ذكريات المدرسة-فرير جبيل والأخ فرنسوا جوزف

بقلم لويس صليبا

الأخ فرنسوا-جوزف مرسيل بيلّيري (1914-1980) Frère François-Joseph Marcel Billery شخصية تربوية وروحيّة يصعب للمرء أن ينساها إن التقاها يوماً ما. فبسمته الوديعة ونظرته المُحبّة السلامية والتي تعكس ما في نفسه من سلامٍ داخلي تبقى محفورة في الوجدان. فإذا كان تأثير نظرةٍ منه بهذا العمق، فما القول لو نشأ المرء وتربّى على يدَيه ردحاً من الزمن، لا سيما في الصغر وزمن الصبا. فالعلم في الصغر كالنقشِ في الحجر، يقول المثل العربي. وكان الأخ فرنسوا-جوزف نحّاتاً بارعاً أحسن “نقش” فضائل وعاداتٍ حميدة في نفوس تلامذته، لذا فهو يذكر دائماً بالخير مقروناً بالدعاء والترحّم.
سبق لي أن تحدّثتُ عن هذا الراهب البارّ فرنسوا-جوزف( ). وعساني اليوم أفيه بعض ما له عليّ وعلى سائر أترابي وأصحابي من دَين. وذلك فضلاً عن أن استحضار ذكراه في البال، وصورته في المخيّلة، عملٌ هو بحدّ ذاته فأل حسن ويجلب البركة.
تولّى الأخ فرنسوا-جوزف رئاسة وإدارة مدرسة فرير جبيل التابعة للإخوة المريميين Frères Maristes ما بين 1970 و 1976، وكانت المدرسة تعاني يومها من مشاكل مادّية ومالية سبّبها سوء إدارة سابقة، فأحسن قيادة السفينة نحو برّ الأمان، ومع اندلاع الحرب اللبنانية وفي ما سمّي حرب السنتين 1975-1976 حافظ على مسارٍ دراسي رصين ومنتظم بعيداً عن التجاذبات السياسية وغيرها. وهو حُسن إدارةٍ يُشهد له به.
وكان الأخ فرنسوا جوزف François-Joseph راهباً تقيّاً ورعاً مواظباً على الصلوات والممارسات الروحية ولا سيّما منها القدّاسات. وكنتُ غالباً ما أقضي يوم الأحد قبل الظهر بصحبته. أما البرنامج فروتيني معروف ويتكرّرُ كلّ أحد. أصِلُ صباحاً عند السابعة إلى كنيسة مدرسة الفرير للمشاركة في القدّاس، وعند نهايته أنطلق مع الأخ الرئيس فرنسوا-جوزف نحو كنيسة مار يوحنا مرقس، كنا نجتازُ المسافة سيراً على الأقدام، ونُمضي الوقت في صلاة مسبحة الوردية. وعندما نصل إلى الكنيسة نبدأ بحضور سلسلة متوالية من القدّاسات:
الثامنة، التاسعة، العاشرة والحادية عشرة، وعندما ينتهي القدّاس الأخير نحو الظهر نقفل عائدين من حيث أتينا، وبالطريقة عينها: سيراً على الأقدام مصلّين ومردّدين مسبحة الوردية. لم يكن الأخ فرنسوا يرضَى أن نتحدّث أو نقطع الصلاة حتى بكلام روحي، فالوقت مكرّس لتلاوة المسبحة ليس إلاّ.
محاولات يائسة لحصر الذهن في الصلاة
وعن هذا الراهب البارّ أخذت عادة تلاوة المسبحة يومياً. والتزمت بذلك لسنوات، ولكنني واجهت مشكلة في ممارستي لهذه الصلاة اللفظية: غالباً ما كان الذهن يشتّ أثناء التلاوة. فلا أعرف كيف أحصر فكري في ما أتلو وأردّد.
وتعلّمت كذلك من هذا الراهب البارّ الأخ فرنسوا-جوزف أموراً لا أزال ألتزم بها إلى اليوم. لم يكن يحدّثني في مشاويرنا الأحدية كما أسلفت، ولكنه كان يعطينا دروساً، ونحن في الصفّ الثالث تكميلي 4ème1975-1976، وكان يسمّيها Cours de Formation دروس تنشئة. لم يكن يرضى أن تكون هذه الدروس ساعة تعليم ديني Cathéchisme كما كان يفعل سائر الأساتذة المولجين بتعليم هذه المادّة من رهبانٍ وكهنة، بل كان يقول ويكرّر على مسامعنا أن هدفه الأوّل من هذه الدروس ليس تنشئتنا على عقيدةٍ وانتماء، بل بالأحرى على أدب حياةٍ وفن عيشٍ Art de vivre صحّي وسليم من شأنه أن يرافقنا مدى الحياة، ويقينا بالتالي الكثير من الأمراض والمشاكل الصحّية والنفسية. لذا كانت دروسه تجمع تلامذه الصفّ بأسرهم مسيحيين ومسلمين لا فرق.
