بِقَلَم: مُورِيس وَدِيع النَجَّار
مع الأَدِيبِ والرِّوائِيِّ جُورج شامِي
مُفتَتَح
جُورج شامِي، الأَدِيبُ المُحَبَّبُ إِلى النُّفُوسِ، والرِّوائِيُّ البارِزُ، مُحَدِّثٌ لَبِقٌ يَعرِفُ جَيِّدًا كَيفَ يَكُونُ الكَلامُ الآسِرُ، والطُّرْفَةُ المُشِعَّة. وانتَقَلَت هذه اللَّباقَةُ إِلى قَلَمِهِ، فَما تَلمُسُ في صَحِيفَتِهِ مَلَلًا أَو تَرَهُّلًا أَو حَشْوًا أَو رَكاكَة. وفي أُسلُوبِهِ جِدَّةٌ تُجانِبُ الاقتِباسَ البَلِيدَ والتَّقلِيدَ الأَعمَى، فَأَنتَ مَعَهُ في دَهشَةٍ مُتَواصِلَةٍ، مَأخُوذٌ مِن نَفسِكَ، ذاهِلٌ مَواعِيدَكَ، وأَنتَ تَلتَهِمُ بِشَغَفٍ جَنَى لِسانِهِ، وقُطُوفَ أَيَّامِهِ الحافِلَةِ بِالصِّراعِ والانتِصاراتِ والخَيْبات. يُشعِرُكَ بِوُجُودِهِ لَكَأَنَّهُ أَمامَكَ، يُجاذِبُكَ أَطرافَ الحِكايَةِ قُضُبَ رَيْحانٍ، وهذه مَوهِبَةٌ يَفتَقِرُ إِلَيها الكُتَّابُ، إِلَّا مَن حَباهُ اللهُ هذه النِّعمَةَ، كَسَعِيد تَقِيِّ الدِّين مِثالًا.
تَكَرَّمَ عَلَيَّ بِعَشَراتٍ مِن الكُتُبِ اقتَطَفَها مِن نِتاجِهِ الوَفِيرِ، فَرُحتُ أَقرَأُها تِباعًا، مُنتَقِلًا مِن لَذَّةٍ إِلى أُخرَى، فَحُقُولُهُ تَغَصُّ بِالثَّمَرِ اليَنِيعِ، والأَرَجِ الضَّافِي.
أَن يَشُدَّكَ كِتابٌ، ويُنسِيكَ بَعضَ الهُمُومِ المُحَوِّمَةِ حَولَ رَأسِكَ في هذه الأَيَّامِ النَّحِساتِ مِن عُمرِ وَطَنٍ يَرزَحُ تَحتَ أَعباءٍ وَأَعباء… إِنَّهُ لَحَدَثٌ يَستَرعِي التَّبَصُّرَ، فَالحَرفُ يَرفَضُّ مِن مَجلِسِهِ المُهَلِّلُونَ، وتَتَوَغَّلُ الوَحشَةُ في أَبهائِه.
وكُنتُ أُدَوِّنُ، على عادَتِي، انطِباعاتِي، تَماشِيًا مع القِراءَةِ، فَإِذا الحَصادُ غَضٌّ، فَأَفكارُ صاحِبِنا، وبَيانُهُ الزَّاهِي، ومَقدِرَتُهُ على التَّشوِيقِ، بَيِّنَةٌ مَكِينَة. وشِئْتُ أَن أَكتُبَ في ما تَحَصَّلَ لَدَيَّ فَوَجَدتُ أَنَّ الإِحاطَةَ بِمُجمَلِ أَعمالِهِ تَتَطَلَّبُ بَحثًا يَستَغرِقُ أَسابِيعَ وكُدْسَ أَوراقٍ، لِذا أَقَصَرتُ سَعيِي وكَلامِي، في هذه العُجالَةِ، مُتَناوِلًا كِتابَيهِ الشَّيِّقَينِ «عَصِيرُ الزَّنزَلَختِ» وَ «انطِباعاتٌ سُورِيالِيَّةٌ بَينَ أَزرَقَين».
