الدكتور وجيه فانوس
(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)
قبل أن يتقلَّد سماحة الشَّيخ “سامي أبي المُنى”، مؤخَّرًا، مهام مشيخة عقل طائفة “الموحدين المسلمين الدُّروز”، فإنَّه أكَّاديميٌّ وعالِمُ دينٍ لُبنانيٍّ؛ وقد رأى في مؤلَّفه الأخير “رُؤيَةِ المُوَحِّدينَ الدُّروزِ”، أنَّ أبناء هذه الطائفة في لبنان، متمسِّكون بإسلامهم وعروبتهم ولبنانيَّتهم، بقدرِ ما هم متمسكون بهويَّتهم الثَّقافيَّة والدِّينيَّة”. ويؤكِّد، الشيخ أبي المنى، في هذا السَّياق،”أن مذهب “التَّوحيد”، بحدِّ ذاتهِ، رسالة سلام وعدالة؛ وذلك لما في هذا المذهب من الرُّوح المسيحيَّة؛ وما فيه، كذلك، من روح الإسلام. و”التَّوحيدُ”، كما يبينه سماحة الدكتور الشيخ أبي المنى، “معراج ارتقاءٍ بالعقلِ والمسلكِ”، فضلاً عن أنه “التزامُ الفريضة إلى مستوى الإنسانية المفعمة بروح الألوهة”. ولعلَّ في هذا التَّوجُّه، ما تنبني عليه، دعوة الشَّيخ “سامي أبي المُنى” الدَّائمة إلى أنَّ “التَّوحيد” يسعى، عبر ما هو محبَّة ورحمة، لا من خلال ما يكون كراهية وعدوان، إلى ما هو تلاقٍ وجمعٍ، وليس إلى ما هو فرقة وانفصال. وواقع الحال، فإن الشَّيخ أبي المُنى، طالما شدد في نشاطاته واهتماماته وخطبه، “على “الموحِّدين”، كما على سواهم من المجموعات اللُّبنانيَّة، ألا يكونوا رأس حربة في مواجهة أيٍّ من أخوانهم في الدَّاخل”.
لَئِنْ كان الدكتور الشَّيخ “سامي أبي المُنى” قد وضع، في هذا الزَّمن، سِفره الجليل، كِتاب “رُؤيَةِ المُوَحِّدينَ الدُّروزِ” في مَجالاتِ “الحِوارِ الإسلاميِّ المَسِيحيِّ في لُبنان”؛ فإنَّ في تَدَبُّرِ ما في هذا العمل، ما قد يُشيرُ إلى تَشَكُّلٍ بنائيٍّ أَساسٍ مِن مُقوِّماتِ الفِكرِ الوَطَنيِّ والبَحْثِ الأكَّاديميِّ معاً. إنَّ هذا “اللُّبنان”، الذي ما فتئَ ناسُهُ والآخرون معهم، يعيشون وجوده المعاصر، لَمْ يَسُدْ، بقوَّةٍ وعُمقِ فاعليَّةٍ، من وجُوهِهِ المُتَنَوِّعَةِ، السَّلبِيِّةِ مِنْها كما الإيجابيَّةِ، سوى وَجْهُ تَعَدُّدِهِ الدِّينيِّ، وكذلك وَجْهُ تَنَوُّعِهِ الثَّقافيِّ. وطبعاً، لا يُمكن لِأيِّ إِنْصافٍ، أنْ يَتَجَنَّبَ ههُنا، وخاصَّةً في المَرْحَلِةِ الرَّاهِنَةِ، ذِكْرَ وُجوهِ الهَلْهَلَةِ السِّياسيَّةِ ومَظاهِرَ الفَسادِ الإداريِّ، ناهيكَ بالتَّعثُّرِ الوَطَنِيِّ في الرُّؤيَةِ والرَّأيِ، مُروراً بالأَنانِيَّاتِ الشَّخصيَّةِ والأطماعِ الفَرْدِيَّةِ لِكَثيرينَ مِنْ أَهْلِ القُدرةِ على التَّسلُّطِ والسَّيطرة.
