قراءات حضاريّة معاصرة في أحداث من التّاريخ النّبوي الإسلامي (الحلقة السّادسة):

الدكتور وجيه فانوس 

رئيس ندوة العمل الوطنيّ

التَّرويعُ بالإعلامِ الحَربِيِّ في معركة بدر الكُبرى

تحضَّر المشركون لمواجهة محمد (صلى الله عليه وسلم )، ولم تكن لصورة الخراب الذي سيحيط بأهل «مَكَّة»، كما صوَّرتها رؤيا «عاتكة»، أن تفارق مخيلتهم. فـ«أبو لهب»، وهو من كبارهم، أوجد لنفسه عذرا في عدم الخروج، وأوفد مكانه «العاص بن هشام»، بعد أن سامحه بِدَيْنٍ كان له في ذمته. أمّا «أمية بن خلف»، فلقد احتاج إلى «عقبة بن معيط» يوبخه ويزجره ويعيِّره، حتى استطاع أن يدفعه إلى الخروج مع القوم لملاقاة محمد (صلى الله عليه وسلم ) ومن معه. لم يكن أمام «قُرَيْش»، وأيا كانت درجة تخوّفهم في هذه المرحلة، إلاّ أن يبرزوا، آنذاك، للقتال؛ حماية لما بين أيديهم من تجارة وعزّة سيطروا بهما على العرب وغيرهم.

تجمهر القوم يتحضرون للمعركة، ونزل المشركون من «قُرَيْش» مكانا يعرف بـ«الجحفة»، قرب المكان الذي ستكون فيه الموقعة. وقبل أن يمضي وقت على نزولهم هذا، رأى «جهيم بن الصلت بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف»، رؤيا أقضَّت مضاجعهم من جديد.

قال لهم «جهيم» إنه رأى، فيما يرى النائم، وكان بين النائم واليقظان، أنه نظر إلى رجل قد أقبل على فرس، حتى وقف ومعه بعير له. ثم قال هذا الرجل صاحب البعير: قتل «عتبة بن ربيعة» و«شيبة بن ربيعة» و«أبو الحكم بن هشام» و«أمية بن خلف»، وعدَّد رجالا من أشراف «قُرَيْش»، ثم قام صاحب البعير فضرب في لبَّة بعيره وأرسله في العسكر، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلاّ وقد أصابه نضح من دمه. ويبدو أن هذه الصورة للدم الذي سينتشر في صفوف عسكر المشركين قد أقلقت كبيرهم «أبا جهل»، الذي لم يستطع إلاّ إظهار ردّة فعله، لكنه جعلها ردّة فعل ساخرة من كل «آل عبد المطلب»، فقال: نعم، هذا نبي آخر من بني المطّلب!

لكن، ما الموقف الحقيقي لكثير من القادة والجند في صفوف المشركين، ومن الذين سمعوا «نبوءة» نعيهم قبل دخولهم المعركة ضد محمد صلى الله عليه وسلم  وصحبه؟! لعل الجواب يكمن فيما جاء في الآية الكريمة: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ * وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال:30).

صحيح، لقد كان قتالاً عظيماً في «بدر»؛ وكان انتصار عظيم للمسلمين في تلك الموقعة. والصحيح أيضا أن «موقعة بدر» لم تكن موقعة عادية؛ لقد كانت بداية عملية واقعية لدحر جيوش الشرك وعقائده، وتأسيس راسخ لجيوش الإيمان ومبادئه. إنها بداية تأسيس «الدولة الإسلامية»، عسكريا وماديا؛ وبداية تخلصها من أعدائها وفرض مهابتها على الذين حولها وفي زمنها.

مارس المسلمون قوتهم العسكرية وفنونهم القتالية في «بدر»؛ كما أظهروا بأسا وشجاعة، هما من صفات من اشترى الآخرة بالدنيا وطلب الجنة وعزّة دينه ومعتقده. صحيح إن المسلمين أظهروا قوة رائعة وجبّارة في قتالهم؛ لكن ثمة قوة أخرى كانت مخفية، ولكن فاعلة، ساعدت على فت عضد عدوهم وأوهمته قوةً لهم لم تكن فيهم؛ فلم يجد العدو في نفسه ما يؤهله للفوز عليهم، وكان له ولهم ما اعتقد هو في نفسه.

قد يختصر كل هذا الدعم الإلهي قوله تعالى مخاطبا النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم ): {يَا أَيُّهَا النَّبِيّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُون} (الأنفال: 65) وقد يجد المرء في إجمال هذا في حديث ينسب إلى النَّبِيّ يقول «الحرب خدعة»، وفي الحديث الآخر الذي جاء فيه: «نصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر»!

ليست الخدعة، ههنا، في الكذب على الإطلاق؛ ولكنها في تقديم ما لا يمكن تكذيبه أو تصديقه؛ بيد أنه مما يوهن العدو ويفت في عضده. أما الرعب، هذا الذي يعملق أمام العدو، ويجعله يعتقد بدونيته أمام من يواجهه، بل يجعله مقتنعا بإمكانية هزيمته، بل بضرورة هزيمته، فليس إلا نتيجة حُسن إدارة وسائل الإعلام وحسن توظيف قوى اختراق العدو؛ وما هذا إلا بتوفيق من الله تبارك وتعالى وعظيم عنايته.

نعم، إنه، «خير الماكرين»، إذا ما سعى الماكرون إلى مكر لهم، وإنه المدافع عن نبيه الأمين ومن معه من المؤمنين؛ ولذلك قوله إلى محمّد (صلى الله عليه وسلم )، بعد كل ما جرى في بدر: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(الأنفال: 17).

*****

(وإلى اللقاء مع الحلقة السابعة «غزوة الخندق ومبدئيَّة العمل التطوُّعي»)

 ————-

* رئيس المركز الثقافي الإسلامي