«انطِباعاتٌ سُورِيالِيَّةٌ بَينَ أَزرَقَين»
رَحَّالَةٌ، هو، في مُؤَلَّفِهِ هذا، يَجمَعُ في بَيانِهِ، وسَردِهِ المُمتِعِ، المَعلُومَةَ المُفِيدَةَ، والطُّرْفَةَ المُسَلِّيَةَ، والعِبْرَةَ العَمِيقَةَ، والشُّعُورَ الفَردِيَّ الَّذي يَتَخَطَّى، بِصِدقِهِ، الإِطارَ الضَّيِّقَ لِلرِّوايَةِ لِيُصبِحَ جُزْءًا مِن شُعُورٍ عامٍّ يَعتَمِلُ في نَفسِ كُلٍّ مَنَّا. وهو يَتَمَتَّعُ بِبَراعَةِ التَّصوِيرِ، ودِقَّةِ الحِكايَةِ الَّتي يُلَوِّنُها بِأَلوانِ طَيْفٍ ساحِرٍ يُحِيلُ نَمَطِيَّتَها، وبَلادَتَها، إِلى اهتِمامٍ وإِثارَة. هِيَ مَلَكَةٌ لا نَجِدُها إِلَّا في قِلَّةٍ مِن الأُدَباءِ والقَصَّاصِين.
في انطِباعاتِهِ الفَردِيَّةِ الشَّخصِيَّةِ الَّتي تَبدُو لِقارِئِ الحُرُوفِ النَّاتِئَةِ فقط شَيئًا لا يَعنِي سِوَى صاحِبِهِ، بَواعِثُ لِمَشاعِرَ جَيَّاشَةٍ تَنتابُ قارِئَ العُمْقِ الَّذي يَتَوَغَّلُ في مُنعَرَجاتِها فَتَغدُو مِهمازًا يُثِيرُ فِيهِ مَكامِنَ طَوِيَّتِها فَيُحَرِّكُ قَرارَتَهُ، فَإِذا هو شَرِيكُهُ في أَحاسِيسِهِ وانفِعالاتِه. أَوَلَيسَ ما يُعانِيهِ قَلبُ المُبدِعِ تُعانِيهِ قُلُوبُ مَن يَفعَلُ الحَرفُ فِيهِم فِعْلَ السِّحْرِ، وتُحَرِّكُ الكَلِمَةُ الدَّافِئَةُ في صُدُورِهِم جِمارًا هاجِعَةً في رَمادِ النِّسيانِ واللَّامُبالاة؟! والمَرءُ، في جاذِبِيَّةِ الكَلِمِ المُوَقَّعِ على وَتَرِ الحِسِّ المُرهَفِ، يَتَحَوَّلُ مَركَزُ التَّفَكُّرِ فِيهِ مِنَ العَقلِ المُمَحِّصِ النَّاقِدِ إِلى النَّفسِ المَسحُورَةِ بِالبَوْحِ الصَّادِق.
يَتَمَتَّعُ أَدِيبُنا بِمَقدِرَةِ التَّوصِيفِ الَّذي يَجمَعُ التَّصوِيرَ بِنَوعَيه: الفُوتُوغرافِيِّ والفَنِّيّ. فَتَحتَ رِيشَتِهِ تَتَكامَلُ اللَّوحَةُ مُنَمنَماتٍ مُجَسَّدَةً كِيانًا وَلَوْنًا ومَلامِحَ شَخصِيَّاتٍ بارِزَةٍ لا يَشُوبُها غُمُوضٌ أَو انتِقاصٌ، ودِراسَةً نَفسِيَّةً مُتَعَمِّقَةً في دَخِيلَةِ الإِنسانِ، وأُسلُوبًا أَدَبِيًّا ذا حَساسِيَّةٍ بالِغَةٍ ولُغَةٍ سَلِيمَةٍ، قَوِيمَ البَيانِ، ثَرَّ الصُوَرِ والخَيالِ والشِّعرِيَّة.
