطبيقي.  

إن العاملين في الشان السياسي، مدعوون إلى متابعة صراعهم ونضالهم، فيما بينهم ومع الآخرين؛ آخذين، في كل اعتبار يرونه، أن متابعتهم هذه، ستكون، وكما يشير وِبِرْ، “عملا على الخشب الصلب”؛ غير أن جهودهم، هذه، وإن حازت بعض نجاح، في هذا الغرض، فمن المحتمل أنهم لن يقدروا، في نهاية المطاف، سوى على اقتراب شديد المحدودية، من الصالح الوطني العام أو المثل الأعلى، الذي يسعون إلى تحقيقه فعلا. 

صفوة القول، في مجال سعي اللبنانيين، ولو إلى بعض تخلص مما يعانونه بقسوة جراء خيبات أملهم السياسية المتلاحقة في هذه المرحلة الحرجة من وجودهم، أن يركزوا ما لديهم من قدرات عمل وطاقات فعل، على ما هو وطني جامع وموحد، قبل أن يجعل كل فريق منهم، الأولوية الأساس في رؤيته لما هو وطني، قائمة على القرار السياسي الذي اختار تحقيقه. 

********************************