لعلَّهُ ثَبُتَ لِلُّبنانِيينَ جميعاً، وعَبْرَ العُقودِ الأربَعَةِ المُنْصَرِمَةِ، ومِنْ قَبْلِها عُقودٌ كَثيرةٌ مِنَ الزَّمنِ، لَيْسَ مجرد صُعوبةَ فَكَاكِ واحِدِهِم عَنِ الآخرِ، بَلْ اسْتِحالةَ هذا الفَكاك في ما بينهم. ولِذا، فمَنْ مِنَ اللُّبنانيينَ العُقلاءِ والوطَنِيينَ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ مُعْتَقَدِهِ الدِّينيِّ أو تَوَجُهِهِ السِّياسيِّ أو انْتِمائِهِ المَنَاطِقِيِّ، لا يُنادي بِجَوْهَرِيَّةِ الحِوارِ وضرورتِهِ في الحياةِ الاجتِماعيَّةِ والسِّياسِيَةِ بَيْنَ أَهلِهِ وناسِهِ؛ سَبيلاً أَساساً مِنْ سُبُلِ البَقاءِ، ومَنْهَجاً لا غِنى عَنْهُ لِلوُصولِ إِلى إيجابيَّاتِ العَيْشِ ونَتائجِها على المُسْتَوياتِ الوطنيَّةِ المُخْتَلِفَةِ.
ولعلَّه من المفيدِ، في هذا المقالِ، استخدامُ، ما يُسَمَّى في عالَمِ البحث البَلاغي المُعاصِرِ، بـ”عِلْمِ الدَّلالَةِ”؛ سَعْيَاً إِلى اسْتِقْراءِ حُضورِ الدكتور الشَّيخ “سامي أبي المُنى”، في خِضَمِّ ما وَسَمَ بِهِ كِتابَهُ هذا بـ”رؤية المُوَحِّدين الدُّوروز”. إنَّ للدكتور الشَّيخ “سامي أبي المُنى”، لَقَبانِ وإِسْم؛ وكما تُشيرُ دَلالاتُ الاسمِ، فَهُوَ من آلِ “أبي المُنى” الكِرامِ؛ وهؤلاءِ يَنْتَمونَ جَمِيعاً، كَابِراً عَنْ كابِرٍ، إِلى بَلْدَةِ “شانيه” في “جَبَلِ لُبنانَ”؛ ذاتِ السُّموِّ والرِّفْعَةِ، كَما يَدُلُّ اسمُها، والتي تَضم أهْلِها المُنْتَمينَ بِرُمَّتِهِم إِلى طائِفَةِ المُوَحِّدينَ الدُّروزِ الكَريمَة. و”شانَيْه”، في الوَقْتِ عَيْنِهِ، بَلْدَةٌ مُحاطَةٌ بِجِوارٍ مِنْ بَلْدَاتٍ وقُرى، جَميعُ سُكَّانِها مِنَ المَسيحيينَ؛ كما أنها بَلَدُ اصْطِيافٍ عَريقٍ في التَّاريخِ المُعاصِرِ لِلُبنانَ، بَلْ مَصْيَفٌ لِكثيرٍ مِنْ أَهْلِ بيروتَ طِيلَةَ عُقودٍ وعُقود. “شانيه”، إذاً، بَلْدَةٌ اخْتَبَرَت، بِصورَةٍ عَمَلِيَّةٍ، أَنَّ لا إِمْكَانِيَّةَ حَقيقيَّةَ إِيجابِيَّةَ لاكنمال فاعلية ِوُجودِها في لُبنان، إِلاَّ بِعَيْشٍ مُشْترَكٍ مَع الآخرِ؛ وَهُوَ عَيْشٌ خبرهُ ناسُها بِالفِعْلِ والممارسةِ، قَبْلَ أن يُعْرَفَ بالتَّنظيرِ؛ كما عاشوه، بِعَفَوِيَّةٍ وَوَعْيٍ، مع كلِّ ما هو آخر في لبنان ومنه. لقد أدركَ هؤلاء أن بلدتهم “شانيه”، لَمْ يَكُنْ لها أن تَكونَ كَما هِيَ، عَبْرَ التَّاريخِ وفي الحاضر، إِلاَّ إِذا ما عَاشَت على أُسُسِ الحِوارِ مَعَ الآخرِ، وعلى مَبادِئِ التَّلاقِي الإِيجَابِيِّ مَع سائر اللُّبنانيين.
