الدكتور وجيه فانوس
(رئيس ندوة العمل الوطني)
ينهض التّغيير، وفي هذه المرحلة الصّعبة من الحياة الوطنيّة والسّياسيّة في لبنان، هاجسًا مقيمًا في بال كثير من اللّبنانيين. والمقصود بالتّغيير، ههنا، تغيير نوعيّ، ينبلجُ إشراقة نور وفعل رجاء، من أجواء فجائعيّة العتمة الرّاهنة الممسكة بتلابيب الوطن. التّغيير الذي يؤمل منه تحسينًا إيجابيًّا للوضع المعيشيّ العام والشّامل للشّعب، وتنظيمًا منطقيًّا نافعًا للأداء الحكوميّ، يقود إلى تصويب الفاعليّة الوطنيّة للمؤسّسات الرّسميّة. والطّموح الأساس، من كلّ هذا، أن يتحصّل تحقيق لنهوض حضاريّ مرتجى للبلد؛ يعيد إليه سلامة مصداقيّته الدّوليّة ومكاسبه المعرفيّة وقدراته الثّقافيّة ومصالحه الاقتصاديّة؛ ويبيّن ممارساته لالتزاماته الرّسميّة الفعليّة بقضايا بيئته السّياسيّة، على الصّعيدين الإقليميّ منهما والدّوليّ.
إن صحّ ما بدأت تنشره معظم مؤسَسات استطلاع الرّأي، النّاشطة في لبنان حاليّا، من أنّ نسبة التّغيير النّوعيّ، لتحسين الوضع العام، جرّاء الانتخابات الممكن حصولها في الأشهر السّتّة المقبلة، قد تراوح ما بين ٥ إلى ١٥ بالمئة، في الحدّ الأقصى من نتائجها؛ ففي هذا ما يفيد ثلاثة أمور على الأقل.
• أوّلًا: أنّ هذه الانتخابات، لن تكون سوى خيبة أمل عظمى، لكلّ دعاة التّغيير؛ بغضّ النّظر عن تعدّد توجّهاتهم السّياسيّة وتنوّع رؤاهم الوطنيّة؛ إذ التّمثيل النّيابيّ سيبقى بنسبة أقلّها 85% على ما كان عليه، منهجًا ورؤيةً وتحديد مصالح وأساليب تعامل.
• ثانيًا: أنّ ما يبذل من جهد ويصرف من وقت ومال ويقدّم من رهانات عُمْرٍ، في سبيل التّغيير، عبر هذه الانتخابات، يظلّ من باب تقديم رأسمال عمليّ كبير، لتحصيل نتيجة عمليّة هزيلة؛ رغم ما قد يمكن احتسابه، عبرهذه النّتيجة، من إمكانيّات للإفادة من دروس نظريّة تتعلّق بخلاصات تحفيزيّة لها، في مجالات التّوعية الوطنيّة وساحات امتحان القوى.
• ثالثًا: لن تكون نتائج هذه الانتخابات النّيابيّة، إن حصلت، وبالقانون الانتخابيّ المعتمد لها، إلاّ نسخة مشوّهة أو معدّلة من نتائج الانتخابات التي جرت قبل أربع سنوات؛ إذ، ووفاقًا للقاعدة المعرفيّة العامّة، فإنّ اتّباع عين القاعدة في العمل عينه، يقود، وباستمرار، إلى تحصيل عين النّتائج؛ وفي هذا تأكيد رهيب على سقم بناء كثير من التّوقّعات الإيجابيّة منها.