ومن نصائحه وتعاليمه رسخ في ممارستي وأدب حياتي أمور ثلاثة:
1– الامتناع عن التدخين: فبنتيجة تنشئته الصارمة لم أقع بتاتاً في تجربة هذه العادة السيئة. كان الأخ فرنسوا-جوزف لا يتعب من أن يكرّر على مسامعنا آفات هذه العادة الضارّة. ونجح في أن يحفر في نفسي كراهية واشمئزازاً منها لمّا يزل يرافقني حتى اليوم.
2– الامتناع عن معاقرة الخمرة والكحول. ومن المستغرب فعلاً أن يصدر عن راهبٍ فرنسي هذا التحذير الصارم من الخمرة والكحول عامّة. فالفرنسيّون مشهورين كانوا ولا يزالون، بتصنيع الخمر ومعاقرته. ورهبانهم من كبار مصنّعيه. أما الأخ فرنسوا-جوزف فكان يحذّرنا باستمرار من أضرار المشروبات الروحية وتأثيراتها السلبية على الصحّة الجسدية والنفسية.
3– الامتناع عن ألعاب الميسر واليانصيب وغيرها، وكان لا يكفّ عن التحذير من مضارّها.
وإني لا أزال إلى اليوم مديناً إلى الأخ الرئيس فرنسوا-جوزف بهذه التنشئة الصارمة، وتجنّب هذه الموبقات. وباختصار كان هذا الراهب البارّ مثالاً حيّاً لنموذج في القداسة بحثتُ عنه منذ الصِغر وسعيتُ إليه.
وكان هذا الأخ العالِم سابقاً لزمنه في النصائح الطبّية الطبيعية، معتمداً في ذلك على حدسه الصحّي السليم، وعلى معارفه الطبّية الطبيعية. كان مثلاً يشجّعنا على أكل الثوم، معدّداً خصائصه الصحّية الإيجابية. وهي دعوته الوحيدة التي لم تلقَ في نفسي يومها أذناً صاغية. وليتني سمعتُ منه النصيحة مذّاك، وتخطّيتُ حاجز رائحة الفم المزعجة التي يسبّبها الثوم. فمقابل هذا الأثر الجانبي البسيط هناك العشرات من الفوائد الصحّية الأكيدة. ويوم نُصحتُ باستخدام الثوم وقايةً وبديلاً عن العقاقير في آن تذكّرتُ أرشادات الأخ فرنسوا-جوزف. وها هي الأبحاث الطبّية الحديثة تؤكّد ما كان يكرّره على مسامعنا منذ نحو نصف قرن. إذ تشير هذه البحوث إلى أنّه: “في جميع أنحاء العالم يربط ما بين أكل الثوم، وانخفاض الإصابات بأمراض القلب، وقد بيّنت دراسة أجراها باحثون من جامعة وسترن أونتاريو على النظام الغذائي في 15 بلداً أن الشعوب التي تستهلك كمّياتٍ أكبر من الثوم تقلّ فيها معدّلات الإصابة بأمراض القلب”( )
وممّا أكّدته البحوث الطبّية الحديثة أن أهمّ ما في الثوم: “قدرته المضاّدة للأكسدة التي تمنع الجذور الحرة من أكسدة الكولسترول الضارّ، فتشلّ بالتالي قدرة هذا الأخير على سدّ الشرايين” (كاربر، م. س، ص302). وأثبتت هذه البحوث أيضاً أن الثوم يخفّض ضغط الدم المرتفع، ويحارب الجلطات الدموية، ويحول دون التصاق صفائح الدم بعضها ببعض أو بجدران الشرايين، وهي الخطوة الأولى نحو انسداد الشرايين” (كاربر، م. س، ص303)
ويؤكّد البروفسور جيل فيّون من معهد باستور الفرنسي أن الثوم هو دواء Prozac المهدّئ الشهير الذي يباع في السوبرماركات لا في الصيدليّات. ويضيف: “إن للثوم مفعولاً مضادّاً للضغط النفسي وللقلق المرضي، وهو يعمل أحياناً كمضادّ للكآبة تماماً كدواء Prozac الشهير، إنّما بتأثير ألطف” (كاربر، م. س، ص304).