إنَّ اللَّقبُ الأوَّلُ، مِمَّا يَحْمِلُهُ “سامي أبي المُنى”، من ألقاب، هو لَقَبُ “الشَّيْخ”؛ وهذا اللَّقبُ ليسَ لَهُ في مفاهيم الدَّلالةِ عِنْدَ اللُّبنانيينَ، إِلاَّ أَنْ يَكونَ حامِلُهُ مِنَ الإِقطاعِيينَ، أَو يَكونَ مِنْ عُلماءِ الدِّينِ. ولمَّا لَمْ تَثْبُتْ صِفَةُ “الإقطاعيِّ”، على الإِطلاقِ، على إِحْدى عائِلاتِ “شانيه”؛ فَقَد باتَ، مِنَ الجَلِيِّ، أَنَّ “الشَّيخ “سامي أبي المُنى”” هو أَحَدُ عُلَماءِ الدِّينِ في طَّائفَةِ اِلْمُوَحِّدينَ الدُّروز الكَريمَةِ. وإِذا ما كانَ مِنْ بَحْثٍ في دَلالاتِ اللَّقَبِ الآخر، لـ”“سامي أبي المُنى””، وَهُوَ لَقَبُ “الدكتور”؛ فاللَّقَبُ يَدُلُّ، عِنْدَ اللُّبنانِيينَ، عَلى أَنَّ حامِلَهُ “طَبيبٌ”، أَو يكونَ هذا الحامِلُ “فَقيهاً أكَّاديميَّاً”. ولا يُعْرَفُ، أَبَداً، أَنَّ ““سامي أبي المُنى”” مارَسَ الطُبَّ على الإطلاقِ؛ فَمِنَ المُؤَكَّدِ، تالِياً، أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ فُقهاءِ البَحْثِ الأكَّاديميِّ.
لِذا، واستناداُ إلى جَميعِ ما سَبَقَ مِنْ دَلالاتٍ، كانَ لا بُدَّ للدكتور الشَّيخ “سامي أبي المُنى”، وهو اليوم في سدة مشيخة عقل الطائفة،مِنْ أَنْ يتابع عيشه، في كيانه ووجدانه، بِنائيَّة في الاجْتِماعِ والعَقيدةِ والتَّاريخِ، سخر لَها حَياتَهُ وَعْيَاً لِجَوْهَرِ إِيجابِيَّاتِ التَّواصُلِ مَعَ الآخَرِ. تنهضُ أركانُ هذه البنائية على ما يمكن اعتباره ثلاثِ دوائرٍ أَساسٍ؛ أولها، دائرة ما يمكن تسميته بـ”دائرة طائفة الموحِّدين المسلمين الدُّروز”، وثانيها، ما يمكن التّعارف على أنه “دائرة الآخر، كلِّ آخر”، وثالثها، ما نصطلح على أنه “دائرة فَهْمِ الوطنيِّة في لبنان”. ويقود البِناءُ العضويُّ لهذه الدَّوائر، كما تظهر في كتاب الدكتور الشيخ سامي أبي المنى، “الحِوارِ الإسلاميِّ المَسِيحيِّ في لُبنان”، إلى فهم مجالات وعيه للعيش الوطنيِّ في لبنان؛ وفي هذا ما يفيد تَحقيقِ أركانٍ خمسةٍ تنهض عليها هذه البنائية الفكرية، وهذه الأركانُ هي:
النَّظر العميق في عرض أبرز ما يراه في رُوحِيَّةِ “المَسْلَكِ العِرْفانِيِّ” لِلْمُوَحِّدِينَ الدُّروزِ وشرحه وتحليله؛ مُعْتَمِداً هذا النَّظَرَ، بحدِّ ذاتهِ، مُفْتاحاً للدُّخولِ إِلى تارِيخِهِم الوَطَنيِّ والقَوْمِيِّ وتُراثِهِم الاجْتِماعيِّ؛ وكانَ الدكتور الشَّيخ في هذا عالِماً عَمَلِيَّاً في شُؤونِ العِرْفانِ، كما كانَ باحِثاً حَصِيفاً في دُنيا التَّاريخِ الاجْتِماعيِّ.