والقارِئُ المُطَوِّفُ في جَنَباتِ هذا الكِتابِ لَن يَعُودَ خالِيَ الوِفاضِ مَعرِفِيًّا، إِلى جانِبِ التَّسرِيَةِ والمُتعَةِ، فَقَد زَوَّدَهُ صاحِبُهُ بِمَعلُوماتٍ شَيِّقَةٍ مُفِيدَةٍ عَن كِبارٍ مُبدِعِينَ مِنَ الفَنَّانِ سِيلفادُور دالِي إِلى رَهْطٍ مِنَ الشُّعَراءِ مَعَ نَماذِجَ مُتَرجَمَةٍ مِن أَشعارِهِم، وُصُولًا إِلى الكاتِبِ الأَمِيركِيِّ العالَمِيِّ أَرنست همِنغواي حَيثُ حَطَّ رَحْلَهُ طَوِيلًا فَزَوَّدَنا بِمَقالَةٍ نَقدِيَّةٍ قَيِّمَةٍ عَنهُ، فِيها الاستِنارَةُ والتَّذَوُّقُ الواعِي، مِن دُونِ أَن يَنسَى خَلَّةً فِيهِ، يَعرِفُها أَصدِقاؤُهُ جَمِيعًا، وهي وَضْعُهُ المِبْضَعَ في الدُّمَّلِ أَنَّى وُجِد. فَنَراهُ يُوَجِّهُ سَهْمَ نَقدِهِ، على شَيءٍ مِنَ العَتْبِ، إِلى هذا الرِّوائِيِّ، مُخاطِبًا إِيَّاه: «لَقَد انتابَتكَ حُمَّى الحَماسَةِ لِمَثَلٍ أَعلَى وفي سَبِيلِ هذا المَثَلِ فَقَدتْ نَظرَتُكَ النَّفَّاذَةُ شَيئًا مِنَ المَعنَوِيَّاتِ وَجُزْءًا مِن تَماسُكِكَ الفَنِّيِّ، فَإِذا بِأَبطالِكَ فِيما بَعْدُ، وتَحدِيدًا في رِوايَتَيكَ «لِمَن يَدُقُّ النَّعْيُ» وَ «أَن تَملُكَ وَأَلَّا تَملُك»، بَل في نَثْرِكَ غَيرِ القَصَصِيِّ، يَختَلِفُونَ عَن أَبطالِكَ السَّابِقِينَ، لَقَد بَدَأتَ تَتَكَلَّفُ وأَصابَتكَ سَكْرَةُ النَّصْرِ السَّرِيعِ، فَعانَى فَنُّكَ المُتقَنُ مِن تِلكَ النَّشوَة» («انطِباعاتٌ سُورِيالِيَّةٌ بَينَ أَزرَقَين»، ص 69).
هذا الكِتابُ تَقرَأُهُ لَكَأَنَّكَ دَخَلتَ بُستانًا في البُكْرَةِ النَّدِيَّةِ، فَتَشَمَّمتَ أَرِيجَ أَقاحِهِ، ومَلَأتَ سَلَّتَكَ مِن أَطايِبِ ثَمَرِهِ، ودَغدَغَكَ نَسِيمُهُ وحَفِيفُهُ وزَقزَقاتُهُ، وعُدْتَ وصَدرُكَ عامِرٌ بِالرِّضَى والشَّوقِ إِلى غُدْوَةٍ مَثِيلَة!
«عَصِيرُ الزَّنْزَلَخْت»
لا يَخفَى طابَعُ المُذَكِّراتِ الشَّخصِيَّةِ مِن رِوايَةِ «عَصِيْرُ الزَّنْزَلَخْت». فَكِيانُها جَسَدٌ يَمُورُ بِالحَياةِ، هَيكَلُهُ العَظمِيُّ وقَلبُهُ ورَأْسُهُ هي مِن كِيانِ المُؤَلِّفِ وفِكْرِهِ وأَحاسِيسِهِ، والكَثِيرُ مِن مَفاصِلِها الَّتي تَمُدُّ الجَسَدَ بِالحَرَكَةِ هي مِن بَناتِ خَيالِهِ الرِّوائِيّ. ويُساعِدُ على تَلَمُّسِ الذِّكرَياتِ الخاصَّةِ أَسماءُ الأَماكِنِ الحَقِيقِيَّةِ، وبَعضُ الشَّخصِيَّاتِ الَّتِي عاشَت بَينَ ظَهرانَيْنا وَكانَ لَها أَثَرُها البَيِّنُ في المُجتَمَع.
يُحَدِّثُنا، في كِتابِهِ المَذكُورِ، عَن النِّصْفِ الثَّانِي مِن القَرنِ العِشرِين حَدِيثَ مَن عاشَ تَقَلُّباتِهِ، وعاصَرَ أَبطالَهُ، ومِنهُم مَن سَطَرُوا تارِيخَهُ بِحُرُوفِ نُوْرٍ، ومِنهُم مَن لَطَخُوا وَجهَهُ بِالسَّوادِ المَقِيْت. وفي حِكاياتِهِ تارِيخٌ تَتَوالَى أَحداثُهُ أَمامَكَ على شاشَةٍ تَعكِسُ تَلاوِينَ الواقِعِ وبَعضَ ظِلالٍ لانطِباعاتٍ شَخصِيَّةٍ مُنَزَّهَةٍ عَن الغَرَضِ، مُتَعالِيَةٍ عَن الصَّغائِر. ولا غَرْوَ فهو الصِّحافِيُّ المُحَنَّكُ الَّذي عاشَ السِّياسَةَ اللُّبنانِيَّةَ في مَفاخِرِها ومَساخِرِها، وجالَسَ أَبطالَها فاستَلَّ مِن سَرائِرِهِم ما يَتَحَكَّمُ بِشُؤُونِ النَّاسِ وشُجُونِهِم، بِجَراءَةِ الواثِقِ مِن مَعرِفَتِهِ، والمُدرِكِ أَلاعِيبَهَم وتَورِياتِهِم. فَنَقَلَ إِلَينا، بِقَلَمِهِ البارِعِ، ما كانَت تُضْمِرُ القُلُوبُ، وما تُظهِر.
