الدكتور وجيه فانوس
(رئيس ندوة العمل الوطني)
لستُ في وارد تقديم أيّ تعليق عاطفيّ على دمعة معالي الدكتور إلياس سابا، التي انهمرت خلال لقاء تلفزيوني معه، ليل يوم الخميس، الثّاني من كانون الأوّل 2021؛ ومعاليه قد أصبح في التّسعين من سنوات عمره، أو لعلّه تجاوزها بقليل. دمعة هي، عندي، اختصار لقرابة قرن من عمر لبنان؛ وهي، كذلك، جماع مراحل عديدة متتالية، من المثابرة في كفاح أجيال من بنيه، لبنائه والعمل الجادّ والمسؤول على تعزيز وجوده؛ غير أنّها تصل، في هذا المطاف، إلى أن تكون دمعة أسف وقهر، بل صرخة وجع وحسرة عمر، إذ لم تعد لترى في لبنان، الذي نعيشه اليوم، سوى أشلاء جثّة.
ما عرفت معالي الدكتور إلياس سابا، إلاّ أنموذجًا فذًّا في مثابرته على تحقيق النّجاحات الذّاتية المشرّفة، والنّهوض بالمساعي الوطنيّة ذات الرّؤى الاقتصاديّة؛ وأن يكون، دومًا، المثال الرَّاقي في معاينته للشّأن العام في لبنان ومعاناته له، والعمل، تاليًا، على النّهوض الدّائم به.
كان لي بداية، أن أزهو بزمالة دراسة، ولو غير مباشرة، أسعى إلى احتذاء لها، مع معالي الدكتور إلياس سابا، يوم كنت أعمل على تحضير الدكتوراه، سنة 1974، في جامعة أكسفورد؛ وهي عين الجامعة التي سبق لمعاليه أن تخرَّج فيها، قبل عقد من زمن. وكان لي، بعيد سنوات من تخرّجي في أكسفورد، أن أَشْرُفَ بتعاون مباشر مع معاليه، عبر عضويّتي في “ندوة العمل الوطني”، التي كانت رئاستها معقودة لدولة الرّئيس الدكتور سليم الحص، وكان معالي الدكتور سابا، نائباً لرئيس النَّدوة، وكنت فيها مسؤولاً عن نشاطات اللّجنة التّربويَّة.
كانت هذه المرحلة تحفل باضطرابات الاقتتال الدّامي، الذي عصف بحياة اللّبنانيين، على اختلاف توجهاتهم ومناطقهم؛ وكان الاقتصاد الوطنيّ، يتأرجح بين صعوبة وأخرى أشدّ منها، كما كان النّقد اللّبناني، واحتياطيّه الذَهبيّ، في تقلّب مهاو ومصالح ومخاطر بهلوانيّة، لا يكاد يدرك كنهها، سوى ندرة من قوم خبروا الاقتصاد ويعيشون السّياسة في آن، وكان معالي الدكتور سابا من بينهم. ولكم أنارت آرؤه، مع دولة الرَّئيس الحص، ورؤاهما، مساحات واسعة من عمل “ندوة العمل الوطني”، وأرشدت تطلّعاتنا الوطنيّة من خلال هذا العمل. وكان لي، كذلك، أن أدرك من معالي الدكتور سابا، في تلك المرحلة، أنّ مشاركته في “الندوة”، ليست لتقتصر أبداً على نقاش فكريٍّ أو مجرد عرض لرؤية اقتصاديّة وطنيّة؛ بل لا بدّ من أن يرافق كلّ هذا، طموح فاعل للإمساك بمقاليد السّلطة، سعيًا، إلى تحقيق تلك الأفكار وما يحيط بها من رؤى. وكان، تالياً، أن نظَّمتُ، باسم “النّدوة” وقتئذٍ، مؤتمرًا تربويَّا حاشدًا، أقيم في رحاب “نادي خرّيجي الجامعة الأميركيَّة في بيروت”؛ شارك فيه معالي الدكتور إلياس سابا، بصورة فاعلة؛ وكانت مشاركته هذه من المجالات الأساس التي أتاحت لي التّعرّف المباشر والعمليّ، على كثير من مسالك منهج تفكيره العلميّ وآفاق رؤيته الوطنيَة وبعض ما قد تعتمده خطواته السّياسيّة.
