الدكتور وجيه فانوس
(رئيس ندوة العمل الوطني)
تَعُودُ، مُجَدَّدًا، في هذه الأيّام نغمة الدّعوةِ إلى حوارٍ وطنيّ؛ ترعاهُ رئاسةُ الجمهوريّةِ اللّبنانيّةِ، في القصرِ الرّئاسِيّ في “بعبدا”. فهل ثمّة ما يُمكن أن ينهض، فعلًا، عاملَ نجاحٍ لالتئامِ ناسِ هذه الدّعوة في اجتماعهم؛ وهل ثمّة، تاليًا، مِن عاملٍ آخر، يُساعد على وصولِ هؤلاءِ المجتمعين إلى قرارتٍ تُساهم في إنقاذ الوضع الوطنيّ الرّاهن؛ مِن البؤسِ المُزري، الذي يتخبّطُ فيه اللّبنانيّون؛ على اختلافِ مشاربهم السّياسيّةِ وتعدّدِ مناطقهم الجغرافيّةِ وتجاور مذاهبهم الدّينيّة؟
إنّ المرحلةَ الحاليّةَ، وهذا ما يكشفه واقعُ الحالِ السّياسيّ، هي مرحلةٌ تنهضُ لُغتها الأساسُ على التّنافُسِ، إلى درجةِ التّنافرِ، في سبيلِ الفوزِ بالانتخاباتِ النّيابيّة العتيدة، هذا إِنْ حصلت. وينهضُ منهجُ هذا التّنافسِ، بالعملِ الكؤودِ على شدّ العَصَبِ الطّائفيّ وتهييج الانفعال المذهبيّ واستغلال البُعد المناطقيّ، فضلًا عن تعزيز التّوجّه السّياسيّ الخاصّ بكلّ مجموعة من هؤلاء المتنافسين. وفي هذا، ما لا يترك أيّ مطرحٍ، ولو ضئيلٍ، لاعتماد أيّ حوارٍ، سوى حوار المساومةِ الانتخابيّةِ، بين زعماء اللّوائح وأولئك القائمين على شؤونهم.
أَلَنْ يكونَ هذا الحوار، إذا ما وَجَدَ مَن يستجيبَ له، سوى مسعىً للإلهاءِ؛ في وقتٍ، يعتقده البعض، ضائعًا أو مُسْتَقْطَعًا مِن وجود الأزمةِ المأساويّةِ الكبرى، التي يعيشها اللّبنانيّون قاطبةً؟ واقعُ الحالِ، إنّ اللّبنانيين ما انفكّوا يذوقون مَرار عَلْقَمِ هذه الأزمة الكُبرى، وما برحوا يعيشون ذُلّ نتائجها، في كلِّ لحظةٍ من حاضرهم المقيت.
مِنَ المنطقيّ أنْ يكون الحوار الوطنيّ الموضوعيّ، أساسًا للتّباحث في شؤون هذه الأزمة المُسْتَشْرِسَةِ، وكيفيّات التّعاملِ مع أرزائها وأهوالِ سلبيّاتها، على الوجود الوطنيّ بكليّته. لكن هل مِنَ الزّعاماتِ والقياداتِ السّياسيّةِ، التي لَمْ تعتمد رئاسةُ الجمهوريّةِ، ولَمْ تُقِرّ، سوى دعوتهم، إلى المشاركةِ في أعمالِ طاولةِ الحوارِ الوطنيّ؛ مَن هو مؤهّلٌ حقًّا وقادرٌ فِعلًا، على القيامِ بحوارٍ وطنيٍّ مُجْدٍ وإيجابيّ مع منافسهِ الانتخابيّ، في هذه المرحلة؛ وكلّ مَن في هذه الزّعاماتِ والقياداتِ، يَرقُبُ الآخرَ بنظراتِ حَذَرِ لا يَسْتَبْطِنُ أمانًا؛ ويتعامل معه بمنهجِ الانميازِ عنه، وأساسيّة فاعليّة الإيحاء بالتّفوّق العددي والنّوعي عليه؟ ومِن جهةٍ أخرى، فثمّةَ مِن هذه القياداتِ والزّعاماتِ، مَن لا يَرى في الرّئاسةِ الحاليّةِ للجمهوريّةِ، الحياديّةَ الكافيّةَ لإدارةِ حوارٍ وطنيّ متكافئٍ في ما بينهم.
يُؤكِّدُ المنطقُ العقليّ، كما تُشير حيثيّاتُ الواقعِ التّاريخيّ، أنّ هذه القيادات أو الزّعامات، التي طالما اعتُمِدت مشاركتها، من قِبَلِ رئاسةِ الجمهوريّةِ، أساسًا وطنِيًّا لقيامِ الحوارِ الوطنيّ؛ ليست، في وضعٍ حاليٍّ، يؤهّلها تأمين فاعليّةٍ حواريّةٍ إيجابيّةٍ معطاء، في ما بينها، لا زمانًا ولا مكانًا.
يَبْقى، هَهُنا، ثمّةَ تساؤل افتراضيّ، غير أنّه مُحِقّ وواقِعيّ؛ مَفادُهُ، هل مِن لبنانيّ عاقلٍ وواعٍ وطنيًّا، قولًا وفعلًا، فِكرًا وانفِعالًا، تجرُبةً ومُراقبةً، قد يقبل بمقرّراتٍ، ستوصفُ لَهُ بأنّها وطنيّةً، تتّخذها هذهِ الزّعامات والقيادات؛ إِنْ حصلَ وتوافقوا، في ما بينهم، خلالَ الأسابيعِ المقبلةِ، على تلاقٍ لهم حَوْلَ طاولةِ حِوارٍ، في “قصر بعبدا”، تدعوهم إليها رئاسةُ الجمهوريّة؟!!!
الحوار الوطنيّ الحقيقيّ، المُنتِج والفاعل، هو ما يتحقّق عبر اجتماع الفاعليّات الوطنيّة، ضمن مشروع وطنيّ إنقاذيّ متكامل؛ تدعو ا إليه هيئة تنسيقيّة وطنيّة، قوامها القوى الوطنيّة النّقابيّة والهيئات المجتمعيّة والشّخصيّات المشهود لها بالعلم والعمل الوطنيّين، لتلاقي جميع مكوّنات الشّعب الإنسانيّة على أوراق عمل ورأي ورؤيا. تتولّى هذه الهيئة الوطنيّة التّنسيق بين أوراق العمل المطروحة، وتعمل على التّأهيل لعرضها ونقاشها؛ والوصول، من ثمّ، إلى تحديدٍ واضحٍ لرؤيةٍ وطنيّةٍ جامعةٍ لمساراتِ الوطن وناسه في الآتي مِن الأيّام.
خطّةُ عملٍ تحتاج إلى ثقةٍ وطنيّةٍ ووعيٍ جماعيٍّ وصبرٍ وإيمانٍ شخصيّين، ناهيك بفسحة رحبة من وقت؛ غير أنّها تبقى أكثر فاعليّة وأعظم جدوى مِن أيّ منهجٍ آنيٍّ انفعاليٍّ، لتلاقٍ شكليٍّ؛ لحوارٍ لن يكون سوى مِن نوع سابقيه، من دون ما تقديمِ فائدة وطنيّة نوعيّة جذريّة، لنهوضِ الوطنِ بوحدةٍ وطنيّةٍ حقيقيّةٍ.