سلسلة خواطر في النقد (الحلقة الأولى) النّقد والأدب

د. وجيه فانوس

رئيس المركز الثقافي الإسلامي

 

يَرْتَبِطُ وجودُ «الأدب» بالنّاس، إرتباطاً حتميَّاً. النّاس باعتبارهم مُرْسِلينَ، بمعنى «مُنِتجين» للأدب؛ والنّاس باعتبارهم مُتسْتَقْبلينَ، بمعنى، «مُتفاعِلِين» مع الأدب. ولا بدَّ من التَّوضيحِ، أنَّ استخدام هذين المعنين «ههنا، ليس إلاَ من باب محاولة تبسيطٍ تقريبيٍّ للموضوع؛ إذ العملُ الأدبيُّ لا يمكن أن يِكونَ مُجَرَّد «نَصٍّ» يَضَعه كاتبٌ؛ فإنَّ لمُتَلَقِّي هذا النَّصِّ نَصيبٌ واضِحٌ في تأمينِ جوانبَ كثيرةٍ لِما يُمكنُ أنْ ينبثقَ عن النَّصِّ مِن إبداعٍ وجمالٍ وفسحاتِ فِكْر.

يرتبطُ وجود النَّاسِ، بدورهم، بالحياة؛ ارتباطاً حتمِيَّاً كذلك. إنَّهم، شاؤوا أم أبوا، أبناء الحياة ونتاجها. ولذا، فلا يمكنهم العيش خارجها؛ ولا يمكنهم، مهما حاولوا، الهرب أو الخلاص منها، سوى بالموت.
لذا، فطالما أنَّ الحياة لا تزال فعل تدفُّقٍ في شرايين الزَّمن؛ فإنَّ «النّاس» هم أبناؤها؛ و«الأدب»، الذي يضعون ويستقبلون، هو من المحصِّلات الطَّبيعيّة لهذه الحياة. ولطالما عَبّرَ كثيرون عن هذا الواقع بقولهم إنَّ الأدب ابن الحياة، أو ابن بيئته.
حتّى الآن، ولا مشكلة. تبرز المشكلة آن يدرك المرء مدى تنوّع ناس الحياة؛ إذ هم ليسوا واحداً، على الإطلاقِ؛ لا في ظروفهم الخاصَّة، ولا في بيئاتهم العامَّة. ولعلّ لكلّ واحد من هؤلاء، خصوصيَّته المُمْعِنَةَ في فرادتها، والمُغْرِقَةَ في تمايزها، إلى درجة تجعل كلَّ إنسان، وكأنَّه يعيش في غرفةٍ زجاجيّةٍ مغلقة. صَفَتْ جُدران هذه الغرفة وشَفَّت، إلى درجة الإيهامِ بأنَّها غير موجودة؛ غير أنَّها، في الواقع، موجودةٌ، بل هي ممعنةٌ في وجودها، وكذلك في عزلها لصاحبها عن الآخرين. وقد يخال المرءُ، في هذه الحال، أنَّه على تواصلٍ مع سِواه؛ لكنه قد يكتشف أن لا تواصل ولا وصول. قد يستنبط، هذا المرءُ، بحال من إشراقات الوعي، المؤلِمَ ولكنْ الجميل في آن، إنَّ جدرانه الزجاجيّة هذه، لا تنفكُّ أبداً ساعيةً، للحؤول دون هذين التَّواصل والوصول؛ وإن كانت تُشجّع، باستمرارٍ، على توهُّمٍ فَذٍّ لوجودهما.
«النّاس»، في وجودهم، مرسِلينَ للأدب أو مستقبلين له، يمارسون فعل محاولة اختراقٍ خَلاَّبةٍ لهذه السُّدود الزُّجاجيَّة الصَّافية، التي قد يكون بعضُها رقيقاً قابلاً لبعض اختراقٍ أو لحصولِ بعض تواصلٍ؛ ويكون بعضُها الآخر، على ما في شفافِيَّتِهِ مِن صفاء، ثخيناً غير قابلٍ لأيِّ اختراقٍ أو حصولِ أيِّ تواصل. كلّ هذا يرتبط بتقارب بيئة كلِّ إنسانٍ، في بُعديها الخاصِّ والعام، من بيئة الآخر؛ وكذلك هو الحالُ مع الجماعاتِ، التي، هي أيضاً، تخضعُ لمبدأ الغُرَفِ الزُّجاجيّةِ عينه.