لَقَد أَعادَنا، في كِتابِهِ هذا، إِلى سَنَواتٍ طَوِيلَةٍ امتَدَّت عُقُودًا، وشَهِدَت هَزَّاتٍ كَثِيرَةً وزَلازِلَ، وإِلى زَمَنٍ اختَزَنَ في تَلافِيفِهِ حَياةً اجتِماعِيَّةً طَبَعَتهُ بِخِضابِ الأُلفَةِ، وبَساطَةِ عَيْشٍ لَم تَكُنْ قَد غَزَتهُ التَّعقِيداتُ بَعْدُ، فِيهِ الحَنِينُ وهَناءَةٌ وَسَمَتهُ في وِجدانِنا بِاسْمِ: «الزَّمَن الجَمِيل».
وتَبرُزُ مَوهِبَةُ رِوائِيِّنا في مَقدِرَتِهِ على إِيهامِ القارِئِ بِصِدقِ الرِّوايَةِ بِكُلِّيَّتِها وبِتَفاصِيلِها الدَّقِيقَةِ، لِيُلامِسَ الصِّدقُ الفَنِّيُّ الواقِعَ المَعِيْشَ المَعرُوف.
ونَحنُ، قارِئًا يُفْضِي بِصَرِيحِ الطَّوِيَّةِ، نُبَشِّرُ مُحِبِّي السِّيرَةِ الذَّاتِيَّةِ أَنَّهُم سَيَجِدُونَ ضالَّتَهُم فِيها، وناشِدِي الإِغواءَاتِ الرِّوائِيَّةَ مِن حَبْكَةٍ وإِثارَةٍ وتَشوِيقٍ أَنَّهُم سَيَقَعُونَ فِيها على مَعِينِهِم السَّلسَبِيل. وكُلُّ هذا مِن مُقَوِّماتِ الخُلُودِ في خِضَمِّ ما قَذَفَتِ المَطابِعُ مِن قَصَصٍ ورِواياتٍ يَبقَى بَعضُها، ويَتَهاوى البَعضُ الآخَرُ في وَعْثاءِ دَرْبٍ تُغَرْبِلُ الغَثَّ مِنَ السَّمِينِ، وتُبقِي المُجدِيَ المُفِيدَ، وتَطرَحُ الخاوِيَ كَبُطُونِ الجِياعِ، في هُوَّةِ النِّسيان.
نَعَم… فَالزَّبَدُ يَذهَبُ جُفَاءً، وَما يَنْفَعُ النَّاسَ يَمْكُثُ في الأَرْض*!
أَمَّا أُسلُوبُ صاحِبِنا فَيَفِي السَّرْدَ الرِّوائِيَّ حَقَّهُ، مِن بَلاغَةٍ تُفضِي إِلى الغَرَضِ المَرْجُوِّ بِلا استِرخاءٍ رَتِيبٍ، أَو إِبهامٍ مُضْنٍ. على أَنَّهُ يُرضِي اللُّغَةَ، سَلامَةَ تَعبِيرٍ، صِحَّةَ إِعرابٍ، انتِقاءَ مُعجَمٍ، ورَونَقًا يَلتَمِعُ بَينَ حِينٍ وآخَرَ في جَسَدِ النَّصِّ فَيُرَصِّعُهُ، ويَزِيدُ في طَراوَتِهِ، ويَهمِزُ خَيالَ القارِئِ بِمِهمازِ الفِتنَةِ البَيانِيَّةِ فَيَحُثُّهُ على التَّحلِيق. وأَسُوقُ، مِثالًا على هذا، قَولَه: «كانَتِ المَرأَةُ غائِبَةً تَمامًا على وَقْعِ الأَنفاسِ والتَّنَهُّداتِ في العَتَمَةِ الَّتي تُضِيْئُها مَصابِيحُ سَقِيمَةُ الأَنوار» («عَصِيرُ الزَّنزَلَخت»، ص 40).
