مِن حقائقِ السّقوطِ الوطنيّ

الدكتور وجيه فانوس

(رئيس ندوة العمل الوطني)

        لطالما نشأ اللّبنانيّون، ومنذ عقود عيش مديدة خبروها، عبر حقب تاريخ وطنيّ ما عرفوه سوى متعدّد السّمات ومتنوّع سبل المعاناة؛ على مقولة أنّهم، أبدا، أناس عشق للحياة، يرفضون الذّل، ولا يقبلون إلاّ بالعز، ولا يركنون إلاّ أن يكونوا، أبناء الكرامة وروّاد النجّاح. الأشدّ ثقة في هذا، أنّ كثيرين منهم يصرّون على أنّهم لا يكتفون من النّجاح إلاّ أن يكون تفوّقا ساطعا؛ يبزّون به لدّاتهم، من أهلهم وجيرانهم وكذلك بقيّة النّاس وسائر الخلق. وكثيرا ما احتشدت هذه الأفكار، في آداب قول هؤلاء اللّبنانيين وكتاباتهم؛ فكانت تُثري أزجالهم وتُمتّع روايات أخبارهم؛ وتبرز، من ثمّ، مثالا أعلى لِمُقيمِ عيشٍ لهم، في حلّهم على أرض لبنان، أو عند ترحالهم في اغترابهم عنه؛ وما برحوا، يُصِرّون مُعلنين أنّهم لا يرضون منها بديلا ولا يبغون عنها حِوَلا.

        يؤكّد كثير من المتوارَث الثّقافيّ الرّسميّ الوطنيّ في لبنان، أنّ الأبجديّة ما أنارت العالم برمّته بمعارفها، إلاّ حين أشرقت من شواطئ هذا البلد المعطاء؛ وما برح كثير من الّلبنانيين، يصرّون على زعمهم الواثق، بأنّ ما مِن مفكّر أو عالم أسّس لمقولات العِلم وتوجّهاته، على ظهر هذه الأرض، إلاّ وكان من أبنا لبنان؛ وثمّة مؤرّخون لبنانيّون، ما برحوا يجمعون الوثائق ويحصون الأدلّة ويضعون الدّراسات، ساعين إلى إثبات حقائق تُروى عن بطولاتِ أمراء وقادة وفرسان وشجعان وسياسيين، بل وحتّى مواطنين عاديين، ما كان لكلّ منهم من وجوده، إلاّ أن يتجرّأ قاهرا لظلم سلطان بطّاش، أو متمكّنا من قهر عتوّ حاكم ذي صلف، أو ماحقا لجبروت متنفّذ لا يعبأ بغير مصالحه ومنافع أنانيّته؛ ظافرا بالفوز ومكلّلا بالنّجاح، حقّا ودائما، في سبيل مقهور جائع، ومسكين مكسور، وأناس عجزة ضاقت بهم السّبل وأقعدتهم الوهن.  

        لكن أنْ تُصبح الغالبيّة العظمى، من الشّعب اللّبناني اليوم، بلا أيّ مقوِّم فعليٍّ للعيش الكريم، أو حتّى للحدّ الأدنى من متطلبّات الحقّ الإنسانيَّ في الغذاء والكساء والتّعليم والطّبابة والاستشفاء؛ فهذا يعني أنْ لا ضمانة وطنيّة متوفِّرة، من قبل إدارة السّلطة الحاكمة على الإطلاق، تجاه الشّعب الذي تدّعي سلطة حكمه. وأنْ تصبح هذه الإدارة عاجزة، كذلك، عن تأمين هذا الحدّ الأدنى من المتطلّبات العامّة للشّعب؛ فهذا ممّا يؤكِد سقوط الإدارة الحكوميّة، بكلّ ما يمكن أن يعنيه هذا السّقوط من مفاهيم ومستويات. 

        أنْ تجد الغالبيّة العظمى من الشّعب الآن، أنّها لا تحصل، من إدارة السّلطة التي انتخبتها لممارسة الحكم والإدارة في وطنها، سوى على ما هو الأدنى من حقوق العيش الإنسانيّ؛ فهذا يعني أنّ هذا الشّعب يعيش حالا من البؤس المعيشي المزري، ويعاين وضعا من  القهر الوطنيّ الكاسح. وأن يكون الشّعب، بائسا في عيشه، ومقهورا في وطنيّته، فهو شعب يعيش ظلما حيّاتيّا طاغيا؛ مستهلكا ما قد يكون قد تبقّى له من رمق العيش، في حياة تستنفذ قواه إلى هلاك لا يؤدّي سوى إلى فناء؛ وهذا لا يمكن أن يكون حقّا إلا بقتل للذّات.

        أن يَقْتُلَ المواطن في لبنان ذاته، وسط هذه المعمعة من الانتكاسات الانسانيّة والوطنيّة، فهذا لا يمكن أن يعني سوى واحد من ثلاثة أمور؛ إمّا إنّه إنسان مجرم بحقّ نفسه ووجوده؛ أو هو إنسان مقصّر في المطالبة بأدنى حقوق عيشه، نتيجة عجز متمكّن منه، أو بداعي هلع لا مسوّغ له سوى إدمان على استطياب مرّ لذلّ عبوديّ السّمات وقميء الفاعليّة مفن للحياة؛ أو هو، وبكلّ أسف، مدّعي نسب بطولة وعزّة انتصار، بقربى لقوم لا علاقة له بهم؛ لا بأصل ولا بقيم ولا بشرف انتماء أو حتّى اقتداء.

        ألاّ يحقّ، بعد هذا جميعه، وفي خضم عصف أوجاع خسران هذا الحقّ، وبؤس الواقع من سوء مقاله؛ من طرح تساؤل، مكتسح بعصفه، ماحق بعزمه، صارخ بجرأته، جارح بشجاعته، منتصر بحقيقته، مثبت بصفائه، داحر بانتفاضته في سبيل عزّته، عن حقيقة هؤلاء اللّبنانيين، وعن صدق انتسابهم إلى ناس العزّة وأبناء الكرامة، والعلماء بينهم من حماة الحق وروّاد العدل؟

        يا هؤلاء القوم الّذين يعاينون اليوم، من بؤس هذه المرحلة، الممتدّة الأيام والقاسية الأسابيع والمريرة الشّهور والبائسة السّنين؛ يا هؤلاء اللّبنانيّين، أأنتم، حقّا، صنّاع هذا التّاريخ الذي ما برحتم تحكون؟  وأنتم، فعلا، واعون لمسؤوليّة هذا الأدب الذي ما فتئت كوكبات من مبدعيكم تضع؟ وأنتم، واقعا، مكترثون لهذه الطّموحات السّامية، التي ما زالت تتعرّض لمزيد من الاغتصاب والقتل؟ أم أنّكم مجرّد قوم لا تفقهون ما أنتم فيه، ولا تأبهون إلى ما أنتم عليه؛ بل ولا تأنفون، حتّى، مما تفرزه أمعاء وجودكم وتبرزه، من فضلات عيشكم المقيت هذا، ومن أكوام النّتن والصّديد التي تنبثق من وجع دنياكم هذه، ومن فجائع بؤس ما تعيشونه فيها؟

عجبي!

************************