التَّحليل السِّياسيَ الاجتماعيَ؛ إذ سعى إلى غَوْصٍ معمَّقٍ في أَصْعَبِ تَعقيداتِ الفِكْرِ الاجتِماعيِّ، التي تَتَجلَّى في لبنان، عَبْرَ تَماهي الدِّينيِّ بالسِّياسيِّ، والوَطَنِيِّ بالطَّائِفِيِّ؛ فَبَرَزَ الدكتور الشَّيخ رَصينَ فِكْرٍ سِياسِيٍّ، وواسِعَ أُفُقِ رُؤَيَةٍ دِينِيَّةٍ، كَما تموضع، عَبْرَ هذا جَمِيعُهُ وبه، رائِداً مِنْ رُوَّادِ الفِكرِ الوَطَنِيِّ البَنَّاء في لبنان.
استخلاص حتميَّة قيام “الدَّولة المدنِيَّة”، أو “دولة المواطنة الجامعة”؛ إذ وجد في هذا الأمر بديلاً من أيِّ طرح آخر؛ وهنا يتعملَق الدكتور الشَّيخ، بجرأةً نادرة، بين من كثرة من علماء الدِّين في هذا المجال.
إزالةُ كثيرٍ مِنْ مَظاهِرِ الغُمُوضِ التي تُحيطُ، أَحياناً أَو عِنْدَ بعضِ النَّاسِ، تِجاهَ المُوَحِّدينَ الدُّروز؛ إذ عمل على تَبْديدٍ منطقيٍّ للنَّظْرَةِ السَّلْبِيَّةِ تِجاهَهُم؛ وَلَمْ يَكْتَفِ بِهذا، بَلْ سَعى، مَا أَمْكَنَهُ الجَهْدُ، مِنَ البَحْثِ في بَعْضِ المَفاهِيمِ الخاصَّةِ والسَّائِدَةِ بَيْنَ أَهْلِ الدِّيانَتَينِ الإسْلامِيَّةِ والمَسيحِيَّةِ عُمومَاً، وفي المُجْتَمَعِ اللُّبنانيِّ خُصوصاً؛ فَكانَ مُحاوِراً دِينِيَّاً وأَكادِيمِيَّاً مَوْضُوعِيَّاَ رَاقِياً في آن.
تقديم رُؤَيَةٍ نقديَّةٍ تاريخيَّةٍ لِما أسَّسهُ الحِوارٌ والفِكْرُ الحِواريُّ الانفتاحيين في لُبنان، وفي مُجتمَعِ المُوَحِّدين الدُّروز؛ فكانَ الدكتور الشَّيخ مُؤرِّخاً يُحْسِنُ صَوْنَ أَمانَةَ التَّاريخِ؛ ولَعلَّ مِنْ أَبْرَزِ ما أَشارَ إِليهِ، ههُنا، مَوْضوعُ غِيابِ الرُّؤيَةِ الحِواريَّةِ، على مُسْتَوى طائِفَةِ المُوَحِّدينَ الدُّروزِ؛ وإِن كانت في صَميمِ مُعْتَقَداتِهِم ومَسْلَكِهِم العِرْفانِيِّ.
هَنِيئاً لِطائِفَةِ المُوَحدين المسلمين الدُّروزِ، ولِلُبنانَ معها، وكذلك لِلفقه وما ينهض عليه من علوم، ارتقاء الدكتور الشيخ سامي أبي المنى، سدة مشيخة عقل الطائفة؛ وكلّ الأمل، أن يكون هذا الارتقاء، وخاصّة في هذه الأيام الخطيرة والمصيرية من وجود البلد وناسه، مِنَ اللَّبِناتِ الأساس لإيجابيَّاتِ التَّلاقي المِعطاءِ بَيْنَ اللُّبنانيين.
*********************************