وأَدِيبُنا يُحَمِّلُ طَرْحَهُ أَفكارًا جَمَّةً ولكِنْ مِن دُونِ أَن يَقِفَ، مِنَ القارِئِ، مَوقِفَ الواعِظِ المُمِلِّ، بَل يُلبِسُها مَشاعِرَ الشُّخُوصِ فَإِذا هي عَفْوِيَّةٌ طَبِيعِيَّةٌ لا تَتَنافَرُ مع السِّياقِ، ولا تُضِرُّ بِانسِيابِ الرِّوايَة. هي حَذاقَةٌ تَدُلُّ على مَوقِعِهِ المُتَقَدِّمِ في مَحْفِلِ القَصَّاصِينَ، وامتِلاكِهِ دُرْبَةَ السَّرْدِ المُشَوِّقِ المُفِيد. فَـ «القِصَّةُ لَيسَت مِنبَرًا لِلمَواعِظِ وإِلقاءِ الخطَبِ بَل هي مَعرِضٌ لِلتَّصوِيرِ والتَّحلِيل» كَما يَرَى مَحمُود تَيْمُور.
في المُحَصِّلَةِ، رِوايَةُ جُورج شامِي المُشارُ إِلَيها، مُتَنَامِيَةٌ في بِنَائِها القَصَصِيِّ، لا تَعتَمِدُ على وَفْرَةِ الأَحداثِ وتَشابُكِها وانتِفاخِها بِالتَّشوِيقِ المُصطَنَعِ، والمُفاجآتِ السَّاذَجَةِ، فَلَيسَ في عُدَّتِهِ التَّعَمُّدُ والصَّنْعَةُ والرَّهَقُ. بَل هي تَرتَكِزُ على التَّحلِيلِ النَّفسِيِّ، وتَغْنَى بِهِ. فَهذا القاصُّ البارِعُ يَتَلَبَّسُ شُخُوصَهُ بِحِرَفِيَّةٍ وذَكاءٍ، فَيَعرِضُ مَشاعِرَهُم كَما لَو انَّها مَشاعِرُهُ الخاصَّة.
وهو قَلَّما يَشُدُّهُ تَزْوِيقُ الكَلامِ، ولَيسَ في هُمُومِهِ حَشْدُ الاستِعاراتِ والكِناياتِ والطِّباقِ والجِّناسِ مِمَّا يُطْبِقُ على الأَنفاسِ، ولا يَدَعُ لِلكِتابِ نَصِيرًا في مَجالِسِ النَّاس! وهو، في ذا، على سُنَّةِ الفَيلَسُوفِ الصِّينِيِّ لاوتزُو: «أَلكَلِماتُ الصَّادِقَةُ لَيسَت مُزَوَّقَةً، والكَلِماتُ المُزَوَّقَةُ لَيسَت صادِقَة».
صَدِيقَنا
في «عَصِيرِ زَنزَلَختِكَ» أَعدتَنا إِلى الماضِي، وقَدَّمتَ لَنا كَأسًا سائِغَةَ الشَّمِيمِ، وَ «إِنَّ لِلماضِي جَمالًا، فِيهِ سَعَةٌ وَرِيٌّ، ولِلأَشياءِ المُنقَضِيَةِ لَذائِذَ، تَشعُرُ بها دَقَّاتُ القُلُوب»، كَما يَقُولُ أَمِين نَخلَة.
فَشُكرًا لَكَ على ما نَفَحْتَ، هو زادٌ لِكُلِّ مَن تَهُزُّهُ الكَلِمَةُ، وَيَسكَرُ مِن رَحِيقِ الإِبداعِ في اليَراعاتِ السَّخِيَّة.
وإِنَّهُ لَباقٍ، فهو مِنَ البُرِّ النَّقِيِّ الصَّافِي، وَ «العُشبُ يَيبَسُ ولا يَثبُتُ لِلقَيظِ إِلَّا القَمحُ»، على حَدِّ رَأْيِ مارُون عَبُّود.
مُختَتَم
جُورج شامِي
في عَمَلَيكَ وَجَدنا صُورَةً لَك. تارَةً بَيِّنَةً كَشَمسِ الضُّحَى، وطَوْرًا كَضِياءِ فَجْرٍ يَكتَنِفُهُ ضَبابٌ يَكثُفُ في مَواضِعَ، ويَشِفُّ في مَواضِع.
فَيا صَدِيقَنا…
سَتَمُرُّ الأَزمِنَةُ، وتَندَثِرُ الكُرُومُ، ولكِنَّ الرَّحِيقَ يَبقَى هاجِعًا في الخَوابِي، تَهرَعُ إِلى خَدَرِهِ عُقُولٌ لا تَنتَشِي إِلَّا بِالرَّحِيق…
سَلِمت!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً، وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْض﴾
(القُرْآنُ الكَرِيمُ؛ سُوْرَةُ الرَّعْد؛ الآيَةُ 17)