لطالما شغل تفكيري أنّ الدكتور إلياس سابا لا يركن، على الإطلاق، إلى ما هو مجرّد تنظير أو إبداء رأي؛ إذ هو إنسان ينطلق من رؤية عمليّة، يضعها أمام بصيرته؛ ويعمل من ثمّ، على تحضير ما يلزم في هذا المجال من تنظير ورأي ورؤيا، تحقيقاً لهذه الرّؤية العمليَّة. وعمل الدكتور إلياس سابا في سبيل رؤية علميّة عمليّة له، إلى بناء لبنان وتعزيز كيانه ونشر رسالة وجوده؛ بعيدّا عن الارتجال وبريئًا من مسايرة ما اعتاد عليه كثير من المسؤولين في مجالات المراعاة الذاتيّة والاستنتسابيّة الظّرفيّة. وثمّة أنموذج بسيط على هذا التّوجُه، يشهد لمعالي الدكتور إلياس سابا، يبرز من خلال ما قام به إبّان تولّيه مهامه الوزاريّة، أكان ذلك بين سنتي 1970-1972، في حكومة دولة الرّئيس صائب سلام، وكذلك في سنتي 2004-2005، خلال مشاركته في حكومة دولة الرّئيس عمر كرامي.
آمن، الدكتور إلياس سابا، بضرورة الالتزام الفعليّ بسياسة اقتصاديّة واضحة المعالم؛ فكان له أن يصدر ما عرف بـ”المرسوم 1943″، وقد نظّر فيه لرؤياه الاقتصاديّة الوطنيّة، وبيّن خطوات تطبيقه لهذه الرّؤية، بكل ما فيها من دقة موضوعيّة. وكان أن ثارت ثائرة كثيرين من أهل السّلطة، الذين رأوا في “المرسوم” افتئاتاً على كثير من مجالات نفوذهم في الاستنساب الذَاتيّ ومراعاة الظَّرف الآني ومسايرة الواقع الخاص؛ وكان لهؤلاء، أن يساعدوا على إثارة نقمة شعبيّة انفعاليّة؛ ولم تكن النتيجة لتقتصر، آنئذٍ، على مجرد رفض للمرسوم 1943، بل كان لهذه النتيجة أن ترسّخ غلبة الاستنساب الذاتي ومراعاة الظّرف الآنيّ ومسايرة الواقع الخاصّ، على كل ما هو رأيّ موضوعيّ وما هو رؤية عمليّة إنقاذيّة؛ بل كل ما هو تطلّع وطنيّ يشمل اللّبنانيًين بكليّتهم.
تؤسّس تجربة “المرسوم 1943″، لإلياس سابا، لما يمكنني اعتباره تجربة لخيبة العلم، بموضوعيته ورؤيته، ولفشل تحالفه مع الرّؤية الوطنيّة؛ على حساب سيطرة مكاسب المصلحة السّياسيّة الآنيّة، بكل ما تنهض عليه من رؤى ذاتيّة ومحدوديّة ظرفيّة. ولقد كان لمنهج هذه التّجربة، عبر “المرسوم 1943″، أن ينفلش برعونة عاهرة، على كثير من مناحي الفاعلية السياسية في لبنان، وهي الفاعليّة التي زرعت في الوجود الوطني خناجر غباء أنانيّتها، وشكَّت فيه رماح صغائرها وارتهاناتها العميلة؛ ولفّت، تاليًا، حول رقبة الوطن، الذي طالما أشرأبّت أعناق بنيه، إلى طموحات النّهضة والعزّة والتفوّق، حبّال الفساد الإداريّ وكثبان الرّمال المتحرّكة للإفلاس المالي والانهيار الاجتماعي المصحوب بالقتل والتدمير والبؤس الثقافي المرافق للجهل المعرفي والتّخبّط التّربوي والإملاق القيمي الإخلاقيّ، مع ازدياد للهجرة بين أهل الكفايات من أصحاب العلوم والخبرات، وتعاظم للنّزوح بين السّكّان عن طريق برٍّ مقفرٍ وبحرٍ غادرٍ وانتحارٍ مخزٍ.
هل لذي بصيرة وبصر، أن يفاجأ بدمعة تنهمر أمام الملأ، من هذا التّسعيني الفذّ؛ أسفًا منه ولوعة على وطنه لبنان؛ كما تنهمر هذه الدّمعة عينها، في خفاء أو جهر، من عيون أجيال من اللّبنانيين البررة المخلصين، الذين كرّسوا وجودهم لنهضة لبنان وعزّته ورفعته وكرامته والحفاظ على خيراته وتنمية قدراته، مثال ما فعل معالي الدكتور إلياس سابا؟!!
لا عجب، البتّة، يا معالي الدكتور إلياس سابا، من دمعتك البارَة تشرق على الملأ بكرامة نضالك الوطني وعزّة بذلك المعرفيّ. إنّها وإن كانت دمعة الوجع الحقيقيّ، لنضالات أجيال من الوطنيّين المخلصين؛ فهي ، كذلك، المخرز الذي سيعمي بها ناس الوطنيّة الحقّة في لبنان، بصدق مواطنيّتهم وعمق وعيهم لقيمها ومفاهيمها، عيون كلّ أهل الوقاحة والصّفاقة والخيانة والعبثيّة والآنيّة والاستغلال الحقير المخزي، من الذين ما برحوا اليوم يقهقهون جذلى وسكارى، على حساب وجود الوطن وناسه.
3/12/2021