وقد وجد د. فيّون أن الثوم يؤثّر على إفراز مادّة السيروتونين Serotonin الكيميائية في الدماغ ، علماً أن السيروتونين يشترك في ضبط المزاج ومجموعة كبيرة من السلوكيّات، بما في ذلك القلق المرضي، الكآبة، الألم، العدائية، الضغط النفسي، والنوم والذاكرة” (كاربر، م. س، ص304).
رحمك الله يا أخ فرنسوا-جوزف كم كنتَ بمعرفتك وحسّك السليم تدعو إلى عاداتٍ صحّيةٍ ونفسية حميدة.
وفي الصفّ الرابع تكميلي 3ème تولّى الأخ فرنسوا-جوزف تعليمنا اللغة الفرنسية. وكانت له طريقته التربوية الأصيلة والخاصّة في تعليم الفرنسية. فلم يكن، كسائر الأساتذة، يقسم ساعات تعليم هذه اللغة الأسبوعية بين قراءة وقواعد وإملاء وإنشاء وغير ذلك من موادّ. بل كان يأخذ كلّ مادّة على حدة كالإملاء مثلاً ويخصّص لها كل ساعات الأسبوع العائدة للغة الفرنسية (سبع ساعات)، ولا يبرحها حتى يُنهي كامل برنامج السنة في الإملاء، وعندها ينتقل إلى مادّة أخرى كالقواعد، وهكذا يحصر تعليمه في مادّة واحدة حتى ينهي برنامجها السنوي لينتقل إلى أخرى. ولهذه الطريقة البيداغوجية، والتي لم أعرف خلال مدّة دراستي الطويلة أستاذاً يعتمدها، ميّزاتها، إذ تتيح للتلميذ التركيز على المادّة، وفهمها، وسبر نقاط ضعفه فيها ومعالجتها.
وإلى ميزته هذه كان الأخ فرنسوا-جوزف أستاذاً ومديراً منفتحاً، يعتمد الطرق التربوية الأكثر حداثة: فكان يستخدم الأفلام السينمائية التي يشرف على اختيارها جزءاً من الطريقة التربوية العامّة المتّبعة في المدرسة. وكان الفيلم يُعرض مرّة في الأسبوع في قاعة مسرح المدرسة Amphithéatre التي أشرف، منذ تولّيه مسؤولية الإدارة، على صيانتها وترميمها وإعادة تجهيزها. وكثيراً ما كان يخصّص ساعة لمناقشة الفيلم في الصفّ. فلم تكن السينما عنده مجرّد وقت يمضيه التلامذة في التسلية والترفيه، بل جزءاً من العملية التربوية العامّة، ووسيلة لترسيخ الكثير من المعارف. وهذا ما لم يسبقه إليه أحدٌ من المربّين ممّن عرفت. وغالباً ما تبقى الأفلام ومواضيعها راسخة في أذهان التلامذة في حين أن الدروس التقليدية يطويها النسيان. ولم يكن هذا الراهب التقيّ متزمّتاً في اختيار الأفلام، وما كان لمقصّ الرقابة عنده من دورٍ ولا من موقع! وكان يناقش معنا الأفلام بما فيها أحياناً من مشاهد مثيرة بروحٍ تربويّة منفتحة ومتفهّمة، ومبدأه العام أن التربية الجنسية السليمة ليست بالكبت والتحريم والمحرّم كما كان سائداً في أيّامه، بل بالفهم والتفهّم والتفهيم. وكثيراً ما كان الأهل لا يتفهّمون طريقته المنفتحة والحداثية هذه ويلومونه بل ينتقدونه عليها!
وكان لسائر الفنون كالأغاني والموسيقى دورها وموقعها في طريقته التعليمية: الأغاني لتعليم الفرنسية ولا سيما الإنكليزية، وغير ذلك من طرق التربية الحديثة.
وكان الأخ فرنسوا-جوزف يرأس فريقاً، أو بالحري جماعة رهبانية من الإخوة المريميين الفرنسيين المساعدين له.
وكانوا يحدّثوننا بالفرنسية منذ نعومة أظفارنا، فنضطّر إلى تعلّم هذه اللغة منذ الطفولة كي نستطيع أن نفهم ما يقولون. ومن هؤلاء أذكر تماماً الأخ بول Frère Paul، وكان يقضي أكثر أوقاته مع التلامذة في الملعب، وكان مسؤولاً عن بيع القرطاسية لهم. وأذكر أنّني حاورته مرّة ولمته لأنّه لم يتعلّم العربية بعد أن أمضى أكثر من أربعين سنةٍ في لبنان. فأخذني إلى المطبخ، واستدعى العشّي، وطفق يسأله وكنتُ المترجم بينهما:
-منذ متى وأنت تعمل طاهياً عندنا.