لئن لم تكن الانتخابات النّيابيّة العتيدة، ممارسة عامّة قادرة فعلًا على تأمين التّغيير المطلوب؛ فما الهاجس الوطنيّ العمليّ الذي يكتنف، بمندرجاته، موضوعات المرحلة الحاليّة، ببعديها الوطنيّ والسّياسيّ، ويشغل الفاعليّة الأبرز والأكبر من مساحات وجودها؟
واقع الحال، ليس هذا التّغيير، بالهاجس الذي تنماز به مجموعة من الشّعب اللّبنانيّ من سواها، فهو مطلب الجميع. ما من وطنيّ لبناني، إلاّ ويسعى إلى حصول تحسين إيجابيّ للوضع المعيشيّ العام، وتنظيم نافع للأداء الحكوميّ، وتصويب لفاعليّة عمل المؤسّسات الرّسميّة؛ كما يطمح، اللّبنانيّون كافّة، إلى عيش نهوض حضاريّ مرتجى لبلدهم، وأن ينعم وطنهم بمكاسبه المعرفيّة وقدراته الثّقافيّة ومصالحه الاقتصاديّة، ويكسب مجدّدًا احترامه الدّولىّ، إقليميًّا وعالميًّا. وإذا لم يكن هذا التّغيير يشكّل شأنا خلافِيًّا بين اللّبنانيين؛ فعلامَ ما يحصل بينهم، الآن، من نزاعات سياسيّة وخصامات وطنيّة وخلافات محلِيّة؛ مع يرافق هذا جميعه من شجارات، كثيرا ما تكون شخصيّة؟ ولِمَ التّنازع ما انفكّ ناهضًا بين ظهرانيهم، إلى درجة تتجمّد معها اجتماعات الحكومة، وتغيب فيها مساعي الغوص في ملفّات التّحقيقات القضائيّة المرتبطة بحدثي “المرفأ” و”الطّيونة”، وتتوارى عبرها محاسبة المسؤولين عن إنفاق المال العام والمراقبة المسؤولة على المؤتمنين على ودائع الشّعب لدى المصارف؟!
يُظْهِرُ التّحري العمليّ أنّ للأمر علاقة أساس بالتّغيير؛ غير أنّه تغيير لا يرتبط بمجرّد موضوعات العيش اليومي وقضايا الإدارة الحكوميّة وآفاق الثّقافة والمعرفة، بقدر ما يرتبط بمفهوم وجود لبنان برمّته، كيانًا وشعبًا وحضورًا ورسالة. ولعلّ ما جرى تداوله، مؤخّرًا، عبر الصّحافة ووسائل الإعلام ووسائط التّواصل الاجتماعيّ وتحديدًا بتاريخ 16/12/2021، من مقال نشره الوزير السّابق الأستاذ سجعان قزّي، عبر صحيفة “النّهار”، وما صرّح به إلى جريدة “الأخبار”، انائب الأمين العام لحزب الله، الشّيخ نعيم قاسم، بكلّ ما يعنيه الموقع الوطنيّ والسّياسيّ لكلّ واحد منهما، ما يشير إلى جوهر التّغيير الأساس المطلوب وحقيقته. لقد ورد، فعلاً، وبجلاء لا لبس فيه، في كلامهما، ما يختصر الموضوع الفعليّ للتّغيير؛ وهو الموضوع الذي يشغل السّاحة الوطنيّة حقًّا؛ وهو ما يرمي بتبعاته ونتائجه، على المجالات السّياسيّة الأساس والجوهرِيّة، المتحكّمة بمسارات البلد، في الوقت الرّاهن.
تساءل الوزير السّابق، الأستاذ سجعان قزّي، إن كان “اللّبنانيّون على حقّ في انتقاد “حزبِ الله”، وإن كانوا قد “فَهموا حقًّا رمزيّةَ مواقفه وأبعادها”، وإن كان حلّ ألغاز هذه المواقف وأبعادها “أجدى من النزاع معه”. ورأى الأستاذ قزّي، كذلك، أنّ “حزب الله” يدرك أنه “يعجِز عن حكم كلّ لبنان، ويرفض بالمقابل أن تحكمه شرعيّة غير شريعته، فمال إلى “الفدراليّة الموسعة” حفاظًا على ذاتيّته”. يبيّن الشّيخ قاسم، من جهته، وفي السّياق عينه، أنّ “حزب الله”، “مع لبنان الذي يريد مستقبل أجياله، ويكون سيّدًا مستقلًّا ويكون قويًّا، فهذا لبنان الذي أصبح له سمعة في العالم بسبب المقاومة وبسبب الانتصارات، هذا هو لبنان الذي نريده، فمن أراد التحق به، ومن لم يرد فليبحث عن حل آخر، أنتم لا تشبهون لبنان، نحن الذين نشبهه، لأنّ من يرتبط بوطن يجب أن يرتبط به سيّدًا حرًا مستقلًّا”.
