بِقَلَم: مُورِيس وَدِيع النَجَّار
الرِّيحُ تَسحَبُ أَذيالًا وتَنشُرُها يا لَيتَنِي كُنتُ مِمَّنْ تَسحَبُ الرِّيْحُ
(عُمَر بِنْ أَبِي رَبِيعَة)
لِلرِّيحِ، وأَنِينِها، في الجُرُودِ وفي الغِياضِ، وصَفِيرِها المُنسَرِبِ مِن شُقُوقِ النَّوافِذِ، فِعلُ السِّحْرِ في نَفسِي.
ومَهما تَمَلَّكَنِي الانقِباضُ، أَو استَخَفَّنِي الطَّرَبُ، فَعِندَ هُبُوبِها، هَفِيفًا كانَ أَو دَمْدَمَةً، فَأَنا كِيانٌ آخَرُ في عالَمٍ آخَرَ، عالَمِ الرِّعْشَةِ تَسرِي سُلافًا في مَفاصِلِي، وتُطبِقُ أَجفانِي بِأَصابِعِها فَأَسرَحُ في حُلْمٍ عَمِيقٍ بَعِيدٍ، وأَنسَى الوُجُود.
ولَكَم أَخَذَنِي عَوِيلُها، على جَناحِ الخَيالِ، إِلى ذلك المُنحَدَرِ الأَخضَرِ، في قَريَتِي، المَدرُوزِ شَربِينًا، والمُوَشَّى بِالصَّعتَرِ الزَّكِيِّ، حيث كُنَّا، صِغارًا، نُواجِهُ الرِّيحَ بِصُدُورِنا، وهي تَشُدُّنا إِلى الوَراءِ، ونُنادِي بَعضُنا البَعضَ بِالصُّراخِ الَّذي تُبَدِّدُهُ بِضَوضائِها الأَقوَى، على ضَحِكاتِ الطُّفُولَةِ وعَبَثِها الجَمِيل.
فَما هو سِرُّكِ أَيَّتُها السَّاحِرَةُ، يا ابنَةَ الطَّبِيعَةِ الهَوجاءَ، الَّذي يَخفَى على إِدراكِي، ويَهُدُّ كُلَّ مُقاوَمَةٍ لَدَيَّ، فَأَنصاعُ لِزَمجَرَتِكِ، وأَنقادُ، ولكنْ إِلى لَذَّةٍ لَم تَبلُغْها حَواسِّي مَعَ كُلِّ مُشْتَهًى؟!
لِلَّهِ ما أَنا فِيهِ يَومَ تَخرُجِينَ إِلى المَدَى، تَزرَعِينَ الوِهادَ والمَهاوِي العَمِيقَة والذُّرَى أَلحانًا سِحْرِيَّةً، كَمارِدٍ أُطْلِقَ مِن قُمْقُمِهِ بَعدَ دَهْرٍ مِنَ الحَصْرِ طَوِيل… فَأُسارِعُ إِلى نَفْضِ يَدَيَّ مِن كُلِّ مَشاغِلِي لِأَتَفَرَّغَ لِعِشقِكِ، وأَذُوبَ في وِصالِكِ، يا حَبِيبَةً أَدرَكَت ضَعْفِي أَمامَها فَتَدَلَّلَت، وكانت سَخِيَّةً فَمَنَحَتنِي وَجْدًا لا تَمَلُّهُ جَوارِحِي، ولا يَخْبُو ولو تَكَرَّرَت زِياراتُها على العُمر.
أَنا أَعشَقُكِ أَيَّتُها الرِّيحُ، في المُنبَسَطاتِ وفي الصُّرُودِ، في الوَعْرِ الأَجْرَدِ، وفي أَحضانِ الحُقُولِ، في السُّهُولِ والسُّهُوبِ والسُّفُوحِ الخُضْرِ، على تِلالِ الأَمواجِ وفي أَعماقِ الأَودِيَةِ، في عَربَدَةِ الشِّتاءِ وفي كَآبَةِ الخَرِيفِ.
أَيَّانَ يَطِيبُ لكِ الهُبُوبُ، هُبِّي، وَأَنَّى يَحلُو لكِ المُرُورُ، مُرِّي، فَأَنتِ مَلِكَةُ الطَّبِيعَةِ، وما على جَلالَتِكِ قُيُود؟!
أَلَا عَرْبِدِي، فَفِي جُنُونِكِ فَرَحٌ، وخَمْرٌ وسَمَرٌ طَوِيلٌ، وأَنا مِن هُيَّامِكِ المُتَيَّمِين!
***
يا رِيحُ هَبِّي، واعصِفِي، وعلى مَدارِ الأَرضِ دُورِي
فَأَنا نَظِيرُكِ هائِمٌ في الأَرضِ والفَلَواتُ دُورِي!