-منذ نحو أربعين سنة.
-وماذا تعرف من اللغة الفرنسية؟
-تقريباً لا شيء.
وعندها التفت الأخ بول إليّ، وقال:
-وكيف تلومني على عدم إتقاني العربية، ووظيفتي بل رسالتي أن أعلّم التلامذة الفرنسية وأجعلهم يتحدّثون بها حتى في الملعب، وهم يتجاوبون معي، ونتفاهم جيّداً بهذه اللغة. وها هو العشّي الذي رأيتَ وسألتَ، قد أمضى معنا حتى الآن نحو أربعين سنةٍ، وعندما نحتاج أن نُفهمه شيئاً، فلا بدّ من مترجم!! وكان لجهل الأخ بول ورفاقه العربية حسناته، إذ كان يجبرنا على تعلّم الفرنسية وإتقانها للتفاهم معه.
وممّا أذكره كذلك عن الأخ بول يوم وقعت حادثة من حوادث الحرب بالقرب من المدرسة، وكنّا بعدها متجمّعين حوله نسأله عمّا حصل، وممّا قاله لنا خاتماً:
-Alors j’ai pris la fuite avec courage
-عندها لذتُ بالفرار بشجاعة!
ومتى كان الهرب يحتاج إلى شجاعة؟!
ضحكنا جميعاً لعبارته هذه واشتهرت بيننا حتى ذهبت مثلاً.
هؤلاء “الإخوة المريميّون” كانوا بمثابة أنوارٍ أشعّت في سماء صبانا وشبابنا. بفضلهم مثلاً غدت الفرنسية بمثابة لغةٍ أمٍّ ثانية Une 2ème langue mère. لغة ألفناها منذ الصغر، فكنّا نقرأ يومها قصص كونتيس دو سيغور (1/8/1799-9/2/1874) Comptesse de Ségurالمخصّصة للصغار، وإنيد بيلتون )11/8/1897-28/11/1968) Enid Blyton والمغامرات البوليسية التي كانت تكتبها، بل حتى قرأنا في الصفوف الابتدائية بؤساء فيكتور هوغو (26/2/1802-22/5/1885) Hugo في صيغتها المبسّطة Version simplifiée وغرازيللا لامرتين (21/10/1790-28/2/1869) وكثير غيرها، فغدت كلّها جزءاً من ثقافتنا الأساسية Culture de base. ما وسّع أفق الهوية والانتماء عندنا منذ الصغر. فاللغة ليست وسيلة تواصلٍ وحسب، بل هي طريقة تفكير وذهنية وحضارة.
وأذكر أنّني عندما سافرتُ إلى فرنسا، وتابعتُ الدراسة فيها للحصول على الدكتوراه في علوم الأديان والدراسات الإسلامية والهندية وأقمتُ فيها مدّة تخطّت العشر سنوات 1991-2001، لم أشعر بغربةٍ، ولم استصعب هذه النقلة فاللغة الفرنسية كانت لغة ألفتها منذ الصغر، وبالتالي فالثقافة الفرنسية وأسلوب الحياة، على اختلافه عمّا اعتدتُ في بلدي، ما كانا عليّ بغريبَين، في حين كان زملائي العرب يمضون سنة أو اثنتين لتعلّم اللغة وإتقانها بما يتيح لهم متابعة تخصّص جامعي.
والخلاصة فهذا الجيل من الإخوة المريميين Frères Maristes جيل الأخ فرنسوا-جوزف Francois-Joseph Marcel Billerey والأخ بول وزملائهما انقرض، مع الأسف، اليوم. جيلٌ تخصّص وتكرّس لتربية النشء، وأمضى حياته بأسرها في رسالته هذه. ذلك أن الدعوات الرهبانية نضبت وجفّت في الغرب، ولا سيما في فرنسا. وانقراض هذا الجيل خسارة تربوية كبرى لا تعوّض.
رحم الله الأخ فرنسوا-جوزف. ورحم الله الأخ بول وسائر أفراد هذا الجيل المبارك من الإخوة الرهبان. فنحن مدينون لهم بجانبٍ من شخصيّتنا الفكرية والثقافية وانفتاحنا على حضارة الغرب وعلى الحداثة عموماً.