إنّ في هذين القولين الرّأيين، ما يبيّن بصفاء وطنيّ ووضوح سياسيّ، أنّ الهاجس الوطنيَ الأساس للّتغيير ومردوده السّياسيّ، يتجاوز، في واقع الأمر، شؤون الأوضاع المعيشيّة والأحوال الحكوميّة والإدارات الرّسميّة والملفّات التّحقيقيّة والطّموحات المعرفيّة؛ ليطال، وبكلّ واقعيّة عمليّة بيّنة مسؤولة وملتزمة، الخلاف المفهوميّ والرّؤيويّ والعملانيّ الوطنيّ، لِما هو لبنان، وكيف يجب أن يكون من خلال هذا المفهوم.
أيكون، تاليًا، كلّ ما يحصل وما يجري العمل عليه، من الاستعداد للآنتخابات النّيابيّة العتيدة، مجرّد شأن ثانويّ، متضائل بحجم وعوده، أمام ضرورة العمل على تحديد أطر ومناهج ووسائل الاستعداد للقيام بالواجب الوطنيّ الأساس والعمل السياسيّ المحتّم، للتباحث المسؤول الوطنيّ والملزم في موضوع هذا الخلاف المفهوميّ والرّؤيويّ والعملانيّ الوطنيّ، لما هو لبنان، ولكيف يجب أن يكون لبنان من خلال هذا المفهوم، وبأيّة رؤى سياسيّة.
هل يمكن القول، كذلك، ليخفّف اللّبنانيّون من غلواء اهتمامهم واشتعال حماسهم، بما هو “الثانويّ” نسبيّاً؛ وليتفرّغوا، تاليًّا، مركّزين بكلّ قدراتهم وقواهم، لعمل وطنيّ مشترك بينهم، منظّم من قبلهم، على ما هو “الأساس”؛ خشية أن يفرحوا قريبًا، ولكن مؤقّتًا وآنيًّا، بهذا “الثانويّ” نسبيَا، كما كانت فرحة لهم مع القانون الدستوري الصّادر سنة 1990، إنطلاقًا ممّا عرف بـ”إتّفاق الطّائف”؛ ويستمرًون في عويل مريع وقاتل، لذواتهم ومستقبلهم ووجود بلدهم، كما هم اليوم بعد واحد وثلاثين سنة، إذا ما أصرّوا على التّغاضي عن ما هو الأساس، في هذه المرحلة من الوجود التّاريخي والمصيريّ للبنان؟
إنّها المهمّة الوطنيّة الأساس الكبرى الملقاة على عاتق أهل الوطن كافّة من قيادات أهليّة وحزبيّة وهيئات نقابيّة وتجمّعات شعبيّة، قادرة على التّوحّد في ما بينها، على أساسيّة وجود الوطن، وضمن مفهوم عدم الاستغناء مطلقًا عن هذا الوجود؛ والمعتمدة في رؤاها الوطنيّة على أهميّة الوحدة اللّبنانيّة وجوهر فاعليّتها في وجود لبنان، والنّاشطة في مجالات رؤيتها السّياسيّة على مناهج التعقّل الواقعيّ العمليّ، والمؤمنة قطعًا بأن السّياسة لخدمة الوطن، وليس الوطن خادمًا مطيعًا للسّياسة.
يبقى أمر قد يقف بداية بأهميّة كلّ هذا، ويكمن في تحديد الجهة التي ستتولّى الدّعوة إلى القيام بهذه المهمّة الوطنيّة الأساس، وتنظيمها وإدارتها، والسّهر على استخلاص نتائجها نظريًّا ومساعي تطبيقها عمليًّا. وقد يكون، لوطنيين عابرين للمناطق والطّوائف والتّحزّبات الضيّقة والارتهانات الزّائلة، على ندرتهم، ولكن مع الإقرار بالوجود الحقيقي لهم، أن يشكّلوا كيانًا تطوّعيًّا في هذا المجال، يجمع ولا يفرق، ويوحّد ولا يشتّت. وقد يكون في كلّ هذا نظر طوباويّ رسوليّ، غير أنّ الواقع يؤكّد، أن جميع الرسالات الجوهريّة التي طبعت المسيرات العظمى للإنسانيّة، ما كانت في منطلقها سوى نتاج نظر طوباويّ رسوليّ، وغالباً ما كان هذا فرديّ؛ فهل تعجز مجموعة من وطنيين عابرين للمناطق والطّوائف والتّحزّبات الضيّقة والارتهانات الزّائلة، من أن يكونوا بمثابة أنبياء خلاص لبنان الذي يتهاوى وينهار ويحترق؟!!
ما مِن أمرٍ، من هذا القبيل، على مؤمنين حقًّا بلبنان، ببعيد.
*****************