يبدأ الفَرْزُ الظَّاهريُّ، وليس الجوهريُّ على البتَّة، في مجال الأدب؛ على هذا الأساس من التَّفاعِلُ عبر زجاج هذه الغُرَفِ الزُّجاجيَّةِ. ما استطاع النّاس اختراقه، أو الاختراق به، اعتُرفَ بهِ أدباً؛ وما عجزوا عن اختراقه، أو الاختراق به، رُفِضَ من دنيا هؤلاء، ولعلّه أُخْرِجَ من عالم فهمهم للأدب! وهذا، لا يعني، مُطْلَقاً، أن العملَ فاقدٌ لأدبيَّة وجوده، بقدر ما يمكن أن يعني أنَّ هذه الأدبيَّة للوجود إسْتَغْلَقَت على المستقبلين؛ وهنا تنبثق معضلة أساس. فما مِن أحدٍ يُرْسِلُ أدباً، إلاّ ويسعى، عَبْرَ ما يُرْسِلُ، إلى ما يُخَمِّنُ أنَّ فيه قدرةً على خرقِ الحواجز الزُّجاجيّة إياها. والمُرْسِلُ، في فعله هذا، لا يمارسُ سوى حياته؛ التي يرى أنَّها واجبٌ عليه وحقٌّ له. هي واجبٌ عليه، لأنَّه من أبناء الحياة؛ ولا بدَّ له من أن يمارس عيشه في هذه الحياةِ ومن خلالها. وهي حقٌّ له، لأنّهُ طالما يُمارس عيشَهُ، فله أن يُعَبِّرَ عن رأيهِ في هذا العيشِ ويرسمَ، إذا ما قَدَّرَ جمالات ما يعيشهُ أو قبحه أو ما يتحصَّل من هذا العيش من مشاعر وأحاسيس وآمال وخيبات؛ كما له، كذلك، أن يسعى إلى فعلٍ في هذا العيشِ يكون بصمة وجوده الخاصَّة فيه. أفيجوز، تالِيَاً، للآخرين، أن يمنعوه من فعل العيش هذا؛ وأن يمنعوا أنفسهم، كذلك، من محاولة التَّواصل معه؟ بل هل يجوز أنْ يُمعن مُسْتَقْبِل العملِ في أن يعتبر ما لا يفهمه أو ما لا يستطيع اختراقه للتَّواصل معه، خارجاً عن الأدب وفاقداً لنبض الحياة؟!
ليس هذا الموضوع جديداً البتَّة. لقد عاناه، على سبيل المثال، الشَّاعِرُ العربيُّ «أبو تمّام» في العصر العَبَّاسيِّ؛ وعاناه معه النّاس الذين كان يسعى إلى التَّواصل معهم، ويسعون هم إلى التواصل معه. فقالوا له «لمَ لا تقولُ ما يُفْهَم؟»؛ وما كان منه، زمنذاك، إلاّ أن صرخ مفجوعاً «ولم لا تفهمون ما يُقال؟». صرخةٌ تختصرُ مأساةَ الأدبِ والحياة.
مَهامُ النَّقد كثيرةٌ؛ بيد أنَّ الأهمَّ فيها، أن يسعى النَّقد ليكونَ مع المُرْسِلِ والمُسْتَقْبِلِ في محاولة كلِّ منهما للتَّواصل مع بعضهما، عَبْرَ الجُدران الزُّجاجيَّةِ أو اختراقها إن أمكن، أو حتَّى على قدر ما يُمْكِن؛ وإلاّ ظلَّ النّقدُ، أي نقدٍ أدبيٍّ أو سياسيٍّ أو اجتماعيٍّ أو حتَّى عِلْمِيٍّ، فِعْلَ مراقبةٍ وامتحانٍ، كمراقبة شرطةِ الجمارِك الجامدةِ وربما الخشبيَّة النَّاتئة عن جوهرِ الحياةِ، لبعضِ اللُّغةِ ولبعضِ فنونِ البلاغةِ؛ وما شابه ذلك، من تقنيَّات الأدب والسِّياسة والاجتماع والعلوم؛ والتي، على أهميَّتها، ليست الهاجس النِّهائيّ للإنسان، في تعامله مع الأدب خاصَّةً، والعطاء الإنسانيِّ عامَّةً، ومع الحياة. فَهْمُ تلك التِّقنيَّات ومراقبتها من الوسائل في النَّقد؛ أمّا الغاية الرَّائعة من الممارسة النَّقديَّة، فَتَكْمُنُ في اختراقِ الجُدرانِ الزُّجاجِيَّةِ أو في محاولة التَّواصُّل الفِعليِّ الحقيقيِّ من خلالِها.
هذا ما سيكون السَّعي إليه في هذه السِّلسلة.